ديزموند مبيلو توتو، الذي توفي في 26 كانون الأول عن عمر 90 عاماً، هو الوجه الأكثر وضوحاً للحركة المناهضة للفصل العنصري في جنوب أفريقيا خلال فترة الثمانينيات المضطربة. بحلول وقت وفاته، كان قد أصبح أحد أكثر الشخصيات المحبوبة في العالم، وقد اشتهر بدفئه ومرحه وقدرته الخارقة على السحر والتفاعل بشكل علني مع كل شخص قابله تقريباً.ولد في 7 تشرين الأول 1931 في مدينة كليركسدورب الشهيرة المنجمية. والده كان يعمل مدرّساً وأمّه عاملة منزلية. استقرّت عائلته في بلدة مونسييفيل الغربية في أواخر الأربعينيات. انتقل توتو في فترة المراهقة إلى جوهانسبرغ حيث أصبح خادماً في كنيسة المسيح في صوفياتاون.
بعد تخرّجه من مدرسة «جوهانسبرغ بانتو» الثانوية، أراد أن يصبح طبيباً وحصل على قبول في كلية الطب بجامعة ويتواترسراند. ومع ذلك، وبسبب رسوم الكلية الباهظة، حصل بدلاً من ذلك على منحة حكومية للدراسة في كلية المعلمين ببريتوريا في عام 1951، حيث التقى للمرّة الأولى بالمحامي الشاب نيلسون مانديلا، وكان روبرت موغابي رئيس زيمبابوي السابق زميله في الكلية. التقي أيضاً بروبرت سوبوكوي مؤسّس حزب مؤتمر عموم أفريقيا لأزانيا (PAC)، والذي اعتقل في عام 1960، وقضى بقيّة حياته في السجن. سوبوكوي ساهم بشكل كبير في تنمية وعي توتو النضالي ضد سياسات نظام الأبارتايد.
بعد تخرّج توتو عام 1954، عاد مرة أخرى إلى جوهانسبرغ وتولى منصب مدرّس للغة الإنكليزية في مدرسة مادبان الثانوية. في عام 1955، انتقل إلى مدرسة Krugersdorp الثانوية لتدريس اللغة الإنكليزية والتاريخ. خلال هذا الوقت، بدأ مغازلة مع نوماليزو ليا شنكسان، صديقة أخته غلوريا. تزوّجا في تموز 1955، واستقرّا في مونسيفيل حيث ولد ابنهما الأوّل.

من معلّم إلى واعظ
في عام 1955، بعد تقديم حكومة الفصل العنصري قانون تقليص تعليم لغة البانتو، قرّر توتو أنه لا يستطيع المشاركة في نظام مصمّم للتضييق «ثقافياً، فكرياً» على السود واستقال من التدريس. نظر توتو إلى الكنيسة على أنها أحد الخيارات القليلة التي لا تزال متاحة للرجال السود المتعلّمين من جيله. لهذا في عام 1956 قدّم في كلية القديس بطرس اللاهوتية في روزيتينفيل، جوهانسبرغ، للحصول على درجة علميّة في اللاهوت.
تزامن الوقت الذي أمضاه توتو في سانت بطرس مع زيادة القمع من قبل حكومة الفصل العنصري والاحتجاجات الشديدة ضدّها، وبلغت ذروتها في مذبحة شاربفيل في عام 1960. وعلى الرغم من صدمته من الأحداث، فقد ظل هو وزملاؤه منعزلين، ولم يشاركوا في الأنشطة المناهضة للفصل العنصري.
في كانون الأول 1960، أصبح توتو كاهناً. كان أوّل منصب له في الكنيسة مساعد قيِّم في أبرشية سانت ألبان في بينوني. بعد قبوله لمواصلة دراساته اللاهوتية في كينغز كوليدج بلندن، غادر توتو وعائلته إلى إنكلترا في أيلول 1962. وقد تلقى الدعم من المؤسسة البيضاء للكنيسة الأنغليكانية، التي أدركت أهمية تأمين مناصب السلطة داخل الكنيسة لأعضائها السود من أجل احتواء أي حراك احتجاجي في المستعمرات. أثناء إكماله الماجستير. شغل توتو منصب مساعد أمين في كنيسة في أحد أحياء لندن الفقيرة. هناك لاحظ بشكل كبير الانقسامات العرقية التي لها انعكاسات طبقية في المجتمع البريطاني.
بعد أربع سنوات، في عام 1967، عاد إلى جنوب أفريقيا، حيث تولّى منصباً تدريسياً في المدرسة اللاهوتية الفيدرالية (Fedsem) في منطقة لكاب الشرقية. هناك أصبح توتو مؤيّداً مرئياً لحركة الوعي الأسود الوليدة بقيادة ستيف بيكو. بدأ وعي توتو السياسي بالتحرّك، ولكن انغماسه الكامل في النشاط المناهض للفصل العنصري ظهر في عام 1970 عند توليه مناصب تدريسية في جامعات ببوتسوانا وليسوتو وسوازيلاند.
في عام 1972، غادر توتو مرة أخرى إلى إنكلترا، حيث بدأ وظيفة جديدة كمدير أفريقي لصندوق التعليم اللاهوتي، وهو الهيئة التي موّلت إنشاء Fedsem وساعدت في دفع تكاليف دراسته في «كينغز كوليدج». كجزء من عمله، أمضى توتو معظم وقته في السفر إلى الدول المستقلة حديثاً في أفريقيا جنوب الصحراء. لقد رأى الآثار الكارثية لدكتاتورية موبوتو سيسي سيكو في زائير (الكونغو الديموقراطية). تأثّر توتو بحكومة جومو كينياتا في كينيا، حتى انتحل منه مقولة «عندما جاءت الحملات التبشيرية لأفريقيا، كانوا هم يحملون الإنجيل ونحن نملك الأرض، فقالوا «لنصلّي»، فأغمضنا أعيننا وعندما فتحناها كنا نحن نحمل الإنجيل وهم يملكون الأرض». وروّعه طرد عيدي أمين للآسيويين الأوغنديين، كما أعرب عن قلقه مما اعتبره استياء الإيغبو المتزايد في نيجيريا في أعقاب حرب بيافران. أثّرت رحلاته الأفريقية في رؤيته لجنوب أفريقيا ما بعد الفصل العنصري وساعدت أيضاً بشكل كبير في تشكيل وجهات نظره اللاهوتية.

توتو والارتفاع في التسلسل الهرمي الأنغليكاني
في عام 1975، عاد توتو إلى جوهانسبرغ، حيث تم تعيينه كأوّل معمِّد أسود أنغليكاني للمدينة. اتخذ أولى خطواته العامة المهمّة ليصبح شخصية بارزة في الحركة المناهضة للفصل العنصري. رفض توتو العيش في المنزل الرسمي للمعمِّد، ظل في سويتو.
أثناء اندلاع انتفاضة سويتو كان منزعجاً بشدة لقتل الأطفال السود على يد نظام الأبارتايد. كتب رسالة إلى الاستعماري بالتازار يوهانس فورستر، رئيس الوزراء، يحذّره من «إراقة الدماء والعنف في جنوب أفريقيا». رفض فورستر رسالة توتو ووصفها بأنها دعاية هندستها حركة الوعي الأسود.
انتقد بشدّة تصرفات الاحتلال الصهيوني، حيث أكد أن ما يتعرّض له الفلسطينيون يشبه بكثير ما كان يحدث لذوي البشرة السوداء في جنوب أفريقيا


عندما تم ترشيحه لمنصب أسقف ليسوتو بعد أسابيع فقط من انتفاضات سويتو، ناشدته العديد من الكوادر المناهضة للفصل العنصري، بما في ذلك ويني مانديلا، للبقاء في جوهانسبرغ، ولكن اعتقاداً منه بأن البقاء سوف يكون غير عادل لأولئك الذين انتخبوه، قبل توتو الترشيح وعاد إلى ليسوتو. لكنه عاد إلى جنوب أفريقيا لفترة وجيزة في عام 1977 لإلقاء خطاب في جنازة ستيف بيكو.
في عام 1978، عاد توتو إلى جوهانسبرغ لرئاسة مجلس الكنائس في جنوب أفريقيا حيث ساعد في اصطفاف أكبر مؤسسة ذات غالبية سوداء معترف بها قانونياً في البلاد ضد الأبارتايد. دعا علناً إلى إطلاق سراح نيلسون مانديلا، وتحدّث علناً ضد سياسات الفصل العنصري.
مع مرور الوقت، أصبح توتو «العدو العام الأوّل» للعديد من البيض في جنوب أفريقيا وحكومة الفصل العنصري، وتلقّى رسائل كراهية وتهديدات بالقتل من متطرّفين يمينيين. أطلق عليه لقب «القس الشيوعي»، ثم أسّس مع زميل الإكليروس، الخطيب الناري والناشط المناهض للفصل العنصري آلان بوساك، الجبهة الديموقراطية المتحدة لمناهضة الفصل العنصري في عام 1983.

