قامت رؤية إدارة بايدن لمنطقة «الشرق الأوسط»، بحسب ما ورد من الوثائق والخطاب العلني من جهة، ومتابعة السلوك السياسي من جهة ثانية، على أساس أولوية التوجّه شرقاً مع التأكيد أن المنطقة تبقى مهمّة وحساسة، حتّى مع تراجع مكانتها بالاعتبارات الموضوعية الأميركية المباشرة. وعلى ضوء تلكم الرؤية انبثقت استراتيجية الإدارة لمنطقتنا، والتي يمكن تلخيص مندرجاتها وفق الآتي:- تجنب الانخراط المباشر، والسعي للتخفف التدريجي دونما الإضرار بمصالحها الحيوية، وردعها، في سياق استراتيجيتها للتحوّل شرقاً.
- حفظ أمن حلفائها، وفي مقدّمهم الكيان الصهيوني، من خلال اجتراح «هندسة إقليمية جديدة» و«تعريف جديد» لمشكلة المنطقة وسبب الصراع فيها وتالياً لـ«طبيعة الحل».
- تعزيز مسار التطبيع، أو ما عُرف بـ«مشروع أبراهام»، ودعمه عملياً.
- اعتماد «القيادة من الخلف»، عوضاً عن المباشرة والحضور العسكري الكثيف، والابتعاد عن سياسة تشكيل مجتمعات حلفائها من الداخل التي اهتمّت بها الإدارات الأميركية السابقة.
- التركيز على ما سمّي «ديبلوماسية الحد الأقصى» وتعزيزها للضغط على خصومها، وبناء شراكات وتحالفات.
- العمل لاحتواء إيران والحد من نفوذها بمقاربة «ما دون عسكرية».
- تخفيض الالتزام العسكري المباشر في المنطقة والتعويض عنه بـ«قوات الدعم السريع» بما يشبه تلك التي اعتُمدت في زمن الرئيس كارتر.
- تخفيض الصراع «العالي الوتيرة» بما لا يدفعها إلى «الغرق في الإقليم» وتحمّل تبعاته، وتبريد الصراع ما أمكن بين القوى المتواجهة والمتصارعة.
- إعادة العمل بـ«خطة العمل المشتركة» باعتبار أن هذا الاتفاق سيشكل مدخلاً للتفاوض والتفاهم الشامل مع إيران حول قضايا المنطقة وفقاً لرؤيتها، كما يحول دون بلوغ إيران «الدولة النووية».
- العمل لتحقيق نوع من «التوازن»، أي الموازنة بين محور المقاومة والحلف الذي يفترض تشكيله بالمقابل ومحوره إسرائيل.
- منع الصين وروسيا من زيادة نفوذهما في الإقليم من دون تفاهم تحدّد هي إطاره أي الولايات المتحدة.
- استمرار العمل بورقة الضغط الاقتصادي والعقوبات بمواجهة خصومها.
- إدراج مسألة «حقوق الإنسان» والديموقراطية في خطابها وسياستها الخارجية.
- مواجهة الإرهاب ومنع تمدّده!
اليوم، وبعد انقضاء عام، للمتابع أن يسأل أين وصلت هذه الاستراتيجية:
أوّلاً، قبل أي شيء، فإنّ الثابت الأكيد أنّ ردعها وهيبتها، خصوصاً بعد انسحابها من أفغانستان، تراجع، وهذا ما دفعها لتداركه في العراق بإعلان «انسحاب وهمي».
ثانياً، ها هي إيران تبلغ «دولة عتبة نووية» ويتوقّع أن تصل نسبة التخصيب إلى 90 في المئة في حال فشل المفاوضات، كما انزاح مجتمعها نحو التشدّد في مواجهة الولايات المتحدة وعقوباتها وتسير بخطى ثابتة للاعتماد على الذات مع حكومتها الحالية.
ثالثاً، يلاحظ التخبّط في تعاطيها مع «خطة العمل المشتركة»، وتتأرجح في خطواتها وتتردّد تحت وقع الضغوط، داخلياً وخارجياً، ولا يبدو أن اتفاقاً شاملاً سيتم بحسب المعلومات والقرائن، بالتالي تعثّر إمكانية التفاوض الشامل مع إيران حول المنطقة والذهاب للتعاطي المجزأ والمركب في الصراع والمواجهة. ومحاذير ذلك ترتبط بارتفاع احتمال الصراعات والخطأ في الحسابات عند حلفائها وانعكاس ذلك على الرؤية التي تبنّتها – أي التوّجه شرقاً. ويسجّل أنّه حتى الآن نجحت في تجنب الاحتكاك العالي الوتيرة رغم محاولات إسرائيل جرّها لذلك.
هذا ويستمر مسار «أبراهام» للتطبيع مع الأنظمة العربية، لكنّ المفارقة تكمن في أن الدول العربية المطبعة هي ذاتها انفتحت على إيران مع ما يحمل هذا من دلالات ومعانٍ. هل يوحي بحاجة هذه الدول إلى الابتعاد عن الاصطفاف الحاد بعد تقييمها للعقد الأخير وحذرها من سياسات أميركا وارتخاء قبضة الشرطي الأميركي في الإقليم والعالم؟!
لم تتمكّن، حتى اليوم، من الاطمئنان إلى حلفاء «عاقلين» و«قادرين» في المنطقة يمكن الاعتماد عليهم والوثوق بهم لتثبيت مصالحها الحيوية والاستراتيجية، ولا تمتلك ترف الوقت لتأهيلهم.
ضعفت أدواتها وتراجعت داخل دول النزاع مع جبهة المقاومة، وتحتاج إلى مدة زمنية معتدّ بها لإعادة تأهيل أو تخليق حلفاء لها، كالـ«NGOs» وغيرهم، فضلاً عمّا تعانيه، حتى اللحظة، من إرباك في خطابها حيال الإقليم، والذي يؤثر في إنتاج اتجاهات اجتماعية ذات خطاب قوي حليف لها، وهذا تحدٍ كبير يواجهها.
تراجع قدرة إدارة بايدن على المبادرة والتركيز الاستراتيجي والالتزام الذي هو عصب السياسة، يضع حلفاءها في مأزق أكبر


وهي لم تستطع أن تقنع حلفاءها برؤيتها وروايتها، فلا تزال السعودية، كما إسرائيل، تمارس الابتزاز لإدارة بايدن، مستغلّة ضعفه وتراجعه الداخليّين، وتفرض الشروط - ولو التكتيكية - بما يعيق التصوّرات الأميركية والرغبات الخاصة. فابن سلمان يبدو عقبة وعقدة للسياسة الأميركية ولو مرحلياً - وأيضاً السياسات الإسرائيلية والمزايدات الداخلية في الكيان تعيق رغبات أميركا وتربكها.
هذا ويستّمر التنافس وتناقض أجندات حلفائها (فرنسا/ تركيا، الإمارات/ السعودية، مصر/ تركيا)، بما يزيد من إرباك سياستها حيال المنطقة، ويؤكد حقيقة تراجع قدرتها على فرض رؤيتها. ورغم مرور عام، فإن أحداً لم يعرف بالدقة معنى ومضمون حمايتها لحلفائها ومعيار مصالحها الحيوية الذي تبنّته في وثائقها. وهذا أحد أوجه قلق حلفائها.
تستمر بـ«ضغوط الحد الأقصى» اقتصادياً استكمالاً لما قامت به إدارة ترامب، رغم ما تؤدّيه هذه من انتهاك لحقوق الإنسان التي تدّعي أنها تتبناها، ورغم تبيّن عدم جدوائيتها عملياً وأنّها تسهم إسهاماً كبيراً في تعبئة المجتمعات ضد أميركا، وقد تؤدّي إلى الانفجار الكبير في نهاية المطاف إذا ما شعر أي طرف أنّها باتت لا تطاق.
أمّا على صعيد منافسيها وخصميها الدوليّين، الصين وروسيا، فلوحظ تنامي مواطن نفوذهما في «الشرق الأوسط» وأفريقيا بأشكال متعدّدة، اقتصادية منها وعسكرية (قواعد في الخليج والقرن الأفريقي)، يُحفّزهما على ذلك: تزايد احتمال احتدام التنافس و«الصراع» في السنوات القليلة المقبلة ما يجعل قيمة المنطقة تزداد بالنسبة لهاتين القوّتين.
وبما يخّص دور حلفائها في صراعها الكبير، فنراهم متردّدين في مجاراتها في صراعها مع الصين. إذ إن الدفع إلى مزيد من المواجهة مع الصين يضعهم أمام تحدّ كبير وفالق لا يقدرون عليه، من إسرائيل إلى دول الخليج الذين يتلمّسون تردداً أميركياً حيال المنطقة وفي ترجمة «الحماية». لذلك نراهم يناورون، ولو نسبياً، وغير متحمّسين لخوض هكذا مواجهة. فالصراع مع الصين ليس أيديولوجيّاً كما تريد الولايات المتحدة أن تفسّره، ولا يرون في الصين تهديداً لهم بل ربّما فرصة اقتصادية كبرى.
