نواصل استعراض سلسلة مفاجآت الانتخابات العراقية الأخيرة، والتي توقفنا عند بعض حلقاتها في مناسبة سابقة («الأخبار»، عدد 2303، في 28 مايو/ أيار 2014). المفاجأة الأخرى والتي كانت متوقعة من قبل أطراف قليلة، هي خسارة التيار الصدري إذْ فقد ربع كتلته النيابية الحالية بموجب النتائج الأولى، ثم تضاءل حجم الخسارة، بعد احتساب فائض الأصوات واستقر عند فقدان ستة مقاعد. كُثر توقعوا أن يحقق هذا التيار، الذي نزل إلى الانتخابات بثلاث قوائم تقدماً كبيراً، بل إن بعض قادته رفع سقف طموحاته كثيراً، وقال إنهم سينافسون ائتلاف المالكي على المرتبة الأولى، وأخذوا يروّجون أسماء عدة لمرشحهم الخاص لرئاسة الوزراء.
ولكن ما حدث جاء معاكساً لتلك التوقعات المتفائلة، وهذا ما استشرفه كاتب هذه السطور فتوقع أن يخسر التيار الصدري بعض مقاعده، ولكن ليس إلى درجة سيئة جداً، بفضل آلته الحزبية التي «ستحد من تلك الخسائر». وكتبنا بهذا الخصوص «يمكن لنا أن نتوقع حفاظ التيار الصدري على مقاعده الأربعين أو أن يحد من خسائره المتوقعة كثيراً، غير أنه سيكون بعيداً من مصير آخر أكثر سوءاً بفضل آلته الحزبية رغم ما أصابها من صدوع وتشققات خلال الفترة الماضية» («الأخبار»، 2279، في 25 نيسان 2014)، مع الإشارة إلى أن هذا التذكير بما استشرفناه من نتائج ليس الهدف منه البحث عن براءات اختراع تحليلية قد يلهث البعض خلفها، بل هو ضرورة اقتضتها سياقات التحليل، لنعرف أين أصبنا وأين أخطأنا ولماذا.
صحيح، أنّ التيار الصدري كان بعيداً من مصير آخر أكثر سوءاً، ولكن هذه الخسارة قد تضعه في مواجهة أسباب الهزيمة التي حلت به، وخصوصاً في معقله العمالي «مدينة الثورة/ الصدر»، وستجعله أمام ضرورة المراجعة النقدية العميقة إنْ كان هناك متسع من الوقت والحكمة لدى قيادته للخروج من الإطار الطائفي والتمرد على تابوهاته التحريمية التقليدية والقطع مع شعاره المنادي بـ«نصرة المذهب»، والانسجام والتفاعل مع الانحدار الطبقي لغالبية جمهوره العمالي وصبوات وأهداف هذا الجمهور.
قائمة «المواطن» التابعة لحزب المجلس الأعلى بقيادة الحكيم، جاءت بنتائج مخيبة للآمال هي الأخرى، رغم أن ما كسبته من مقاعد فاق ما كان بحوزتها، ولكن، قياساً إلى التوقعات والتطلعات كانت تلك النتائج محبطة لقادته الذين كانوا يمنون النفس بعبور حاجز الأربعين مقعداً، ولكن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر. وقد توقعنا أن تحرز «المواطن» بعض المكاسب فكتبنا أن «حزب المجلس الأعلى بقيادة عمار الحكيم، قد يستثمر نجاحاته في الانتخابات المحلية الأخيرة فيوسع حصته من المقاعد في البرلمان المقبل قليلاً». وهذا ما حدث، حيث ارتفع عدد مقاعده من 21 مقعداً «انشقت منظمة بدر منها بتسعة مقاعد بعد انتخابات 2010»، إلى 29 مقعداً فلم ينجح في عبور حاجز الثلاثين.


