تمرّ الحركة الطلابية في جامعة بيرزيت بمفترق طرق ليس سهلاً، فهي في محط الاستهداف المتصاعد منذ سنوات، واللاعب الرئيسي في هذا الاستهداف هو الاحتلال وأدواته المباشرة التي تعمل على ملاحقة كوادر الحركة الطلابية. لكن الأحداث الأخيرة التي مرّت بها الجامعة أكدت أن تدجين الحركة الطلابية فيها لم يعد حاجةً للاحتلال فقط، بل أصبح عنواناً لتلاقي المصالح بين عدّة جهات.
لماذا الحركة الطلابية في بيرزيت؟
لطالما كانت الحركة الطلابية في بيرزيت العنوان الأبرز والأكثر نخبوية، من حيث الخطاب والبرامج والنقد السياسي اللاذع للحالة السياسية الفلسطينية والمواقف المختلفة فيها. ومن أبرز مشاهد هذا النقد المناظرة السنوية التي تعقدها الجامعة، بين الأطر الطلابية في نهاية الدعاية الانتخابية، وهي مناظرة تقدّم خطاباً نقدياً ساخناً لمواقف الفصائل على اختلافها.
ولطالما أيضاً كانت نتائج انتخابات بيرزيت مؤشراً أوّلياً على أوزان القوى والفصائل، وينظر إليها باهتمام بالغ، وتضيف نتائجها نقطة قوة أو ضعف، بحسب النتيجة، للأطراف الفلسطينية المتنوعة، فلكل فصيل فلسطيني امتداده الطلابي الفاعل داخل الجامعة.
إضافة إلى أهمية الانتخابات كعملية ووزن وخطاب، هناك مُعطى مهم يميز الحركة الطلابية في جامعة بيرزيت، وهو الانخراط الفعلي في الفعاليات الوطنية ووجود الجامعة في مركز الثقل السياسي الفلسطيني في الضفة المحتلة (رام الله)، ما يجعل مشاركة الحركة الطلابية بأي فعالية خارج أسوار الجامعة مشاركةً ذات صدى وأثر مهم. فكان لها بصمة مهمة في تحريك الشارع في عدد من القضايا الوطنية وتوجيه الجمهور نحو المواجهة مع الاحتلال، والتوجّه إلى نقاط التماس، وبشكل خاص مستعمرة «بيت إيل»، إضافة لمشاركتهم في الفعاليات الوطنية على ميدان المنارة وسط رام الله. وهو تعزيز لنموذج «المثقف المشتبك» الذي أعاده وعزّزه الشهيد باسل الأعرج، وارتقى شهيداً معبّراً عن الفكرة والنهج المرتبط بالفعل المقاوم.

جوش ماكفي (الولايات المتحدة - 2014، من أرشيف ملصق فلسطين)

عبر تاريخها، كانت الحركة الطلابية في بيرزيت نقطة الانطلاق لعدد مهم جداً من القيادات الوطنية الفلسطينية، التي لمع اسمها في ميادين الفعل النضالي ضد الاحتلال، ومثّلت محطة استثمار مهمّة للكفاءات والعقول الفلسطينية، وشكّلت حركتها الطلابية خزاناً أساسياً ومميزاً، أضاف إلى الحركة الوطنية الفلسطينية مجموعة من الأسماء المهمّة. ونظرة واحدة إلى نصب شهداء بيرزيت كفيلة بأن تعطيك الجواب عن لائحة الشرف لشهداء الجامعة، التي سمّيت بـ«جامعة الشهداء».
حظيت الحركة الطلابية في جامعة بيرزيت بمرونة عالية في الحركة، تحافظ على حيوية وديمومة العمل الطلابي فيها، لسببين رئيسين: الأوّل؛ الوعي والقدرة العالية على التحشيد للأطر الطلابية، التي ساهمت في الحفاظ على حضورها وفعالية برامجها، إضافة لحفاظ إدارة الجامعة على بقائها على مسافة واحدة من كل مكونات العمل الطلابي، وحرصها على حرية العمل الطلابي والنقابي في الجامعة، وانتظام إجراء الانتخابات الطلابية في جوٍّ من الحرّيات يُشهد له.

