في مطلع عام 2013، والنار السورية يزداد أوارها بما يوحي بأن الذرى التي وصلت إليها في حينها لن تكون هي الأعلى، ظهر أحد القادة السياسيين اللبنانيين المعروفين بقربهم من دمشق، على إحدى القنوات اللبنانية المعروفة هي الأخرى بالقرب عينه. وفي ذلك الحوار الذي كان عنوانه الأبرز هو التنبؤ بالمآلات التي يمكن أن تذهب إليها الحرب السورية، نحا المحاور إلى سؤال الضيف عن الآفاق المحتملة للدور الروسي في سوريا بوصفه حاسماً. وطلب إلى ضيفه الارتكاز إلى المعلومات لا إلى التحليل، بعدما قال هذا الأخير إنه عائد قبل أيام من زيارة لدمشق التقى من خلالها الرئيس الأسد لوقت كافٍ. وما كان من الضيف إلا أن نقل عن الأسد قوله في هذا السياق: «دعك من الموقف الروسي فهو فوق كل الحسابات». كان ذلك تأكيداً يرمي إلى إظهار حالة اليقين من ثبات الموقف الروسي ورسوخه بشكل يُرقيه فوق أية شكوك.قد يكون أهم ما في تلك «النبوءة» التي أثبتت صوابيتها وصلاحيتها على امتداد سنوات الأزمة، هو أنها جاءت في لحظة حرجة من مسار حرب بدت معها الرياح الهوجاء تهدد بذرو كل شيء. تماماً كما حصل في تونس والقاهرة وطرابلس الغرب قبيل قرابة عامين من ذلك التاريخ... أما تأخر دمشق عن ركب تلك السيناريوهات، فكان يعود إلى شبكة من العوامل الشديدة التعقيد. لكن مطلع عام 2013 كان يوحي بأن تلك الشبكة باتت، في جزء منها على الأقل، قابلة للتفتيت، وما تبقّى متماسكاً منها كانت تباشيره توحي بأن خيوطه ماضية هي الأخرى نحو اللحاق بسابقاتها. والسؤال الملحّ يصبح إذاً: إلامَ استند الأسد في نبوءته السابقة الذكر؟ وما هو المسكوت عنه في العلاقة الروسية السورية الذي أمدّ الرئيس بشار الأسد بكل هذا اليقين االظاهر من خلال المفردات المستخدمة في سياق العرض؟
بدأت موسكو بمدّ الجسور مع الدولة السورية منذ استقلالها عام 1946 انطلاقاً من الإيديولوجيا السوفياتية التي تقول بوجوب الوقوف إلى صف الدول الماضية في تكريس استقلالها الذي تحقّق من الناحية العسكرية، لكنه ظل منقوصاً بفعل التبعية الاقتصادية التي عملت دول الانتداب على ترسيخ أواصرها منذ أن منحتها عصبة الأمم المتحدة صكوك الشرعية لذلك. كان ذلك الفعل في طبعته السورية الذي نقصد به مدّ الجسور هنا، يعتد بنظرة جيوسياسية قديمة سبق وأرستها كاترين الثانية التي كانت تدرك أن حدود «المياه الدافئة» تبدأ، بالنسبة إلى روسيا، عند الجغرافيا السورية التي يجب أن تمثل إذاً خط الدفاع الأول عن موسكو. المعنى الذي ظهر بشكل أكثر وضوحاً عند وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بعيد انطلاق «عاصفة السوخوي» 30 أيلول/ سبتمبر 2015 في معرض تبريره لتلك القفزة التي كانت الأولى من نوعها بعد الانكفاءة الروسية الحاصلة عام 1991، عندما قال : نحن ندافع عن موسكو في دمشق. وبشكل ما يمكن القول إن السياسات السوفياتية التي اتُّبعت ما بعد جوزيف ستالين كانت تصحيحاً لخيار جهد من خلاله هذا الأخير لكي يجعل من «الكيان الإسرائيلي» الوليد أيار/ مايو 1948 مفتاحاً للشرق الأوسط برمّته، وعندما فشل ذهب خلفاؤه نحو خيارات كان أولها مصر، وما تأكد في سياق هذا الفعل هو أن عبد الناصر كان يمثل محاولة بناء قوة إقليمية بعيداً عن مظلتَي القطبين السائدين، الأمر الذي دفع نحو نقل الخيارات باتجاه دمشق.