خسارة التيار الصدري ستضعه أمام ضرورة المراجعة النقدية العميقة

أما بخصوص القوائم الانتخابية لمكوّن العرب السنة فقد كانت توقعاتنا مقاربة كثيراً لما تمخضّت عنه صناديق الاقتراع فقد توقعنا «أن يخسر ائتلاف النجيفي كثيراً في الأنبار وستكون خسائره أقل في نينوى». أما الحزب الإسلامي (فرع الإخوان المسلمين) فهو لن يتمكن كما يبدو، في الخروج من حالة فقدان الوزن والاختناق الجماهيري، رغم ما بحوزته من المال السياسي، القطري تحديداً. وهذا ما حدث بالضبط، فقد حافظ النجيفي على مقاعده في نينوى مع انخفاض كبير في حجم التأييد وهو استمرار لانخفاض بدأ منذ انتخابات المجالس المحلية في العام الماضي قدّره النائب المنشق عن الكتلة زهير الأعرجي بأكثر من مئة ألف صوت في الانتخابات المحلية وهذه أرقام تبدو مبالغاً فيها. في الأنبار صحّت توقعاتنا من أن الناخبين هناك سيعاقبون النجيفي وقائمته «متحدون»، وهذا ما حدث، فلم يحصل إلا على مقعد واحد، وتكفل حلفاؤه في قائمة «الحل» الأنبارية بكسب ثلاثة مقاعد أخرى. كما خسرت قائمة صالح المطلك عدداً من مقاعدها هي الأخرى، وهي تحاول الآن أنْ تُحيي التحالف العربي السني القديم في «العراقية» مع النجيفي، من خلال قوة سياسية أو برلمانية جديدة أطلقوا عليها اسم «اتحاد القوى الوطنية». ويبدو أن المطلك وقيادة حركته قد تراجعوا عن شعاراتهم المدنية والقومية السابقة وتخلوا عن وصفهم للنجيفي وائتلافه بأنهم «إسلاميون محافظون لا يمكن الاتفاق معهم على برنامج وطني مدني»، وبات هَمُّ المطلك الحفاظ على كتلته الناخبة في حاضنته الطائفية كسائر الأحزاب، والحصول على بعض مكاسب وامتيازات الحكم تحت راية آل النجيفي وحزبهم القوي في نينوى. ويرجح مراقبون أنّ هذا المسار الجديد لجبهة المطلك قد لا يستمر طويلاً وقد تنتج منه انشقاقات وتمردات خصوصاً من النواب والقياديين الأكثر تمسكاً بفكرهم القومي والمدني، والأكثر رفضاً للتوجهات الطائفية. أما الحزب الإسلامي وهو الفرع العراقي لحركة «الإخوان المسلمين» فلا يعرف على وجه الدقة عدد المقاعد التي حصل عليها، ولكن زعيم الحزب إياد السامرائي قدم على صفحة الحزب الرسمية على «فيسبوك» «تهانيه وتبريكاته لجميع مرشحي الحزب الإسلامي العراقي من الذين حالفهم الفوز في الانتخابات البرلمانية، متمنياً لهم دوام التوفيق والنجاح في خدمة بلدنا الحبيب»، ولم تذكر الصفحة اسم أيّ من الفائزين ولم تشر أيضاً إلى أن السيد السامرائي نفسه خسر مقعده البرلماني في هذه الانتخابات، غير أن بعض الصحافيين رجح حصول هذا الحزب على مقعدين ضمن تحالف «ديالى هويتنا» للعرب السنة في محافظة ديالى.
أخيراً، فقد كانت النتائج الانتخابية التي أحرزها «التيار المدني الديموقراطي» بائسة جداً، وفشل الحزب الشيوعي في إيصال ممثله كما قلنا إلى البرلمان، ولكن إحدى مرشحاته، المهندسة شروق العبايجي، فازت بمقعد من الكوتا النسوية، وخرج عضو مكتبه السياسي جاسم الحلفي خالي الوفاض مع أنه كما قيل حصل على أكثر من سبعة عشر ألف صوت في بغداد. لقد بالغ بعض أنصار هذا التيار في تفاؤلهم وتوقعوا أن يحصلوا على ما بين عشرة وخمسة عشر مقعداً، وكانت النتيجة ثلاثة مقاعد وهذا ما توقعناه حين قلنا «ولكن هذه القائمة كما يبدو لن تحصل على الكثير». أما فوز المرشح المتصهين مثال الآلوسي فيمكن تفسيره بعوامل عدة منها: تعاطف البغداديين البسطاء مع مأساته الشخصية حيث قُتِلَ ولداه أثناء محاولة اغتياله التي قام بها مسلحون يعتقد أنهم من تنظيم القاعدة، قبل بضع سنوات، واتهم بالتورط فيها وزير الثقافة الأسبق أسعد الهاشمي الهارب من وجه القضاء والمحكوم غيابياً بالإعدام سنة 2008. وثانياً، وفرة المال السياسي التي قيل بأنه حصل عليها. وثالثاً، استفادته من حصيلة الأصوات التي جمعتها قائمة الخيار المدني الديموقراطي مثلما أكد أحد الناشطين على أحد مواقع التواصل الاجتماعي حيث كتب «مثال الآلوسي وفائق الشيخ علي فازا بواسطة مظلة هذه القائمة، فأصواته – الآلوسي - منفردة لا تؤهله لنيل مقعد لأنه حصل على 30 ألف ووزن المقعد 38 ألفاً... أي انه استفاد من أكثر ثمانية آلاف صوت جاءت للقائمة بلا تحديد اسم المرشح أو جاءت لمرشحين آخرين». وهناك أسباب أخرى ستظل طي الكتمان كما قيل في الوقت الحاضر وتتعلق بعدم نزاهة بعض المسؤولين من أصدقاء الاحتلال الأميركي في مفوضية الانتخابات. من المفاجآت الطيبة زيادة عدد النساء اللائي فزن بأصوات، خارج نطاق الكوتا النسوية وحصدن بأصواتهن الحقيقية أكثر من عشرين مقعداً، وحصلت بعضهن على أصوات تفوق ما حصل عليه قادة وزعماء أحزاب معروفة. وتضمن الكوتا النسوية للعرقيات ربع مجلس النواب أي 82 نائباً، وكان عدد المرشحات قد تضاعف مرة ونصف المرة عن الانتخابات السابقة، فبلغ 2592 مرشحة في مقابل 6772 مرشحاً من الرجال، أي أن أكثر من ثلث المرشحين كان من النساء. وهذا اقتراب نوعي ومهم جداً من المساواة الجنسية المنتزعة بجهود النساء وليس عبر مكرمة ذكورية تدعى «الكوتا». وستكون لهذه الأرقام دلالات اجتماعية في غاية الأهمية عراقياً وعربياً وعالمثالثياً مستقبلاً، إذ لم يسبق لأي مجتمع عربي أو عالم ثالثي أن قدم نسبة كهذه على مستوى الترشيح حتى في التجارب الانتخابية العريقة كالتجربة الهندية.
ومن المفاجآت اللافتة أيضاً، فشل عدد معتبر من أبرز قادة حزب رئيس الوزراء المالكي، حزب «الدعوة الإسلامية في الاحتفاظ بمقاعدهم البرلمانية ومن هؤلاء وليد الحلي وكمال الساعدي وسامي العسكري وحسن السنيد وخالد العطية وعلي الشلاه، في مقابل نجاح مرشحين عدة من أقارب المالكي من الدرجة الثانية في الانتخابات وبكميات معتبرة من الأصوات عُرِف من بينهم ابن أخيه مظفر المالكي وصهراه «زوجا ابنتيه» ياسر عبد صخيل وحسين أبو رحاب المالكي، وكانت هذه المفاجأة «المركبة» مبعث استغراب وحيرة في قيادة الحزب، ودافعاً لفتح نقاشات بين المحللين والمراقبين عن سيرورة تحول محتملة قد يكون حزب المالكي دخلها وقد تنتهي بتحوله إلى حزب عائلي كسائر الأحزاب العراقية العائلية والعشائرية الكبيرة كأحزاب آل البارزاني والطالباني والصدر والحكيم والنجيفي، غير أن هذه الظاهرة، في ما يتعلق بحزب المالكي، ستكون مختلفة جذرياً، ومحدودة التأثير في الوقت الراهن؛ فأقارب المالكي هؤلاء دخلوا المنافسة إما كمرشحين عن قائمة «دولة القانون» وليس عن الحزب، وإما كمستقلين. ومع أن حزب المالكي أو غيره ليس معصوماً من سيرورة تحول كهذه في ظروف العراق الراهنة حيث الفساد شامل والفوضى معممة، غير أن أحكاماً قاطعة في هذا السياق تعد مبكرة وليس هناك من إحصاءات ووقائع ملموسة وذات وزن تؤيدها، ولهذا فقد يدخل الحديث عن بديات تحول حزب المالكي إلى حزب عائلي في خانة «شيطنة» الخصم السياسي وضمن حملات التسقيط الانتخابي وليس التحليل العلمي.
على صعيد آفاق العملية السياسية في العراق وترجمة هذه الأرقام والنتائج سياسياً، لا يسعنا إلا تكرار ما ذكرناه من استنتاجات في مناسبات سابقة ومن ذلك:
ــ لا حل ولا مخرج للأزمات السياسية والاجتماعية الخانقة التي يعاني منها العراق إلا بحل وإنهاء هذه العملية السياسية التي أسسها وأطلقها المحتلون وإطلاق عملية سياسية وطنية تقطع مع المحاصصة الطائفية والمشروع الأميركي لبناء دولة المكونات وتؤسس للدولة المدنية العلمانية، دولة المواطنة الحديثة والمساواة.
ــ إن حكومة الغالبية السياسية التي ترفع شعارها أطراف عدة، من بينها ائتلاف المالكي، لن تكون في أحسن الأحوال إلا حكومة محاصصة طائفية ولكنها ستكون «محاصصة مُحسّنة ومختصرة» قليلاً.
ــ إن حصول قائمة المالكي وحلفائه خارج وداخل التحالف الوطني «الشيعي» على غالبية نيابية تمكنها من تشكيل الحكومة، احتمال قائم – خصوصاً، بعد أن اندمجت ثلاث كتل صغيرة في «دولة القانون» ورفعت حصادها إلى 112 مقعداً وقد تزيد - وقد يحدث العكس وتشكل قوى تحالف «أربيل» تلك الحكومة، أو أنَّ هناك خياراً ثالثاً يقود إلى تشكل «ائتلاف الأقوياء» قد يشارك فيه النجيفي أو المطلك أو كلاهما، وعندها يتحول الطرف الكردي «التحالف الكردستاني» إلى طرف ثانوي، ربما ينشق عليه الطالباني ليتحالف مع المالكي كما ترجح بعض المصادر وبهذا تنتهي فترة دكتاتورية الأقلية المجتمعية «الكردية» على الغالبية السكانية العربية، والتي كانت قائمة طوال العقد الماضي. ولكن تحقق الاحتمال الأول أو الثاني أو الثالث لن يكون حلاً حقيقياً بل استمرار للدوران في حلقة المفرغة للعملية السياسية الطائفية وشرورها الكثيرة.
* كاتب عراقي