تصاعد الاستهداف واتساع رقعته
لم يرُق فعل الحركة الطلابية لكثيرين، وفي مقدّمتهم الاحتلال الذي يعرف جيّداً أن حيوية العمل الطلابي وفعالية الأطر يعني أن الحركة الطلابية ستكون في مكانها الطبيعي؛ في طليعة الفعل النضالي الفلسطيني، وأن تحرّكها المستمر باتجاه نقاط التماس سيساهم في زيادة رقعة المشاركين والمشتبكين مع الاحتلال، وأن خلايا المقاومة التي يلاحقها ويعتقلها، يشكّل الطلبةُ مكوّناً أساسياً فيها.
لم يوقف الاحتلال استهدافه للحركة الطلابية في جامعة بيرزيت، عبر حملات الاعتقال الموسعة لكوادر الحركة الطلابية (وصلت حد اقتحام المستعربين للحرم الجامعي واختطاف رئيس مجلس الطلبة عام 2018، واعتقال عدد لا بأس فيه من الطالبات ومحاكمتهن على خلفية نشاطهم الطلابي) بل توسّع الاستهداف وصولاً إلى تصنيف أطر طلابية كمنظمات إرهابية (تصنيف «القطب الطلابي الديموقراطي التقدمي» منظمةً إرهابية). وهو ما يدلل على توسيع الاحتلال لاستهدافه الحركة الطلابية ومحاولة خلق حالة ردع لكوادرها.
لم يقتصر الاستهداف على الاحتلال، بل شكّلت السلطة الفلسطينية، وبشكل خاص أجهزتها الأمنية، عنصراً مهمّاً في الاستهداف. إذ رأت هذه الأخيرة في الحراك الطلابي والخطاب الوطني والمطلبي للحركة الطلابية في جامعة بيرزيت عاملاً مؤرّقاً، خصوصاً أنها تحوّلت إلى محفّز للحركة في بقية الجامعات الفلسطينية بالضفة المحتلة وقطاع غزة. وأصبح شكلُ وشعارات العمل الطلابي في الجامعة المثالَ والقدوة في بقية الجامعات الفلسطينية.
لم توقف أجهزة السلطة اعتقالاتها بحق كوادر الحركة الطلابية؛ بل كانت ترفع وتيرتها وتخفّضها بحسب تطوّرات الوضع السياسي الفلسطيني. وشكّلت الفعاليات الاحتجاجية لطلبة جامعة بيرزيت والاعتصامات الطلابية التي نفذها طلبة «الكتلة الإسلامية» رفضاً للاعتقال السياسي داخل الحرم الجامعي، في أكتر من مرّة، عاملاً أساسياً في مواجهة هذه الاعتقالات. إلا أنها لم تنجح في إيقافها. في الوقت نفسه، لم تكن الاعتقالات الوسيلة الوحيدة للسلطة وأجهزة أمنها في العمل ضد الحركة الطلابية وأطرها الفاعلة، وبشكل خاص المعارضة لنهج السلطة، بل عملت منذ سنوات على الاستثمار في بعض الطلبة الذين يعملون في الأجهزة الأمنية، واستخدامهم في مواجهة الخطاب المعارض للسلطة داخل الحرم الجامعي. تجلّت هذه المواجهة في عدد من الأشكال، منها الاعتداء المباشر على كوادر طلابية في الجامعة أو في السكن الجامعي.
