منذ قرابة الشهرين أجرت قناة «mbc» في إحدى فلل الرياض لقاءً مطولاً مع علي البخيتي، حيث سأله المذيع السعودي عن لقاءاته السابقة بزعيم حركة «أنصار الله» عبد الملك الحوثي. ليسرد البخيتي، وهو عملياً العضو السابق في الحركة قبل انشقاقه متحوّلاً، بتعبيره، إلى تسلّم هدايا الريال السعودي في مقابل استشارات تفاصيل جلساته. أثناء سرده، سأله المذيع: «هل رصدت تواجداً إيرانياً؟»، يجيب بالنفي، إلا أن المذيع السعودي أكمل سائلاً: «ولكن، وعلى الأقل، ألم يكن لديهم مستشارون من غير اليمنيين؟».هنا تحديداً جوهر المغالطة السعودية طوال سني العدوان. حيث يستحيل على العقل السعودي استيعاب أن مخاضات الحرب التي يشنّها هي ضد يمنيين بمقدّرات بشرية ومادية يمنية، وتحشد وتقاتل لأسباب ذاتية متعلّقة بأرضها وشعبها، وتكيّف أدواتها الثقافية من نشيد وشعر وخطاب لاستمالة الشخصية والهوية اليمنية. وللمسألة هنا بعدان:
الأوّل، وبشكل تتقاطع فيه عقليّات الأميركيين والصهاينة والسعوديين، فبذات النفس الاستشراقي يرون الفاعلين السياسيين العرب من أفراد وجماعات بأنهم قصّر سياسياً وأن جوهر المشكلة في المنطقة هو إيران. وعليه، يكون التخلّص منها بشكل آلي إنهاءً لـ«جماعاتها»، بكل ما تحمل هذه النظرة من نزع للسياقات التاريخية. وكأنه ليس هنالك للمواطن العربي أسباب موضوعية ليقوم ويتحرّك كفاعل سياسي حماية لمصالحه أو تحقيقاً لأهدافه. التاريخ العربي هنا من منظور هؤلاء بدأ عام 1979، وقبله انعدمت أي أسباب سياسية ولم تكن هنالك حرب وصراع في اليمن في الستينيات، ولم يكن العربي يقاوم حين كانت السفارة الإسرائيلية في قلب طهران.

جمع النقيضين: الميليشيا والهزيمة
البُعد الآخر، مخصوص في الحالة اليمنية، وفي كون أن الخطاب السعودي كان ولا يزال استعلائياً على اليمن واليمنيين، وسيظل كذلك لأسباب تتعلّق في أنّ تعريف الهوية السعودية لذاتها يعتمد على ديمومة التصوّر الدوني لليمني. يردّد الخطاب السعودي سردية أنه يخوض حرباً ضد ميليشيات وعصابات خارجة على الدولة، وفي نفس الوقت، هو، ولطوال هذه السنين، لم يسجل نصراً عليها رغم أنه في هذه المعادلة يجسّد طرف «الدولة». بكلمات أخرى، الطرف الناضج العقلاني المتنوّر في مقابل الطرف الهمجي والظلامي والفوضوي. وهذا تحديداً ما أوقع السعوديين في معضلة، حيث إن صورتهم تتصدّع في نهاية المطاف وتنتهي بأنهم هُزموا من قبل ميليشيات وفقراء حفاة و«أبو يمن» الذي يخزّن القات.
وعليه، فإن أمام السعوديين مهمّة مستحيلة سيتّخذون أي سبيل لإثباتها بشكل سيجعلهم حرفياً وباللهجة المحلية «يجيبوا العيد». وهذه المهمة هي إثبات بأننا لا نقاتل اليمنيين بل نقاتل «الفرس» والإيرانيين وحزب الله (بالمناسبة: الحزب بذاته في العقل السعودي كان مغامراً ومتحمّساً ولم يكن ليكتسب هذه الهالة لولا نصر تموز). فهم الذين يرسلون الصواريخ والمسيّرات ويقودون المعارك، لا اليمنيون، ومن هنا تلبس الحرب في العقل المتكبّر السعودي نوعاً من «التكافؤ»، مع إبقاءٍ على دونية الشخصية اليمنية.
إن محاولة الجمع هذه هاجس وديدن السعوديين اليوم، وبشكل ينعكس مع تعاملهم «الإستراتيجي» العام مع الحرب. ففي الأسابيع الأخيرة شهد المشهد السعودي صعوداً في إعادة استحضار الحرب بعد أشهر وأشهر من التهميش ومحاولة إشغال الرأي العام عنها وتناسيها. وذلك مع دخول السعوديين في أزمة، خصوصاً في علاقتهم مع الأميركيين، وهيمنة خطاب البكائيات لـ«المجتمع الدولي» جرّاء الأعمال القتالية لـ«الميليشيات الحوثية الإيرانية». حيث كان الغرور السعودي مضروباً على رأسه، سواء بسبب الهزائم على الأرض في الجبهات أو شلل الطيران السعودي من شنّ هجمات انتقامية على صنعاء خوفاً من عمليات «توازن الردع» للسلاح الصاروخي والمسيّر أو عمليات ما وراء الحدود ومشاهدها المصوّرة. والأخيرة هي الحقيقة المؤلمة لأي عربي حين يرى التنكيل بالجنود الفقراء من السعوديين وهروبهم من مواقعهم، في حرب الناقة فيها لقاطني القصور من أمراء آل سعود والجمل فيها لشركات صناعة الأسلحة الأميركية والبريطانية ونخبتها الحاكمة.

