في تعليقه على مقالة علاء اللامي («الأخبار»، 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021)، تفضَّل الأمين أحمد أصفهاني بالقول: «تعدّدت الأسامي والهوية واحدة». وأنا أضيف: «مرتا... مرتا... إنَّكِ تهتمين بأمورٍ كثيرة، وتضطربين! إنَّما المطلوبُ واحد!».في المقالة مغالطات تحتاج إلى رد. فقبل أن يُعلنَ الكاتب عن رأيه بالموضوع، يبدأ النقاش بصيغة سؤال: «هل كانت بلاد الرافدين جزءاً من سوريا الكبرى أم العكس؟». وجوابه أن لا العراق جزء من سوريا الكبرى ولا هذه جزءٌ من العراق، مستشهداً بالتاريخ الذي يحلو له... ليصل إلى قوله: «العراق عراق، والشامُ شام، والحجاز حجاز، ومصر مصر، والمغرب مغرب، وهذه هي الأقاليم الرئيسة العريقة المكوِّنة للجغرافيا العربية...». ولم يذكر الخليج الذي كان جزءاً من المنظومة الرافدية بضفتيه الشرقية والغربية حتى مضيق هرمز. ولم يذكر الحجاز منطلق الرسالة المحمدية وقبيلتها قريش، القبيلة النبطيَّة الشامية التي كانت جسر الحياة بين الحجاز والشام تاريخياً وفكرياً واقتصادياً. ففي فجر الرسالة المحمدية كانت البتراء هي القبلة.
لست مؤرّخاً، لكن لي بعض الاطلاع على مؤلفاتٍ لمؤرّخين معروفين أمثال طه باقر وفراس السواح والمؤرخ اللغوي محمد بهجت قبيسي. إن تناقض مفهومه للتاريخ وللجغرافيا أدَّى به إلى ضياعٍ بين «الأسامي» المختلفة لمنطقة تميّزت بوحدة الحياة اقتصاداً وبيئة ومناخاً وتاريخاً وثقافة، حيث كانت مهداً للحضارة الإنسانية بكلِّ عناصرها ومكوِّناتها. وهذا التناقض جعله يتجاهل وحدة الحياة بين الناس على مدى عشرات القرون. ومقاله عَبَّر عن إقليمية يحمل لواءها بعض العراقيين، ولا تختلف عن الإقليميات التي ترفع رؤوسَها في المنطقة اليوم.
وبالفعل، كما ذكرت في ردّك، فـ «المسائل التي أثارها هي ذات مدلولات سياسية، لا علاقة لها بالتاريخ والجغرافيا والتفاعل الحضاري بين المكوّنات السكانيَّة». نعم «أسماءُ الدولِ والشعوبِ والمناطق ليست ثابتة بالمطلق، وهي قد تتغيَّر بسبب الظروف المرتبطة بالفتوحات والغزوات والهجرات البشرية». لكن هذا يجب ألَّا يخضع للمفهوم التوراتي لبابل الذي يشبه ما فعله الأستاذ اللامي في بلبلة الأسماء.
وقد تناسى الأستاذ اللامي وليمة سايكس ـــ بيكو عام 1916 على هذه الأرض ـــ الذبيحة وما خلَّفت من كيانات سياسية، وتناسى كذلك وعد بلفور عام 1917. حتى إنه لم يوردهما في مقاله. والمنطقة كلها، في الحقيقة لم تكن إلا كياناً حياتيَّاً واحداً (جغرافياً وبيئة وثقافة واقتصاداً)، تنوَّعت فيه المراكز الحضارية على الشكل التالي
العراق: يوم كانت بابل وحتى أيَّام عمر بن الخطاب أو المنصور... لم يكن العراقُ كعراق اليوم، إذ كان يضم المنطقة الواقعة حول الرافدين جنوبي بغداد شاملة شرق الخليج وغربه حتى مضيق هرمز، ويمتدُّ غرباً فوق الصحراء المحاذية التي كانت مسكناً للعمالقة العراقيين.
الشام: وهي المنطقة التي تقع غرب الفرات إلى الشرق من البحر الأبيض المتوسط، وتمتدُّ من الجبال الشمالية إلى آخر حبة في رمال سيناء. واسم الشام مشتقٌّ من كلمة شمال، من الواقف في الحجاز بموازاة ما على يمينه أي اليمن. أمَّا عن اسم «سام» فهو ابتكارٌ توراتي لم يظهر أيُّ أثرٍ له في كلِّ الاكتشافات الأثرية الحديثة. وفي هذا الخصوص، وفي كتابه «العرب قبل الإسلام» يقول المؤرخ جرجي زيدان: «وقَلَّدَ العربُ اليهودَ وغيرهم في كثيرٍ من طرق العِلْمِ، فاقتبسوا منهم ردَّ كلّ أمَّةٍ إلى أبٍ من آباء التوراة...» ( ص 17).
الجزيرة: تعترف بوجودها كل المدوّنات العربية والإسلامية وتمتد شرقاً من جبال زاغروس إلى الضفة الشرقية لنهر الفرات حيث تخوم حلب، ومن بغداد جنوباً وما بين النهرين إلى أعلى منابعهما شمالاً. كانت مهداً للحضارة الأشورية، وللعنفوان الحمداني ضد الغزوات الرومانية، وحيث كانت «أورفة» (التي سمَّاها أرضاً تركيَّة)، وكانت ديار بكر (نسبةً إلى قبيلة بكر)، وحيث كانت ماردين وطور عابدين. وحيث لهجة سكان دير الزور هي نفس لهجة سكان الموصل ـــ نينوى.
تاريخياً، نعم بلاد الرافدين هي مهد الحضارة التي ظهرت في الطرف الشرقي للهلال الخصيب بدءاً بـ «حضارة العُبيد» حيث ظهرت اللغة لأول مرة منذ سبعة آلاف سنة، منها جاءت اللهجات العدنانية والآرامية والنبطية والتدمرية والحميرية (راجع كتاب «حضارة واحدة لا حضارات»، وكتاب «ملامح في فقه اللهجات العربيات» للمؤرخ اللغوي محمد بهجت قبيسي). وامتدت هذه الحضارة بالصروح البابلية ومن ضمنها الكنعانية المشرقية المتمثِّلة بدولة حمورابي.
ومن وسط هذا الهلال ظهرت الحضارة الأشورية وحضارة ماري وتدمر والبتراء. أما الطرف الغربي فقد كان مسرحاً لحضارة الفرع الغربي الكنعاني، ولحضارة إبلا.
نعم الوضع حالياً: العراق عراق بلا الخليج، والشام شام بلا العراق، ولبنان لبنان بلا الشام، والأردن أردن بلا الحجاز، وفلسطين بلا كون، وبئس هذا الوضع.
إن الكيانات السياسية التي يتحدث عنها الأستاذ اللامي هي من مخلّفات سايكس ــ بيكو ومؤتمر سيفر عام 1920 وما تلاه في لوزان عام 1922 ـــ 1923 ومن الباخرة كوينسي في 14 شباط/ فبراير 1945. أما الحضارة فتعرف الأرض التي قامت عليها، مهما اخترع الأستاذ اللامي من أسماء. مرةً أخرى: «مرتا... مرتا... إنَّكِ تهتمين بأمورٍ كثيرة، وتضطربين! إنَّما المطلوبُ واحد»! والواحدُ هو وحدة الحياة بين الناس.
* كاتب وطبيب لبناني