كانت محطة اغتيال المعارض الفلسطيني نزار بنات، على يد أجهزة السلطة الأمنية، محطة فارقة في التعامل مع الأطر الطلابية في جامعة بيرزيت، وبشكل خاص الأطر المعارضة، بل وحتى الإطار المحسوب على الفصيل الحاكم بالضفة. إذ إن خطاب الحركة الطلابية رافض وبشدّة للتغوّل على الحرّيات من أجهزة السلطة. فالانخراط الكامل للأطر الطلابية في الفعاليات المطالبة بمحاسبة قتلة الشهيد نزار بنات، وما تلاه من امتداد بعض المواجهة مع عناصر من الأجهزة الأمنية إلى ساحة الجامعة، وتغيير الإطار الطلابي لحركة «فتح» لممثّله في الجامعة، هذا كلّه إشارة مهمّة على مفصلية هذه المحطة، في إصرار الأجهزة الأمنية على تدجين الحركة الطلابية في جامعة بيرزيت، بوسائل وطرق جديدة.

مجلس جديد للجامعة... ومنحى سلبي في العلاقة مع الأطر الطلابية
أعلن مجلس أمناء جامعة بيرزيت تكليف مجلس جديد للجامعة، بداية العام الدراسي الجديد 2021-2022. شمل المجلس الجديد تغييراً لافتاً طرأ على موقع عمادة شؤون الطلبة في الجامعة. إذ تم تكليف السيدة عنان الأتيرة قائمة بأعمال عميد شؤون الطلبة. وهي شخصية فتحاوية معروفة، ولها مواقع رسمية في السلطة الفلسطينية، أهمّها نائب محافظ نابلس. أي إنها تشكّل جزءاً من منظومة السلطة التي تلاحق الحرّيات وتقمع المعارضين، وتنسّق أمنياً مع الاحتلال! ومنذ تكليف مجلس الجامعة الجديد واستلام السيدة عنان الأتيرة منصبها في عمادة شؤون الطلبة، بدأ فصل جديد في العلاقة بين إدارة الجامعة والأطر الطلابية، إذ أخذت منحى سلبياً في التعامل مع الفعاليات الطلابية وبعض المخالفات الطلابية، الصادرة عن إطار بعينه، محسوب على اللون السياسي لعميدة شؤون الطلبة الجديدة.
وعليه، تجاوزت إدارة الجامعة عن بعض المسلكيات الخطيرة التي مارسها محسوبون على إطار طلابي محدد (أو أجهزة أمنية)، بالاعتداء المباشر على ممثّل إطار طلابي ومحاولة خطفه، والتلويح والتهديد لأطر طلابية أخرى، على خلفية مواقفهم. ولم تأخذ أي إجراءات بالخصوص. فيما صعّدت إجراءاتها بحق أطر طلابية، على خلفية فعالياتها ونشاطاتها الوطنية، وبشكل خاص إحياء ذكرى انطلاقة كل من «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، وحركة المقاومة الإسلامية «حماس». وأخذت الجامعة قراراً بتشكيل لجنة ضبط لممثلي إطاري «القطب الطلابي التقدّمي»، و«كتلة الوفاء الإسلامية»، شمل منعهم من دخول الحرم الجامعي. وهي خطوة تعد سابقة في تاريخ العمل الطلابي في جامعة بيرزيت، وتعكس نوايا مبيتة لمجلس الجامعة الجديد تجاه الحركة الطلابية ونشاطها وهامش فعلها داخل الجامعة.
إن عملية الاستهداف المتواصل من الاحتلال للحركة الطلابية كانت تتطلّب تظافراً وطنياً للجهود، لحماية كوادر الحركة الطلابية ومنجزاتها من هذا الاستهداف، وتشكيل شبكة أمان حقيقية لهم. وليس المساهمة في تضييق الخناق عليهم، وتصعيد حالة الاختلاف والمواجهة معها، والتي شكّل سلوك إدارة الجامعة فيها عاملاً جديداً، يزيد الضغط على الحركة الطلابية، ولربما يكون أكثر العوامل التي يمكن أن تسبّب أذى. فالطلبة يعرفون جيّداً أن المعركة مع الاحتلال لن تنتهي إلا بانتهائه، والمواجهة مع السلوك السلطوي ستبقى مستمرة طالما هناك قمع وتعدٍّ على الحرّيات، وعدم وجود نظام حكم ديموقراطي تعدّدي. لكن أن تضع إدارة الجامعة نفسها في حالة المواجهة مع الأطر الطلابية على خلفية أنشطتهم الوطنية، فهذا هو التطوّر الأكثر صعوبة والذي يمثّل خروجاً عن صورة جامعة بيرزيت وإدارتها، التي لطالما تغنت بكونها تؤمّن هامشاً واسعاً من الديموقراطية وتحفظ حق التعددية.
