يواصل النائب العربي في الكنيست الإسرائيلي، منصور عباس، اتخاذ مواقف متماهية مع أقصى اليمين العنصري الصهيوني. وآخرها كان دور «الحركة الإسلامية» التي يتزعّمها (واسمها الرسمي في الكنيست: «القائمة العربية المُوحّدة») في تمرير مشروع قانونين طرحتهما الحكومة اليمينية. صوّت عباس وكتلته معهما ما أدى إلى نجاح التصويت بنسبة 56:54؛ أي أن تصويت عباس وقائمته (أربعة نواب) كان حاسماً ورجّح كفة القانونين.يتعلّق القانون الأوّل منهما بالسجون الإسرائيلية ويسمح بتعزيزها بجنود من الجيش. أمّا الثاني، فيسمح للجيش الإسرائيلي بإرسال وحدات منه لدعم الشرطة وقوات الأمن وتعزيزها من أجل «الأهداف الأمنية القومية». واضح من القانونين أن الشرطة الإسرائيلية تمرّ بأزمة نقص كوادر وتواجه صعوبات حقيقية في التصدّي للفلسطينيين، ما يدفعها لطلب العون من الجيش. والترجمة العملية لهذين القانونين هي أن الجيش الإسرائيلي سوف يشارك مباشرة في قمع التظاهرات الاحتجاجية التي يقوم بها العرب في أراضي الــ48، مثلما حصل قبل بضعة أشهر في اللد وغيرها من المدن التي غالبيتها عربية، وأيضاً ستشارك قوات من الجيش في قمع الأسرى السياسيين الفلسطينيين في سجون الاحتلال. ومنصور عباس طبعاً يعرف ذلك تمام المعرفة.
كانت لمنصور عباس وكتلته مواقف سابقة في منتهى السوء. نلخّصها كما يلي:
- الموافقة على الميزانية العامة التي قدّمتها الحكومة والتي تتضمّن أموالاً إضافية لتعزيز الاستيطان وتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية وحماية المستوطنين.
- انضم منصور عباس إلى نواب أقصى اليمين الإسرائيلي في الدفاع عن إرهاب المستوطنين، في أعقاب أقوال وزير الأمن الداخلي عومير بار ليف (قالها خلال اجتماعه مع نائبة وزير الخارجية الأميركي)، حول اهتمام الحكومة بـ«ظاهرة عنف المستوطنين». فقد استنكر عباس، خلال مقابلة مع الإذاعة العامّة الإسرائيلية، أقوال بار ليف، واعتبر أنه «يحظر التعميم تجاه أي جمهور، لا المستوطنين ولا الحريديين (اليهود المتدينين) ولا العرب». أي أن عباس يزاود على وزير الداخلية في حرصه على «سمعة» المستوطنين!
- وصف الأسرى الفلسطينيين بالإرهابيين والمخرّبين. فقد صرّح للقناة 12 الإسرائيلية قائلاً: «وضعُ منصور عباس في خانة الداعم للإرهاب، أو في خانة من يُعانق مخرّبين، كما يحاولون تصويري – هذا لم يحدث على الإطلاق». وأضاف: «من نشر أنباء حول زيارتي للسجن ولقائي بمخرّبين ومعانقتي لهم، هذا غير صحيح على الإطلاق».
- وطبعاً موقفه الأشهر، والأسوأ، كان حين تبنّى قانون القومية اليهودية العنصري، عندما قال إن «الشعب اليهودي قرّر أن يقيم دولة يهودية. هكذا وُلدت وهكذا ستبقى»، مضيفاً: «نحن واقعيّون، ولا أريد أن أوهم أي أحد، والسؤال ليس ما هي هوية الدولة وإنما ما هي مكانة المواطن العربي فيها».
واضح تماماً من هذه المواقف أن «الإسلامي» منصور عباس قد اختار نهائياً الانصهار في بوتقة تحالف صهيوني يميني متطرّف. وهذا أمر غريب جدّاً على شخص يصف نفسه بـ«الإسلامي» ويحرص على نشر صور له على سجادة الصلاة. فكيف يبرّر هو ذلك؟
كلمة واحدة، وباختصار، البراغماتية. يقول عباس إنه هو وقائمته خاضا الانتخابات على أساس برنامج يهدف إلى خدمة المجتمع العربي في «إسرائيل» وتحسين أحواله. ولذلك فهو لا يمانع التعاون مع أي معسكر يشكّل حكومة الاحتلال، شرط التجاوب مع مطالب قائمته الخدماتية. وفي انتقاد مباشر للأحزاب العربية الأخرى، قال عباس مرّة: «الطريق التي سلكوها ويسلكونها كما لم تأت بشيء بالسياسة فلم ولن تأتي بشيء لا بالانتخابات ولا في المستقبل القريب»، مستطرداً: «يدنا ممدودة لكل أبناء مجتمعنا العربي، نخرج من التقديس لأفكار بالية وشعارات خرقاء لا تخدم مشروعاً ولا تخدم مجتمعاً وإنما في كل مرة يتحقق الهدف المعاكس لذلك».
أي أنه بالنسبة إلى عباس يصبح الكفاح الوطني الفلسطيني ومواجهة الصهيونية... كل ذلك مجرّد «أفكار بالية وشعارات خرقاء»!
ولكن، إيديولوجياً، كيف يفسّر عباس مواقفه كـ«إسلامي»؟
لا بد من العودة إلى الخلفية الفكرية لـ«الحركة الإسلامية في إسرائيل» التي هو من أبنائها. فقد أسّسها في بداية سبعينيات القرن الماضي الشيخ عبدالله نمر درويش، مستلهماً أفكار ومبادئ جماعة «الإخوان المسلمين». لم تكن في الحقيقة فرعاً تنظيمياً تابعاً لـ«الإخوان»، ولكن تسير في خيمتها فكرياً وتتبع منهاجها في الدعوة المجتمعية بأساليبها المعروفة. وفي التسعينيات، تراكمت الخلافات وتفجّرت بين تيارين داخل الحركة على خلفية عدة قضايا مهمة منها الموقف من اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير وإسرائيل، وكذلك الموقف من المشاركة في انتخابات الكنيست. وانتهت الأمور إلى انشقاقها إلى جناحين: واحد «معتدل» مؤيد لاتفاقية أوسلو وللمشاركة في انتخابات الكنيست، وكان على رأسه الشيخ المؤسس عبدالله نمر درويش، تحت مسمّى «الحركة الإسلامية - الجناح الجنوبي». والثاني «متشدّد»بزعامة الشيخ رائد صلاح، يعارض ذلك، وأخذ اسم «الحركة الإسلامية - الجناح الشمالي». وفي عام 2015 أصدرت إسرائيل قراراً بحظر «الجناح الشمالي» قانونياً وألقت بزعيمه رائد صلاح في السجن. بينما تركت الجناح الجنوبي الذي ينتمي إليه منصور عباس يعمل بكل أريحية. وهو الجناح الذي تمادى في «اعتداله» إلى أن وصلنا إلى ما نراه اليوم من حالة أشبه ما تكون بإسلام صهيوني.
في عام 2015 أصدرت إسرائيل قراراً بحظر «الجناح الشمالي» قانونياً وألقت بزعيمه رائد صلاح في السجن، بينما تركت الجناح الجنوبي الذي ينتمي إليه عباس


من ناحية فقهية، ثمّة مبدأ لديهم اسمه «جلب المصالح» لجماعة المسلمين و«دفع الضرر» عنها، وهو من مقاصد الشريعة الإسلامية، يستعملونه لتبرير كل ما يتخذونه من سياسات خانعة أو متواطئة مع الاحتلال. و«الإخوان المسلمون» بشكل عام لديهم مرونة في المواقف السياسية، وهم قرّروا منذ زمن بعيد ترك المجال مفتوحاً لكل تنظيم أو فرع لهم في بلدٍ ما لكي يتخذ سياسات وقرارات تناسب ظروفه المحلية، حتى لو اختلف قليلاً عن سياسة التنظيم الأم في بعض الأمور. وهذا الأمر يفسّر الاختلاف بين التنظيمات الإخوانية في بعض المواقف من ساحةٍ إلى أخرى. ونضرب مثالين يوضحان المدى البعيد الذي يمكن أن تذهب إليه التنظيمات «الإخوانية» في «براغماتيّتها» ومرونتها التي تصل حتى إلى المبادئ والقضايا الجوهرية. الأوّل، هو موقف التنظيم العراقي لـ«الإخوان» (الحزب الإسلامي العراقي) من الاحتلال الأميركي سنة 2003. فقد تعاون معه وصار رئيسه محسن عبد الحميد عضواً في مجلس حكم بول بريمر، وتبعه خليفته طارق الهاشمي في التعاون مع ترتيبات السفير الأميركي زالماي خليل زاد، وشغل منصب نائب رئيس الجمهورية لسنين. والمثال الثاني حديث، وهو موقف «إخوان» المغرب (حزب «العدالة والتنمية») حيث كان رئيسه سعد الدين العثماني هو الذي وقّع اتفاقية التطبيع مع الكيان الإسرائيلي العام الماضي.
وللإنصاف نشير إلى أن تنظيم «الإخوان المسلمين» العالمي أعلن انحيازه إلى جناح رائد صلاح (قبل أيام قليلة أصدر بيان تهنئة له بمناسبة خروجه من السجن) وتبرّأ من مواقف منصور عباس الأخيرة.

* كاتب من الأردن