السعودية عظمى من جديد
عدة عوامل تضافرت لإعادة السعوديين زخم الحرب والتركيز عليها، وتعود معها سرديات العظمة السعودية. أول العوامل، ما يبدو عليه حلاً سعودياً لمعضلة عدد بطاريات الباتريوت وذخيرتها وسماح الأميركيين لهم برفد المخزون كما كشفت الصحافة الغربية، فيما طلب السعوديون أيضاً من القطريين تزويدهم بها. وبشكل عمل إلى حد كبير على تحييد أثر العمليات الصاروخية اليمنية خصوصاً على العاصمة الرياض. والأمر الآخر أيضاً يتعلّق بقطر وتغيّر السياسة الإعلامية للإعلام القطري وتحديداً قناة «الجزيرة» تجاه تغطية عمليات التحالف الذي عاد «عربياً» بعد أن كان «سعودياً إماراتياً» إبّان الأزمة الخليجية. يضاف إلى أسباب هذه الحماسة السعودية هو تصاعد الدور الغربي (أميركي وبريطاني)، سواء العسكري المباشر في مأرب أم اللوجستي، والذي أعطى دفعة جديدة لأوهام تغيير قواعد اللعبة أو خريطة المعركة ككل. في الحديث عن دور الأميركيين والإنكليز المسألة تتعدّى أن الأخيرين يشكّلان أكبر تجار سلاح في هذه الحرب، فللإنكليز أطماع أخرى تتعلّق باستغلال الوضع في اليمن كإشارة إلى رجوع البريطانيين كفاعل استعماري في المنطقة وكنوع من إسقاط القوة «Projection of Power» بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وهذا ما انعكس مع تكثيف السعوديين اعتداءاتهم العبثية على صنعاء، حين أمِنوا عقاب الرد اليمني، وكان ذلك في أبجح صوره في الرابع والعشرين من الشهر الجاري، حين أمهل السعوديون اليمنيين ست ساعات «لإخراج الأسلحة» من ملعب الثورة. وبعد انقضاء المهلة قصف السعوديون مناطق متفرقة، منها شارع من أمام أحد المستشفيات، معلنين أنهم استهدفوا قافلة نقل الأسلحة استكمالاً للمسرحية الهزلية.
تعيدنا هذه الواقعة إلى التكبّر السعودي الذي تحدّثنا عنه، فأهالي صنعاء، سواء المريدون لـ«أنصار الله» أم لا، يعلمون عدم وجود أسلحة في ملعب الثورة، بل إن وسائل الإعلام اليمنية ذهبت وأثناء المهلة وصوّرت الملعب. وعليه، سيكون الأثر الشعبي لمثل هذه الأفعال، كالمئات مثلها منذ بدء الحرب، ضرراً على مريدي العدوان ومرتزقته. ولكنّ النقطة هنا أن السعوديين واعون لهذا الأثر لكنهم لم يهتموا بالأصل.
وهذا ما يدلل أن السعوديين ليسوا بوارد الاهتمام بالآثار الشعبية لأفعالهم، لدى وعلى الشعب اليمني. ومن هنا فعندما نسِم العقلية السعودية الحاكمة بالصبيانة والمراهقة فهي ليست نعوتاً من باب المناكفة أو التوهين، فهم حقيقة تقودهم نزعات صبيانية وحس انتقامي عنصري. وهذا ما يجعل المرتزق اليمني من الأسوأ في التاريخ، فأقل معايير العمالة للخارج أن الأصيل يقدّم قدراً ولو شكلياً من الاعتبار للوكيل والمتعاون معه ولسبب عقلاني وهو الحفاظ على متانة سردية وجبهة العملاء معه. ولكنّ المرتزقة اليمنيين يرون أن السعوديين لا يقيمون وزناً لهم أو لمدنهم وقراهم. والمفارقة هنا أنه لم يصف حالهم هذا أحد كما فعل شاعر اليمن الكبير عبدالله البردوني، إذ خطاب هؤلاء لأمير النفط هو «نعم يا سيّد الأذناب إنّا خير أذنابك»!
بمنظور سعودي كان كل الغرض من العملية، وبشكل احتفالي على وسائل التواصل، إعادة هزليّة للذات العظمى السعودية المجروحة. الغاية هي استهداف الغريزة الوطنية السعودية للشبكات الاجتماعية المرتبطة بالسلطة ومصالحها. أي أنه على الأرض لم يغيّر ذلك شيئاً على الإطلاق بل دفع بالحرب إلى مرحلة جديدة.