رأت الأجهزة الأمنية للسلطة في الحراك الطلابي والخطاب الوطني والمطلبي للحركة الطلابية في الجامعة عاملاً مؤرّقاً


ما يجري في جامعة بيرزيت لا يستهدف الحركة الطلابية في بيرزيت وحدها، بل يستهدف كل الجهود الساعية لإعادة الاعتبار للحركة الطلابية والعمل الطلابي الفلسطيني عموماً. على اعتبارها فاعلاً طليعياً في الفعل النضالي الوطني الفلسطيني، ومحرّكاً أساسياً للجماهير الفلسطينية، نحو الانتفاض وخلق حالة من المواجهة الشعبية الشاملة مع الاحتلال وأدواته. بالتالي، كل المؤشرات المذكورة أعلاه، وغيرها الكثير من الشواهد، تُدلّل على أن هناك وجهة مشتركة للعديد من الأطراف، تسعى لتدجين الحركة الطلابية وحصر فعلها وخطابها بالفعل الطلابي المطلبي، وفصلها عن أي دور وطني وديموقراطي. وستبقى أصابع الاتهام موجهة لإدارة الجامعة الجديدة؛ أنها قبلت على نفسها أن تكون عاملاً من عوامل الهجوم على الحركة الطلابية، ما لم تُثبِت، بالقول والفعل المباشر، عكس هذا. بل ومطلوبٌ منها تشكيل حاضنة وملجأ ودرعاً حامياً لطلبتها، من أي عمليات استهداف؛ من الاحتلال ومن أجهزة السلطة، وأي طرف تخريبي يضع نفسه في إطار الاستخدامية في وجه كوادر العمل الطلابي.
من جانب آخر، فالكل الوطني، من قوى وفصائل ومؤسسات ووسائل إعلام، مُطالبٌ بالتحرّك، في إطار لملمة المشهد، والحفاظ على النموذج الطلابي المشرق لأطر بيرزيت. فحفظ هذا النموذج وتشجعيه يعني تحفيز الطلبة في بقية الجامعات للمزيد من العمل والفعل، ليرتقوا بواقع العمل الطلابي ويعيدوا الاعتبار لأهمية الحركة الطلابية، ودورها الطليعي في النضال الوطني الفلسطيني.
والحفاظ على نموذج بيرزيت مدخلاً لتفعيل دور الحركة الطلابية الفلسطينية عموماً، يتطلّب: أوّلاً، ممارسة الضغط اللازم بشتى الوسائل على مجلس جامعة بيرزيت الجديد، للحفاظ على هامش الحرّيات والتعدّدية والهوية الوطنية للأطر الطلابية داخل الجامعة.
ثانياً، رفع الصوت عالياً في وجه السلطة الفلسطينية، لوقف الاعتقالات السياسية بحق كوادر الحركة الطلابية، وتدخّلات الأجهزة الأمنية ومندوبيها، بشكل مباشر أو غير مباشر، في سير الحياة الطلابية داخل الجامعة.
ثالثاً، اعتبار أزمة العمل الطلابي في جامعة بيرزيت «قرعاً لجدران الخزّان»، حول هامش الحرّيات في الجامعات الفلسطينية، وإعادة التأكيد على أهمّية إطلاق الحرّيات الطلابية داخل كل الجامعات الفلسطينية، في الضفة المحتلة وقطاع غزة، ونَظمْ عملية الانتخابات لمجالس الطلبة فيها.

* عضو اللجنة المركزية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين