مع بداية الألفيّة الثانية، وصعود هوغو تشافيز بشكل ديموقراطي سلمي في فنزويلا، تغيّر أسلوب المواجهة بين الولايات المتحدة بأذرعها الاستخباراتية والاقتصادية والإعلامية من جهة، والقوى اليساريّة/ الوطنيّة/ الشعبيّة في القارّة اللاتينيّة من جهة أخرى. فبعد أن كان شكل المواجهة يكاد ينحصر في صراع عسكري بين حركات ثوريّة مسلّحة وأنظمة ديكتاتورية مدعومة من أميركا، تحوّل إلى مواجهة شعبيّة/ سياسيّة لقوى منتخبة ديموقراطيّاً تعبّر عن الأغلبية وبين أميركا ذاتها كدولة عظمى.وبعد أن صمد نظام تشافيز وتمكّن من إحباط كلّ المؤامرات الأميركية لإسقاطه (قائد الانقلاب في فنزويلا سنة 2001 كان صديقاً شخصياً لجورج بوش الأب يخرج معه في رحلات صيد السمك) بدأ تأثيره يمتد إلى أنحاء القارّة اللاتينيّة حيث صار تشافيز يعتبر الخليفة الشرعي والوريث لتراث فيدل كاسترو. والنتيجة كانت صعود قوى يساريّة/ اشتراكيّة إلى الحكم في العديد من دول الجوار منها بوليفيا والأوروغوي والإكوادور، بالإضافة إلى أكبر دول القارة البرازيل. أميركا من جانبها لم تسكت، بل انخرطت في معارك ضارية على جميع الجبهات لإحباط المدّ اليساري وأنظمته الصاعدة في أميركا اللاتينيّة.

«الشعب الموحّد لا يهزم» جداريّة ثورية في تشيلي السبعينيات لمجموعة «Brigada Ramona Parra»

وبهذه الخلفيّة يأتي الخبر من تشيلي بفوز المرشّح اليساري الشاب غابريال بوريك في الانتخابات الرئاسيّة ليتوّج سلسلة من الانتصارات التي حقّقتها القوى اليسارية/ الاشتراكية/ الشعبية في السنوات الأخيرة بما يُمكن اعتباره عودة مظفّرة بعد فترة من التراجع بفعل الضربات التي وجّهتها أميركا والقوى التابعة لها. غابريال بوريك المناضل اليساري الشاب (مولود 1985) المنحدر من مدينة بونتا أريناس النائية في أقصى جنوب تشيلي القريبة من القطب الجنوبي، انتصر على مرشّح اليمين المتطرّف خوسيه أنطونيو كاست (وهو لا يُخفي إعجابه بدونالد ترامب وبالرئيس البرازيلي بولسونارو ومن قبلهما بالديكتاتور التشيلي القديم الجنرال بينوشيه) الذي طرح برنامجاً اقتصادياً شديد الليبراليّة ينصّ على تقليص نفقات الدولة وخفض الضرائب على الشركات.
وبرغم صغر سنّه إلّا أن لبوريك تجربة سياسيّة لا بأس بها بدأها حين كان طالباً وناشطاً سياسيّاً في جامعة تشيلي في سانتياغو العاصمة حيث درس القانون وترأّس اتحاد الطلبة سنة 2009 كمرشّح عن الحركات اليساريّة وخاض نضالاً طلابياً وتزعّم احتجاجات دامت 44 يوماً ضدّ إدارة الجامعة وعميدها. وفي عام 2014 نجح في الانتخابات البرلمانية كمرشّح مستقلّ ممثّلاً لمنطقة أقصى جنوب تشيلي. وخلال وجوده في مجلس النوّاب كان نشيطاً جداً وتركّز اهتمامه في مجالات حقوق الإنسان، والسكّان الأصليّين لتشيلي، وتنمية المناطق النّائية والقطبية، قانون العمل والضمان الاجتماعي.
بدأت مؤشّرات الصّعود اليساري في تشيلي قبل بضعة أشهر وذلك حين تقدّمت قوى اليسار بنسبة 33% مقابل 21% لقوى اليمين الحاكم في انتخابات الجمعية التأسيسيّة لصياغة دستور جديد (لاستبدال الدّستور الذي كُتب في عهد الديكتاتور اليميني بينوشيه). ويبدو أنّ نشاط بوريك وكفاءته وعمله الدؤوب دفعت اليسار في تشيلي، ومن ضمنه الحزب الشيوعي، إلى الإجماع على اختياره كمرشّح للرئاسة في مواجهة قوى اليمين التي تُسيطر على البلد منذ عقود.
ومن المفيد تلخيص التطوّرات الإيجابية التي حقّقها معسكر اليسار الديموقراطي على مستوى أميركا اللاتينيّة أخيراً:
في بوليفيا تمّت الإطاحة بالرئيس اليساري ذي الأصول الهندية إيفو موراليس عن طريق انقلاب سنة 2019 نفّذه الجيش بالتعاون مع اليمين المسيحي، ما اضطّره للّجوء إلى المكسيك. ولكن لم تمضِ سوى سنة إلّا وكان اليسار يعود بقوّة ويستلم الحكم من جديد وعن طريق الانتخابات التي أدّت إلى فوز حليف موراليس ورفيقه القديم لويس آرسي. ليعود بعدها موراليس إلى بلده معزّزاً مكرّماً.
في كوبا تمّت عمليّة انتقال السلطة من آل كاسترو إلى الجيل الجديد من أبناء الثورة ممثّلين بميغيل دياز بسلاسة ونجاح.
في فنزويلا بذل ترامب ومستشاره بولتون جهداً فائقاً للإطاحة بالحكم اليساري ممثّلاً بخليفة تشافيز، نيكولاس مادورو. ورتّبوا انقلاباً فظّاً بواسطة عميلهم رئيس البرلمان خوان غايدو الذي أعلن نفسه رئيساً وحصل على اعتراف أميركي (وأوروبي) به كرئيس. ولكن الحكم الوطني صمد ببطولة وتماسك إلى أن أفشل المسعى الأميركي. والآن خوان غايدو انتهى تماماً وتحوّل إلى إحدى فضلات ترامب السياسيّة.
في نيكاراغوا لا زال حكم الساندينيستا اليساري قائماً منذ أن عاد سنة 2006 بعد أن نجح في سلسلة انتخابات سنة 2011 و2016 برئاسة الثّوري القديم دانييل أورتيغا الذي صمد في وجه ضغوطات وتحدّيات جماعة أميركا ممثّلين بابنة الرئيسة اليمينيّة السّابقة تشامورو. وفي الشهر الماضي نجح أورتيغا في الانتخابات الرئاسيّة لدورة جديدة مدّتها خمس سنوات.
في الأرجنتين استلم الرئيس اليساري البرتو فرنانديز الحكم بعد فوزه بانتخابات 2019 على الرئيس الليبرالي ماكري.
في بيرو أصبح المناضل اليساري، معلّم المدرسة، بيدرو كاستيو رئيساً للبلاد بعد فوزه في الانتخابات التي جرت في شهر أيّار الماضي.
وفي البرازيل: معروفة قصّة الإطاحة بالرئيسة اليسارية المناضلة دلما روسيف عن طريق مكائد ومؤامرات برلمانية ومن ثم تمّ تعيين ميشيل تامر اللّبناني الأصل كرئيس مؤقّت قبل أن يأتي اليميني وصديق ترامب بولسونارو إلى الرئاسة اعتماداً على دعايات وحملات فجّة مليئة بالأكاذيب. لكن الآن الأمور تتغيّر بسرعة وكل الأخبار الواردة من البرازيل تُفيد بأن الرئيس اليساري العتيد لولا داسيلفا، معلّم دلما، قد يكون في طريقه للعودة إلى الرئاسة. فقبل بضعة أشهر أصدر أكبر قضاة المحكمة العليا قراراً بإلغاء إدانة لولا داسيلفا بالفساد وإعادة حقوقه السياسية، ممّا يعني إمكانية ترشّحه للرئاسة سنة 2022 ضد الرئيس الحالي بولسونارو الذي يُعاني من تدهور شديد في شعبيته ومكانته. واستطلاعات الرأي تعطي لولا تقدّماً على خصمه - صديق ترامب.
وفي المكسيك صعد اليسار للحكم للمرة الأولى بعد الفوز التاريخي الذي حقّقه الرئيس مانويل أوبرادور في أواخر 2018 على اليمينيّين من حلفاء أميركا.
والآن تنضم تشيلي إلى أخواتها لتتوّج موجة الصعود الثانية والقوية لقوى اليسار والاشتراكية في مختلف أنحاء أميركا الوسطى والجنوبية. وتبدو مشاعر التّضامن والأخوّة اللاتينيّة بين شعوب القارّة قويّة جداً في مقابل الـ«يانكي» الأميركي الذي يواجه أوقاتاً عصيبة في القارة التي طالما اعتبرها حديقته الخلفيّة.
عند إدلائه بصوته في مدينته القطبيّة القريبة من مضيق ماجيلّان، قال غابريال بوريك «سوف نجعل تشيلي أكثر إنسانيّة وأكثر جدارة وأكثر مساواة».
مبروك لتشيلي رئيسها الشاب ولا عزاء للرأسمالية المتوحّشة.

* كاتب من الاردن