2022 عام الـ«تيت»
خلال العدوان الأميركي على فيتنام، وتحديداً مع الاحتفالات بقدوم العام الفيتنامي التقليدي «تيت» بداية عام 1968، شنّ الفيتناميّون هجوماً مباغتاً على مواقع الأميركيين ومرتزقتهم في عمق الجنوب الفيتنامي. وقد كانت فكرة والهدف الإستراتيجي للقائد الفذّ فون نجوين جياب هي أن مسار الحرب بدأ يدخل نوعاً من الركود، وكان على الفيتناميين المبادرة وكسره. والهدف الآخر أنه لم توجد للفيتناميين طريقة لردع القصف الجوي الأميركي على مدن الشمال سوى التقدّم على الأرض واختراق أرضيّ العدو.
وبشكل شبيه في اليمن، عمل اليمنيون على المزاوجة بين الرد الصاروخي والمسيّر مع عمليّات ما وراء الحدود. ففي ذات يوم استهداف العاصمة صنعاء تحت حجة الأسلحة المخزّنة في ملعب الثورة كان اليمنيون قد اخترقوا الحدود قبالة جيزان رداً على قصف صنعاء في اليوم الذي سبقه. وقاموا بالهجوم على مواقع الجنود السودانيين المرابطين لحماية السعودية، ومن ثم نشر تصوير العمليّة.
إن التصعيد السعودي الاعتباطي ومحاولة كسر معادلة ردع حماية صنعاء سيؤديان إلى اتخاذ اليمنيين تصعيداً مقابلاً مع تكثيف المزاوجة بين تطوير القدرة الصاروخية والمسيّرة مع اختراق الحدود ونشر تصويرها وهو نشر يراعي اليمنيون توقيته وبل يفاوضون السعوديين مقابل التحفّظ على نشره.
بمنظور سعودي كان كل الغرض من العملية، وبشكل احتفالي على وسائل التواصل، إعادة هزليّة للذات العظمى السعودية المجروحة


في الأخير تتبنى هذه «الميليشيات» سياسات مرنة وفي غاية البراغماتية والحس الوطني والأخذ في الاعتبار السياقات اليمنية، وبل حتى القبلية جنوب السعودية، سواء استغلالهم لعملية اعتقال قوات العدوان مجموعة من النساء في مأرب بتهمة «التجسس لمصلحة الحوثي»، أو كيفية تعاملهم مع مجزرة آل سبيعان وحرصهم على تبيان اهتمامهم بالقبيلة والعادات القبلية. وهذا ما ظهر في استمالتهم الانقسامات القبلية في مأرب ولقاء قائد «أنصار الله» لأعيان قبيلة مراد ثاني أكبر وأبرز قبائل مأرب.
لم تؤدّ عاصفة الهزل السعودي وخطابها وسياساتها سوى إلى توسيع دائرة المصطفّين خلف التحالف المناهض للعدوان من جمهور وتيارات. فرغم سني الحرب والحصار وصعوبتها تبقى خارطة الانقسامات اليمنية هي في جوهرها ذاتها ما قبل الحرب، من مراكز قوى تقليدية في النظام القديم على رأسها «الإخوان المسلمون» وآل الأحمر، تدعمهم السعودية، مع تفجّر للهوة بين الشمال والجنوب الذي لطالما عانى التهميش، ليأتي الإماراتيون ويستغلوا ذلك لمصالحهم.
إلا أن المسألة هنا هي الرهان على أي طرف يملك من الحنكة والمرونة بشكل يمكّنه فتح شرخ في هذه الاصطفافات بالمعنى العسكري وكذلك الاجتماعي. في المشهد المفبرك والمثير للشفقة الذي نشره السعوديون عن وجود دور قيادي لحزب الله في اليمن، اختار السعوديون صورة لأبي علي الحاكم ووضعوها بداية التسجيل. الصورة كانت من تجمّع حضره الحاكم مع جمع قبائلي في الجوف، في لقاء أريد منه رد الاعتبار والتأكيد على قيم القبيلة والاعتداد بشيوخها. ففي حين ينشر السعوديون فيديو لغير يمنيين يراد بهم تصويرهم بأنهم يقودون الحرب، ترى على الأرض الأطراف الموالية للسعودية أن الجبهة المقابلة لها مقاتلوها يمنيون «بجنبياتهم» وأسلحتهم ولباسهم يأتون من سياق وأعراف البلاد. وهنا مكمن رهان المنتصر. وبالحديث عن المنتصر، وإن كان من الصعب الإيمان باعتباطية الصدف، لكنّ الصورة المختارة للحاكم في التسجيل كان يقول فيها ضارباً بيده على سلاحه مشيراً إلى السعوديين ومرتزقتهم بأنهم «لن يشبعوا إلا مما في بطونها»!

* كاتب عربي