لم تكن العلاقة السوفياتية واحدة مع الأنظمة التي تعاقبت على سوريا بعد الاستقلال، بل لم تكن واحدة حتى بعد وصول حزب البعث إلى السلطة آذار/ مارس 1963 وانفراده فيها في تموز/ يوليو من هذا العام الأخير، فالثابت هو أن النظرة السوفياتية المتكوّنة حول البعث كانت تميل إلى اعتباره حزباً قومياً برجوازياً صغيراً، لكنّ النظرة عينها لم تكن كما النظرة إلى جسد سياسي واحد، فالتيارات التي اشتملها كانت تجب شرائح اجتماعية وثقافية ذات طيف واسع تتضارب حيناً في مصالحها، وهي تتلاقى في أحايين قليلة تبعاً للمخاطر التي تتهدد مواقعها الفئوية أو الشخصية أحياناً، وعليه فقد نظرت موسكو إلى وصول «الشباطيين» إلى سدة السلطة في دمشق 23 شباط/ فبراير 1966 على أنه وصول للزمرة الأكثر تطرفاً في الحزب، مع الخشية في أن تزداد ميولها نحو «الماوية» التي تعني القرب من الصين في وقت كان الصراع السوفياتي الصيني يزداد أواره منذ الخلاف الذي اندلع بين الإثنين عام 1961 فأرخى بظلاله على الحركة الشيوعية العالمية، ثم على القطبية السوفياتية في مواجهة القطب الأميركي، كانت النظرة السوفياتية لنظام صلاح جديد تتمحور حول أن التصلّب الإيديولوجيّ لهذا الأخير، حتى وإن كان من النوع الذي يخلق تقاربات في النظرة الطبقية التي تتبناها موسكو والتي تشكل الدينامو المحرك لسياسات الداخل، فإنه في مقلب آخر كان يخلق العديد من التشنّجات في منطقة توليها الولايات المتحدة الكثير من الأهمية، ومن حيث النتيجة فإن من شأن استمراره أن يزيد من التوتر ما بين القوتين العظميين في وقت كانت موسكو ترى في ذلك عملاً لا يصبّ في مصلحتها، الأمر الذي يمكن لحظه بوضوح في سياق السياسة التي اتبعتها هذه الأخيرة تجاه الأزمة المتفجّرة داخل حزب البعث ما بين 13 ــ 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970. يروي يوسف زعين رئيس آخر وزارة في عهد صلاح جديد لصحافي مصري بعيد خروجه من السجن لدواعٍ صحية أن السفير السوفياتي في دمشق كان قد زار صلاح جديد يوم 15 تشرين الثاني/ نوفمبر من هذا العام الأخير في مقر احتجازه قبل يوم واحد من إعلان حافظ الأسد عن انقلابه على رفاق الأمس، وفي ذلك اللقاء عرض السفير على جديد القبول بالقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن في أعقاب حرب حزيران/ يونيو 1967 في مقابل «وقف إجراءات الانقلاب»، وعودة الأمور إلى مجاريها، لكنّ الأخير رفض بشدة، فسارت الأمور في اليوم التالي نحو إعلان الأسد عن قيام «الحركة التصحيحية»، والحادثة تشير بشكل قاطع إلى ميل روسي في ترسيخ عضوية العلاقة القائمة مع دمشق ومحاولة احتوائها بما يخدم سياسات التهدئة التي كانت ترى فيها عاملاً خادماً لمصالحها، وفي الوقت عينه إبقاء دمشق تحت ظل الاحتواء الذي يُبقيها أيضاً في وضعية «النافذة الروسية» الأولى في المنطقة. مرّت العلاقة السوفياتية السورية ما بعد منعطف خريف عام 1970 بالعديد من محطات التلاقي والقليل من محطات الافتراق، وفي الوقت الذي مثّلت فيه حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 ذروة الحالة الأولى، كان الدخول العسكري السوري إلى لبنان أوّل حزيران/ يونيو 1976 يمثل الذروة في الحالة الثانية، لكن على الرغم من المدى الذي وصلت إليه هذه الأخيرة التي جاءت في سياق الاستظلال السوري بالمظلة الأميركية، لكنها لم تؤدّ إلى فقدان المحاولة الروسية لمشروعيتها، ولا هي وضعت الآمال الروسية في مآلات بعيدة المدى خصوصاً أن الأسد الأب ظل حريصاً على إعطاء موسكو دوراً من شأنه أن يُبقي تلك الآمال حيّة بل وواقعية أيضاً.
كانت محاولة الاغتيال التي تعرّض لها الرئيس الراحل حافظ الأسد على يد أحد حراسه، عبد الحميد رجب الدامور من ريف إدلب، يوم 26 حزيران/ يونيو 1980، كما جرس الإنذار الذي قرع مطوّلاً في قعر حسابات هذا الأخير فدفع به نحو التفكير بمسألة خلافته، فيما الرؤية الراسخة آنذاك عند الأسد كانت تقول بوجوب أن تخلفه شخصية «سنية» وازنة تأتي من صلب النظام نفسه.
نظرة جيوسياسية قديمة أرستها كاترين الثانية التي كانت تدرك أن حدود «المياه الدافئة» تبدأ، بالنسبة إلى روسيا، عند الجغرافيا السورية التي تمثّل إذاً خط الدفاع الأول عن موسكو

وعليه فقد باشر في طرح الأسماء على الحليف السوفياتي يستشيره في أي منها هو الأنسب، لكنّ الردود السوفياتية على تلك الطروحات كانت كلها سلبية، وهي تحمل رفضاً قاطعاً لكل تلك الأسماء التي كانت موسكو تنظر إليها على أنها، كلها، لن تكون سوى طبعة سورية منقّحة عن السادات فيما لو وصلت إلى سدة السلطة، وما جرى هو أن ردود موسكو لم تؤدّ إلى تغيير قناعات الأسد بوجوب أن تخلفه شخصية سنية لكنه ظل حريصاً على أن تحظى تلك الشخصية بموافقة الأخيرة، وما يؤكد ذلك هو أن الأسد ذهب بعد أن سقط في مكتبه يوم 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 1983 نحو تشكيل لجنة سداسية تدير دفة البلاد خلال فترة النقاهة التي أوصى الأطباء بوجوب أن تطول لثلاثة أشهر في حدودها الدنيا، كانت تلك اللجنة قد خلت من أي اسم «علوي» على الرغم من توهج العديد من الأسماء العلوية التي كانت تلعب دوراً محورياً في هيكلية النظام، والشاهد هو أن الأسد، وفق رواية باتريك سيل، كان قد استشاط غضباً حين سمع بأن كلاً من عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي قد زارا شقيقه رفعت قائد الوحدة 569 في بيته الكائن على أوتوستراد المزة، وأقنعاه بوجوب انضمامه إلى اللجنة السداسية لما يمثله من ثقل وازن في معادلة حماية النظام، وعلى الرغم من أن تلك الزيارة لم تكن «بريئة» لكنّ رد الأسد عليها كان ذا صلة تتعلق بتحاشي «الغضب الروسي» تجاه تطور مفاعيل مسار كهذا بفعل النظرة الروسية التي كانت ترى في رفعت الأسد رأس حربة لمشروع أميركي ــ سعودي في سوريا، الأمر الذي يتأكد عبر الموقف الذي اعتمدته موسكو في أعقاب اندلاع الأزمة بين الأسدين نيسان/ أبريل من عام 1984.
بعد انقشاع الضباب الحاصل جرّاء تلك الأزمة سيُكثر السفير السوفياتي في دمشق من طلب اللقاء بالأسد الراحل، والرسائل التي كان يحملها في جعبته تفيد بأن التركيبة السياسية ــ العسكرية ــ الأمنية التي نجحت في تثبيت نظامه هي نفسها التي ستكون معيقة بدرجة قصوى لوصول أي شخصية «سنية» إلى سدة السلطة في دمشق، ولذا فإن من الأفضل التفكير بأن يجري الإعداد لكي يخلف الابن البكر أباه في السلطة، والفكرة إذ وقعت في نفس الأسد موقعاً حسناً راحت تستحضر، بعد مرور وقت قصير، المناخات اللازمة لجعلها واقعاً قابلاً للتنفيذ، حيث سيشهد افتتاح ألعاب دورة المتوسط عام 1987 تسليطاً للضوء على باسل الأسد الذي لم يكن قد تجاوز بعد الخامسة والعشرين من عمره، وما جرى هو أن «الحلم» تكسّر على منتصف الأوتوستراد الذي يربط بين مدينة دمشق ومطارها في أحد الصباحات الباردة من كانون الثاني/ يناير لعام 1994. كانت التحولات التي يعيشها الاتحاد السوفياتي منذ أن أطلق زعيمه الأخير ميخائيل غورباتشوف «بيريسترويكاه» تثير الكثير من النوازع التي تراكم المزيد من القلق في نفس الأسد، ولم يطل الأمر بتلك النوازع لكي تتأكد صحة المخاوف الناجمة عنها، حيث سيشهد يوم 25 كانون الأول/ ديسمبر 1991 إعلاناً مدوياً لغياب الحليف السوفياتي عن خارطة التوازنات العالمية التي كانت تمثل سنداً قوياً لحكمه، وما زاد في المخاوف أن الكيان «الوريث» جاء بلا هوية واضحة، ثم إن قيادة الزعيم الجديد، بوريس يلتسين، كانت أشبه بحركات لاعب سيرك جلّ ما يهمه أن يبهر الجمهور بشطريه الحاضر في القاعة وذاك الذي يتابع العرض عبر شاشات التلفزة.

بدأت موسكو بمدّ الجسور مع الدولة السورية منذ استقلالها عام 1946 انطلاقاً من الإيديولوجيا السوفياتية التي تقول بوجوب الوقوف إلى جانب الدول الماضية في تكريس استقلالها


في ما بعد الاستفاقة من تداعيات حرب «تحرير الكويت» 1991 التي مثّلت صرخة النشوة في انفراد الولايات المتحدة بالهيمنة العالمية، وجد جهاز الاستخبارات الروسي KJB، المؤسسة الوحيدة التي بقيت متماسكة بعيد انهيار القلعة السوفياتية، نقول وجد ذلك الجهاز نفسه معنياً بإرسال رسائل التطمين إلى الأسد، وفيها كانت التأكيدات تمضي نحو ترسيخ فكرة لدى هذا الأخير مفادها بأن كل ما يحري مؤقت، وهو لن يدوم طويلاً، وأن جهازاً عملاقاً، مثل الـ KJB، يمتلك كل تلك الكوادر وكل تلك الخبرات لا يمكن له أن يترك «الحبل على غاربه» لوقت طويل وصولاً إلى الانهيار الكبير، وأنه، ونحن لا نزال في سياقات ما كانت تحتويه تلك الرسائل، لا بدّ لذلك الجهاز أن يستولد من رحمه شخصاً منقذاً قادراً على وقف التداعي الحاصل في عوامل القوة الروسية، واللافت هنا هو أن ذلك السيناريو هو ما حصل فعلاً.
عرضت قناة «روسيا اليوم» في 25 آذار/ مارس 2015 لقاء مع الملحق العسكري في السفارة الروسية بدمشق، وممثل الـ KJB فيها، الجنرال فلاديمير فيودروف، وفيه قال هذا الأخير التالي إن قرار التوريث في سوريا قد اتُّخذ في موسكو، وتحديداً في جهاز الـ KJB. صحيح أن ذلك التصريح البالغ الأهمية كان قد جاء في لحظة عصيبة كانت موسكو في خلالها تقرأ مسار الأحداث القادم على نحو يحتّم انقلاب المشهد السوري برمّته، الأمر الذي قادها إلى «عاصفة السوخوي» بعد ستة أشهر من تلك اللحظة، لكنه يشير في العمق إلى عضوية العلاقة الروسية مع الجغرافيا السورية التي كان اختيارها لإطلاق «الصرخة» الروسية الأولى في مسار استعادة «المجد» السوفياتي الضائع دلالة فاقعة على تلك العضوية.

* كاتب سوري