الفوز بجائزة نوبل
ظل توتو غير منحاز سياسياً، متجنباً العضوية الرسمية في أي حزب. واصل السفر على نطاق واسع والاجتماع برؤساء الدول للمطالبة بفرض عقوبات على نظام الأبارتايد. في عام 1984، كان توتو في نيويورك عندما أُبلغ بأنه حصل على جائزة نوبل للسلام. استقبلت وسائل الإعلام في جنوب أفريقيا الأخبار بضجة قليلة، عند عودة توتو إلى جوهانسبرغ بعد بضعة أيام، استقبله حشد كبير من السود على رغم التحذيرات والتضييق الأمني.
في العام التالي، تم انتخابه كأوّل رئيس أساقفة أسود في جوهانسبرغ. أمضى سنة واحدة فقط في جوهانسبرغ قبل أن يتم تعيينه رئيس أساقفة كيب تاون. حضر حفل تنصيبه في كاتدرائية سانت جورج، في أيلول 1986، 1300 شخص من بينهم كوريتا سكوت كينغ وهاري بيلافونتي وستيفي وندر وإدوارد كينيدي.
جنباً إلى جنب مع بوساك ورئيس الأساقفة الروم الكاثوليك ستيفن نايدو، أصبح توتو جزءاً من مجموعة قوية من رجال الدين الذين وجدوا أنفسهم يخدمون دور الوساطة بين المتظاهرين وقوات الأمن الحكومية. ومن خلال جهودهم، تم تجنّب الاشتباكات القاتلة في جنازة عام 1987 للناشطة المقتولة آشلي كرييل، وحلّت خدمة الكنيسة في كاتدرائية سانت جورج محل مسيرة احتجاج محظورة قام بها النشطاء في عام 1988.
أثارت إجراءات توتو وزملائه قادة الكنيسة غضبَ الرئيس بي دبليو بوتا، الذي اتهم توتو بالاختباء وراء «هياكل وأقمشة الكنيسة المسيحية» من أجل تعزيز «المثل الماركسية لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي وحزب العدالة والسلام».
عندما أصبح فريديريك ويليم دي كليرك، رئيساً لجنوب أفريقيا في عام 1989، كانت صورة توتو كبيرة جداً لدرجة أنه عندما نظّم هو وزعماء الكنيسة الآخرين مسيرة قوامها 30 ألف فرد لإنهاء الفصل العنصري، لم يكن باستطاعة الرئيس الجديد فعل الكثير سوى منح الإذن. على رغم أن توتو أوّل من أطلق شعار أمّة قوس قزح «جنوب أفريقيا متعددة الأجناس»، لكنه لم يكن مطلعاً على المفاوضات التي أجريت وراء الكواليس والتي أدت إلى إطلاق سراح مانديلا من السجن في شباط 1990.

