عند إعلان دولة لبنان الكبير، ضُمّت إليه أقضية طرابلس وصيدا وصور والبقاع دون موافقة سكّانها الذين كانوا يميلون للانضمام إلى سوريا، فرفضوا التعاون مع السلطة المنتدبة التي ركّزت اعتمادها على الطوائف المسيحية وأوكلت إليها شؤون الدولة ووظائفها الأساسية. وبعدما كانت المطالب الطائفية وقفاً على غير المسلمين أيّام الدولة العثمانية، أدّى شعور الغبن لدى المسلمين في الدولة الجديدة إلى تيقّظ روح الطائفية لديهم للمطالبة بحقوقهم. ومنذ زوال الانتداب، لم يزل اللبنانيون يتعثّرون في خطاهم بالطائفية، والأزمات ما زالت تتوالى الواحدة تلو الأخرى. مما لا شك فيه أن قيام الطائفية يأتي نتيجة لحرمان وخوف لدى فئات من المجتمع بسبب طغيان فئة على أخرى واستئثارها بخيرات البلد وامتيازاته، أو تحسّباً من حرمان أو طغيان محتملين. فالطائفية هي نتيجة حاجة جماعية للدفاع عن النفس ضدّ ظلم قائم أو محتمل. ولا تنقضي الحاجة إليها إلا بتدابير تعيد الثقة بين المواطنين. وهذا الدور لا تقوم به إلا الدولة. حالياً، يغرق لبنان في أزماته وتزداد حاله سوءاً، إلى أن وصلنا إلى اليوم الذي بتنا نخاف فيه على وجود لبنان ويقال إن دوره انتهى. لكن، هل للأوطان دور حين ينتهي تنتفي الحاجة لوجود الوطن؟ هل اكتسب الكيان الذي أنشئ عام 1920 صفة وطن؟
بداية، ما هو الوطن؟ الوطن هو غير الدولة. الدولة هي إقليم وشعب وسيادة. الوطن مفهوم أعمق، وهو بحاجة إلى دولة لتوطيد دعائمه وحمايته وتحويل شعبه من «شوية ناس مجمعين» إلى أناس يملكون هوية مشتركة ويشكلون أمة. وأهم عناصر الأمة أو الوطن nation هو الوحدة، والأهم، إرادة الوحدة. أن يريد كل فرد أن يكون جزءاً من كل، لا جزءاً مميزاً عن الكل. أي تمييز يمحو إرادة العيش المشترك. للأمة عناصر كثيرة. قد تتوفّر كلّها وقد يتوفّر بعضها (تاريخ مشترك، لغة واحدة، إقليم مشترك، عادات وثقافة مشتركة، قد يشكل الدِّين أحد أوجه هذه الثقافة)، لكن أهمّها هو إرادة العيش الواحد وليس فقط المشترك.
هذا لا يعني أن الأمّة لا تستقيم إلا بتجانس مطلق بين أفرادها. بل إن التنوّع هو صفة عامّة للأمم حتى تلك العريقة منها. فإن اتّحد الأفراد باللغة، يمكن أن يتمايزوا بالدِّين أو بالعرق أو بالثقافة أو بغيرها. لكن هؤلاء الأفراد لا يستخدمون هذه المتمايزات للتقوقع، بل يظلّ لها وجود خلفي لا يؤثر بتاتاً على المتحد الذي يشكّلون جزءاً منه. ونضرب مثالاً: الأرمن في البلاد التي استوطنوها بعد هجرتهم القسرية ومنها لبنان. كلمة «أرمني» لم تنقص يوماً من «لبنانية» من يحمل هذه الصفة. وهي لا تدلّ سوى على خصوصية ثقافية، تخبرنا عن تاريخ مضى، لكنه استبدل بتاريخ اشترك فيه الأرمن مع المواطنين الآخرين ليصبحوا جزءاً لا يتجزأ منهم. هو حال كل المهاجرين الذين يندمجون في المجتمعات التي يلجأون إليها. يملكون إرادة العيش داخل مجتمعاتهم الجديدة ويكوّنون تاريخاً يتراكم من جيل إلى جيل، ليصبح تاريخهم القديم مجرّد ذكرى وحنين. يندمجون في الأوطان الجديدة حتى لو حافظوا على خصوصيات معيّنة، حتى لو ظلّوا يتداولون بينهم لغاتهم الأصلية، حتى لو حافظوا على معتقداتهم ودياناتهم الخاصة، وهم أصلاً لا يستطيعون محو أصولهم (الصينية، الأفريقية، العربية، الأوروبية،...). وهم يشكّلون جزءاً لا يتجزّأ من الأمم التي يوجدون فيها.