يمكن أن نلاحظ عدم ممانعة أميركية للسعودية إزاء التفاوض مع إيران، وصمت إزاء انفتاح حلفائها على سوريا، وانفتاح ماكرون على محمد بن سلمان متخطّياً عقبة «حقوق الإنسان» ودعواها... كل ذلك يعني عملياً اعترافاً واقعياً بالدولة والنظام في سوريا (وربما المنافسة على الاستثمار فيها). ويعني أن حلفاءها العرب، كما الغربيين، يقتربون من إعادة النظر بسياستهم حيال سوريا بدافع مصالحهم الداخلية وانتخاباتهم مستبقين عودة خطوط التواصل بين تركيا والدول العربية، ويستعجلون ملء الفراغ الأميركي.
أمّا حل الدولتين، فيمكن القول إنّه انتهى عملياً، والبحث جارٍ اليوم عن حل بديل في الأردن وغيره والتوطين، بالتالي لم تستعد إدارة بايدن دور «الوسيط» الذي استفادت منه تاريخياً وناورت من خلاله، فتعيد دورها في القضية الفلسطينية التي لا تزال لب قضايا المنطقة ومحورها.
أمّا لبنان، فلوحظ مدى اقترابها ومباشرتها لمواجهة حزب الله وحلفائه بشكل غير مسبوق. باتت ترى فيه «معضلة» كبرى لسياساتها في الإقليم. لأوّل مرة نشهد هذا المستوى من الانخراط الأميركي في التفاصيل والجزئيات اللبنانية بعد أن كان يتركه إلى الوكيل وينظر إلى لبنان من خلال غيره، ما يؤشّر إلى مزيد من احتدام الصراع في الساحة اللبنانية ضد أشكال الهيمنة الأميركية القائمة، ويفتح الواقع اللبناني على تحدّ غير مسبوق. وقد يساعد انخراطها الكثيف في تعزيز قدرة خصومها على المناورة الداخلية والمبادرة! وهذا رهن تطوّرات الساحة اللبنانية المفتوحة على أسئلة كبرى.
يسجّل أنّها حقّقت بعض التقدّم في العراق من خلال الانتخابات. لكنه يبقى تقدّماً معلّقاً صرفه سياسياً في المدى المنظور إذا لم يُستكمل بخطوات واضحة لمصلحتها. كما أعادت التموضع العسكري في المنطقة، ربما كجزء من الالتفاف على عمليات الانسحاب المزعومة، وتقوم بعملية «تغيير لباس» قوّاتها والالتفاف على مصطلح الاحتلال (من عسكريين ميدانيين إلى مستشارين).
وبالنسبة للإرهاب، فهي تعمل لنقل الإرهابيين من سوريا والعراق إلى أفغانستان، ربما لمهمّة بعيدة المدى مفترضة بوجه الصين وخط الحرير من جهة، وإيران وروسيا، بالتالي هي تعيد العمل بنظرية إدارة الإرهاب مع تعديل في الساحات!
في الختام: الوقائع تقول إن أميركا انتصرت على حلفائها أكثر مما أنجزت بمواجهة خصومها وأعدائها. وردعها تراجع. وإن إدارة بايدن تائهة ومترددة في استراتيجيتها في المنطقة على وقع ضغوط داخلية وخارجية. ورغم أنّها تحاول، لكن يلاحظ تراجع قدرتها على المبادرة والتركيز الاستراتيجي والالتزام الذي هو عصب السياسة، وناتج ذلك أنه يضع حلفاءها في مأزق أكبر ويزيد قلقهم، وتراهم يتساءلون: إن كان الأميركي اليوم يقود الصراع في المنطقة مباشرةً وبحضوره وفشل في إحداث الموازنة وإضعاف محور المقاومة، فكيف لتحقيق ذلك بالرعاية و«القيادة من الخلف» أو ربّما الانسحاب يوماً ما!
هذه المؤشرات حتى الساعة، لكنها لا تعني أنها وقائع نهائية يُركن إليها، فالسياسة مسارات وخيارات مقترنة بعامل الزمن والتفاعلية والتقييم والتقدير، فكيف في بيئة دولية متحوّلة وبيئة إقليمية مات فيها القديم والجديد ينتظر! وكيف أنّ السياسة الخارجية بنموذجها الغربي الذي عرفناه بالنظرية والتطبيق نراها تراجعت عن كونها فناً خاصاً وتبصّراً في مسار التاريخ والأمم لتذوب هويتها تباعاً! وكيف مع إدارة أميركية ضعيفة وقوة عالمية تدير تراجعها، ومعلوم أن إدارة التراجع هي أخطر لحظات التاريخ. لنبقى يقظين ومستعدّين!

* باحث لبناني