الحياة في ظل الديموقراطية التمثيلية
عندما كان من المقرّر تنصيب مانديلا كأوّل رئيس منتخب ديموقراطياً لجنوب أفريقيا في 10 أيار 1994، توجّه إلى توتو لإعداد البرنامج الديني للحدث. أصر توتو على أن يتم منح البركات من قبل رجال الديانات المسيحية واليهودية والمسلمة والهندوسية. كان توتو قد خطط للتقاعد بعد انتهاء فترة توليه منصب رئيس الأساقفة في عام 1996، لكن قد اختاره مانديلا لرئاسة «لجنة الحقيقة والمصالحة» (TRC) في عام 1995.
توتو كان يرى أن اللجنة لم يكن اهتمامها الأساسي «القصاص أو العقوبة» لمن تلطّخت أيديهم بدماء السود أثناء فترات الأبارتايد، ولكن بروح أوبونتو معالجة الانتهاكات، وتصحيح الاختلالات، واستعادة العلاقات المحطمة.
بينما كانت «لجنة الحقيقة والمصالحة» لا تزال منعقدة في عام 1997، تم تشخيص إصابة توتو بسرطان البروستاتا. ظل في المستشفى لمدة ستة أسابيع قبل أن يعود إلى اللجنة ويشرف على عملها حتى سلّمت تقريرها النهائي إلى مانديلا في عام 1999.
هاجم توتو الساسة البيض السابقين لجنوب أفريقيا متّهماً إيّاهم بالكذب على اللجنة. في 2005، أعرب توتو عن ندمه على عدم محاكمة من لم يطلب العفو، حيث قال إن اللجنة كان عليها محاكمة مقترفي جرائم عهد التمييز العنصري، الذين لم يطلبوا العفو أمام اللجنة. واعتبر توتو أن الضحايا لم يتلقّوا تعويضات مناسبة، بخاصة أن أولئك الذين شهدوا أمام اللجنة تخلّوا عن حقّهم في المطالبة بتعويضات أمام القضاء.
ويذكر أن الحكومة لم تبدأ في دفع التعويضات للضحايا حتى كانون الأول 2003، أي بعد الجلسات العلنية للجنة بخمس سنوات. وقد خصّصت الحكومة مبلغ 660 مليون راند لـ22 ألف ضحية، مقارنة بالثلاثة مليارات التي أوصت بها اللجنة. اعترف توتو مرة أخرى بأن العملية بها عيوبها. وانتقد فشل حكومة حزب «المؤتمر الوطني الأفريقي» في إدراك أن لجنة الحقيقة والمصالحة هي «بداية وليست نهاية».
بعد اللجنة، واصل توتو استخدام منصته العامة لزيادة الوعي بالسرطان، وانتقاد موقف الكنيسة الأنغليكانية تجاه المثلية الجنسية، والاعتراض على اضطهاد الفلسطينيين.

التضامن مع فلسطين
انتقد بشدّة تصرفات الاحتلال الصهيوني، حيث أكد أن ما يتعرّض له الفلسطينيون يشبه بكثير ما كان يحدث لذوي البشرة السوداء في جنوب أفريقيا، وقال: «عندما ذهبت إلى الأراضي المحتلة قد رأيت ما يتعرّض له الفلسطينيون من مهانة عند نقاط التفتيش والحواجز، وما يعانونه مما كنا نحن نعانيه عندما كان ضباط البيض يقيّدون حركتنا ويمنعوننا من التنقل من مكان إلى آخر». وفي آخر تصريحات توتو، تجاه القضية الفلسطينية، دعا الرئيس الأميركي جو بايدن، إلى عدم التستر على الأسلحة النووية الإسرائيلية السرّية، مطالباً الإدارة الأميركية بوقف الكمّيات الهائلة من المساعدات التي تقدّمها بلاده إلى إسرائيل التي «تمارس القهر ضد الفلسطينيين».
أيضاً انتقد بشكل قوي السياسات النيوليبرالية التي انتهجتها حكومة حزب «المؤتمر الوطني الأفريقي».
خلال السنوات الأخيرة من حياته، كان توتو بعيداً من الأضواء العامة حيث تدهورت صحته، لكنه نجح في ظهور علني نادر في تجمّع صغير مقيّد للاحتفال بعيد ميلاده التسعين الذي عقد في وقت سابق من هذا العام في كاتدرائية سانت جورج. تحدّث فيه عن أمنياته ليرى عالماً خالياً من الظلم والاضطهاد والفقر والحروب.
توتو وغيره من رجال الدين في أفريقيا لم تلتفت إليهم السجلات التاريخية، وهم الذين امتلكوا الصلابة لاعتبارات مصلحة قضية منحوها أعمارهم سجناً ونفياً، من دون أن يخطر على بالهم التنازع على سلطة حان وقت الصعود إليها. في الأيام الأولى من العام الجديد لنتذكّر بكل امتنان واحترام صرخته الأخيرة: «أرجوكم ضعوا حدّاً للظلم، أفشوا السلام والعدالة».
* باحث وكاتب مهتم بالشؤون الأفريقية

مراجع:
- «Rabble-Rouser for Peace: The Authorized Biography of Desmond Tutu»
by John Allen
- God Is Not a Christian» by Desmond Tutu».
- «The Words of Desmond Tutu: Second Edition»
by Desmond Tutu and Naomi Tutu
- «Believe: The Words and Inspiration of Desmond Tutu»
by Blue Mountain Arts Collection
-«I Write What I Like: Selected Writings»
by Steve Biko