ما السبب؟ إنها كما سبق الإشارة، إرادة الاتحاد والعيش الواحد. ولماذا تتوافر هذه الإرادة؟ لماذا يذهب الكردي مثلاً إلى الولايات المتحدة الأميركية فيصبح أميركياً أصيلاً، بينما هو لا يرضى أن يكون عراقياً أو سورياً، بل يناضل للانفصال عن وطن عاش فيه قروناً طويلة؟ لماذا يريد لبناني أن يقسّم وطنه لينفصل عن لبناني آخر؟ وعندما يهاجر إلى الولايات المتحدة، على سبيل المثال، لا يطالب بالانفصال عن الأميركيين الآخرين مهما كانت أصولهم أو ميولهم؟
السبب برأيي هو الدولة. الدولة السليمة هي العامل الأساسي لبناء الوطن وترسيخ الأمّة. الدولة هي التي تدمج المكوّنات المتنوعة لتشكيل خليط متجانس يشكّل أمّة. الدول التي تميّز بين مواطنيها هي الدول المعرّضة للانقسام. الفقير، المحروم، المستضعف، المحبط، الخائف، والمغلوب، كل هؤلاء لا يمكنهم الاندماج لبناء وطن. قام لبنان منذ تأسيسه على التمييز بين أبنائه. هل يحتاج الإنماء المتوازن، مثلاً، إلى حرب تدوم 15 سنة وإلى اتفاق تأسيسي بمستوى اتفاق الطائف لإقراره؟ أليس من بديهيات وظائف الدولة؟ وهل المساواة التي لم تطبق يوماً في لبنان تحتاج إلى أمر مماثل؟ نحن في لبنان إمّا فقراء محرومون لأننا من مناطق نائية، وإمّا مستضعفون لأننا من طوائف معيّنة، وإمّا خائفون لأننا أقلية، وإمّا محبطون لأن الحرب انتهت لغير مصلحتنا فانتزعت صلاحياتنا، أو لأن آخرين يملكون السلاح ولا نملكه. هل هذا الخليط ينتج وطناً؟
وظيفة الدولة الأساسية هي تحقيق الصالح العام. وأشدّد على «العام» الذي يعني الجميع دون تمييز وامتيازات. طالب الموارنة بدولة لهم وحصلوا عليها. واعتقدوا أن هذا الأمر يعطيهم الحق بالاستئثار بالامتيازات والوظائف العليا والأغلبية البرلمانية. فكانت النتيجة أنهم يخسرون هذا الوطن. لأن النظام الذي قاموا بإرسائه منذ البداية أسّس للتفرقة، وبالتالي زعزع ما كان يفترض أن يدعَّم. أي إصلاح للنظام يجري بمنطق الغلبة وليس بمنطق العقد الاجتماعي يؤدّي إلى الفشل. وهو يولّد مشاكل أخرى من الخوف إلى الإحباط. الاتفاقات التي عقدها اللبنانيون (ميثاق 1943، اتفاق الطائف، اتفاق الدوحة،...) أدّت إلى نزع فتيل الخلاف بشكل آني، لكنها لم تفضِ إلى استقرار نهائي لأنها لم تقم على المساواة بل على تقاسم حصص بشكل يميّز بين المواطنين حسب طوائفهم.
الدول الفدرالية تحفظ للأقليات مكاناً تمارس فيه خصوصيتها. لكنها لا تسمح بالتمييز بين المواطنين في عطاءات الدولة المركزية. يسمح الدستور بأن يكون للكانتون، أو الولاية أو مهما كانت مسمّياتها، خصوصية ثقافية أو لغوية أو قانون سير خاص أو تفاصيل يومية خاصة. لكن هذا الدستور لا يخصّ أبناء ولاية معيّنة بمنصب رئاسة الدولة أو رئاسة الحكومة أو رئاسة المجلس التشريعي أو غيرها. لا يقصر وظائف معيّنة على البيض دون السود مثلاً، أو على المسيحي دون المسلم، أو غير ذلك.
عدم الثقة بالدولة وبالآخرين في الوطن يدفع بالجميع إلى البحث عن دعم خارجي. طالما المسيحي أقرب للغرب من المسلمين في لبنان، سيبقى السني أقرب إلى أبناء مذهبه في العالم العربي، والشيعي أقرب إلى الشيعي في إيران. لم يكن لطائفة أن تحمل سلاحاً وتحتمي به لو لم تكن خائفة. ولست أقصد حزباً. السؤال: ليس لماذا الحزب يحمل السلاح، بل السؤال الأهم لماذا الطائفة التي ينتمي إليها هذا الحزب تؤيّده بغالبية كبيرة؟ إذا زالت أسباب الخوف لدى البيئة التي تحمي السلاح فسوف تزول الحاجة إليه بالنسبة إليها. الأهم من سؤال أين نحن اليوم هو: لماذا وصلنا إلى هنا؟
لقد انتُزع المسلمون من محيطهم العربي بالقوة سنة 1920 وفُرض عليهم الانتماء إلى الدولة الوليدة. ومرّ قرن من الزمن، توالت فيه الأحداث وأيام السلم والحرب، أيّام الرخاء وأيّام الركود. دُفن الآباء في هذه الأرض وأريقت الدماء على هذا التراب. لم يعد الماروني لبنانياً أكثر من السني أو الشيعي أو غيرهما. لم يعد لأحد فضل على الآخر داخل البلد. الجميع بنى، ودافع، واستثمر، وزرع وحصد. أصبح للبنانيين تاريخ مشترك. لذلك لا يحق لأحد الآن أن يقول أخطأنا في تأسيس البلد بهذا الشكل. لنقسّمه من جديد، ويفرض على المسلمين مجدداً وطناً جديداً أصغر من الوطن الصغير الذي فرض عليهم سنة 1920، أساسه قومية دينية بغيضة شبيهة بالقومية التي يقوم عليها الكيان الصهيوني. فنؤسس أنظمة عنصرية ونعطي لإسرائيل شرعية وجود دولة قومية لليهود إلى جانب دول قومية للمسيحيين والسنة والشيعة.
لم يعد ينقص اللبنانيين التاريخ المشترك الذي بني خلال قرن من الزمن. بل تنقصهم إرادة العيش الواحد. وهذه لا تؤمّنها سوى دولة عادلة. والعدل لا يتفق مع امتياز أو تفرقة أو توزيع طائفي. يخاف المسيحيون من إلغاء الطائفية لأنهم خائفون من تناقصهم العددي. إن لعبة الأعداد خاسرة للجميع. من يضمن أن يحافظ على تفوقه العددي بعد خمسين سنة؟ من يضمن أصلاً أن يبقى البلد إذا استمرت الأمور تنحدر بهذا الشكل من سيئ إلى أسوأ؟ الأهم بقاء البلد وجعله وطناً ليبقى أبناؤنا فيه. أخبروني كم من الشباب يريد البقاء في لبنان. يرحلون باحثين عن وطن لم تؤمّنه لهم خياراتنا الطائفية. وطن ينظر إليه كإنسان ويعطيه حسب عمله وكفاءاته لا حسب انتماءاته وولاءاته.
جُعِلت الطائفة في لبنان هي الوطن. صدق من قال: نحن شعوب ولسنا شعباً واحداً. ولم يخجل البعض من الحديث عن الطائفة كأمّة وجعل القومية الدينية فكراً وعقيدة ينادي بها. في لبنان اليوم، ليست الدولة هي التي تحمي المواطن، بل الانتماء إلى الطائفة. الطائفة هي الدولة وهي الحزب السياسي. لا وصول لمنصب سياسي ولا لوظيفة إلا عبر الطائفة، من أكبر المناصب إلى أدنى الشؤون الحياتية. لذلك الدولة مغيّبة. لا وجود لها. التوجّه شرقاً، التحالف مع الغرب، الحياد، وغيرها... كلّها خيارات للطوائف لا للدولة التي هي غير موجودة أصلاً.
ما الحلّ؟ الحلّ بثمن ندفعه اليوم لنحصد وطناً يحمينا في الغد. الحلّ هو بكل بساطة التخلّي عن طوائفنا لمصلحة دولة لاطائفية. فالطائفية لا يعوّل عليها لبناء وطن.

* أستاذة القانون العام في الجامعة اللبنانية