عقدتُ — ومن أنا؟ — قبل أشهر جلسةً عبر «كلوب هاوس» عند تدشين الوسيلة الجديدة للحديث عن فشل حزب الله الإعلامي (كان يجب أن أضيف «الذريع» على كلمة فشل). وتحدّثت في حينه عن جملة من العثرات في الأداء الإعلامي للحزب. والإعلام هو عنصر أساسي في السياسة في عصرنا إلى درجة أن الأحزاب الفاعلة في الغرب (وفي بعض دول العالم النامي، مثل لبنان) تسخّر أجهزة للردّ على مدار الساعة على أي نقد يطاولها. إعلام الحزب ينتمي ويتحرّك في عصر ليس من عصرنا، وهو يذكّر أحياناً في جموده وعبوسه بعصر نشرات الأخبار الصارمة والبالغة الجديّة في سنوات صباي. الكلام عن أن المشكلة في الحرب الإعلاميّة الجارية هي مشكلة تمويل لا يمكن أن تُقنع. غسان كنفاني عمل في إطلاق «الهدف» بإمكانات متواضعة جداً في عصر كان يعجّ بالمطبوعات المموّلة من قبل الخليج والغرب ومعمر القذافي وصدّام حسين ونجح أيّما نجاح في إعلامه. حركة «المرابطون»، مثلاً، كانت أنجح إعلاميّاً من كل الأحزاب الشيوعيّة في لبنان. شحّ التمويل ليس حجّة عندما يكون وجودك ومشروع المقاومة في خطر ماحق. وأكبر دليل على تعثّر الحزب الإعلامي أنه دائماً يحتاج إلى أن يفسّر ما يقول وأن يوضح ما يقول لأن تصريحاته غير مدروسة ولا تأخذ ردود الخصوم الجاهزة في الحسبان.
سيرجيو إنغرافالي (ألمانيا)

هذا الأسبوع سرت على المواقع حملة تضامن كبيرة مع فارس سعيد. الهاشتاغات (التي تخضع دائماً لمشيئة جيوش إلكترونيّة للنظاميْن السعودي والإماراتي) جعلت منه الشخصيّة الأولى في أيّام الأسبوع. الرجل الذي لا ينفكّ يبحث عن دور سياسي أوجدَ حزب الله له دوراً بالقوّة وطوّبه زعيماً مسيحيّاً في جبيل وسائر أنطاكيا. الرجل الذي يحلم بالمجد النيابي منذ أن غادره رستم غزالة الذي كان يأتي به نائباً (هل نسي الناس المدائح التي كان فارس سعيد يُكيلها لبشار الأسد ولأبيه في «نهاركم سعيد»؟ أنا أذكر) قد يعود إلى النيابة بفضل حزب الله. من الذي قرّر أن أفضل طريقة للردّ على فارس سعيد، الذي يسعى بحكم متطلّبات لفت أنظار النظام السعودي إليه إلى استدراج الحزب، منحه فرصة لاستدراج الحزب وجعله ضحيّة لحملة قمع (وإن لم يكن ذلك صحيحاً، فالكذب من عناصر إعلام أعداء الحزب). هناك مَن قرّر أن إقامة دعوى ضد فارس سعيد هي سياسة ذكيّة وأن توحيد خصوم الحزب في حملة لدعم حرية التعبير هو رأس الحكمة (طبعاً، جماعة 14 آذار والثاو الثاو ومواقع التمويل الغربي والخليجي الجديدة أثبتوا عداءهم لحريّة التعبير في صمتهم لا بل في تأييدهم لحملة السعودية والإمارات على حرية التعبير في لبنان). قد يكون ذلك من ضمن سياسة الحزب التي ساعدت سمير جعجع في رفع مستوى تمثيل حزبه في الانتخابات المقبلة بسبب حملة عملاقة من الحزب ضدّه لم تنجح إلا في تأليب رأي عام طائفي (ومدني طبعاً، حتى لا ننسى ميغافون «المستقلّة»، ــ على سيرة الإعلام المستقل رصدت إدارة بايدن مبلغ 424 مليون دولار من أجل دعم «الإعلام المستقل» والناشطين في الدول النامية وهذا سيعود على لبنان بالدولارات الطازجة) حوله. يقول جان عزيز إن الحزب مأزوم (لكنّ عزيز قال إن نعيم قاسم في تصريح غير موفّق قال إن كل من لا يوافق على جمهورية حزب الله أن يغادر البلد. لم يقل قاسم ذلك أبداً. هو تحدّث عن دولة ذات سيادة لكنّ الأمر التبس على عزيز). والحزب يبدو مأزوماً من خلال سلوك ممثّليه في الإعلام (وهم غائبون) ومن خلال مؤيّديه على مواقع التواصل. نستطيع أن نفصل السلوك الإعلامي للحزب عن السلوك السياسي لأن العلاقة جدلية بين الاثنيْن. الحزبان الحاكمان هنا في أميركا يقرّران سياسات عامّة وإعلاميّة تفصيلية قبل خوض أي انتخابات. والأحزاب تفتح مكاتب مهمتها درس الخصم السياسي وتفنيد أقواله، وهذا ما فعله الملك الإعلامي التابع للتحالف الخليجي-الإسرائيلي-الأميركي والمُدار من قبل المكتب الإعلامي الأميركي في دبي. هناك عند الأحزاب اليوم ما يُسمّى بـ»مكاتب أبحاث المعارضة»، أي التفتيش والسعي لإبراز نقاط تُستخدم في حرب إعلاميّة قاسية.
يجب أن نفصل في الحديث عن السلوك الإعلامي للحزب بين حربه النفسية ضد العدوّ وبين إعلامه الموجّه إلى الداخل. في الحرب النفسيّة ضد العدوّ، ليس هناك ما يضاهي أسلوب الحزب وقائده في التخاطب مع العدوّ وفي تخويفه عندما يلزم. كنتُ أقول لصديق عزيز عن جورج حبش إن خطابه بالرغم من صدقه وإخلاصه وعنفوانه وجذريّته لم يكن مدروساً في التوجّه نحو العدوّ. كان انفعالياً، وكان أكثر انفعاليّة من خطاب عبد الناصر (خطاب عبد الناصر ضد العدوّ كان— خلافاً لما يشيعه إعلام كتبة الأمراء والشيوخ من اللبنانيّين — خطاباً مدروساً ومتحفظاً أيضاً. الإحراج البعثي (السوري) والأردني (من قبل وصفي التل) ضد عبد الناصر هو الذي دفع النظام المصري إلى الانفعالية وهذه لا تُغتفر خصوصاً إذا كان القائد العام للقوّات المسلحة شخصاً فاشلاً في مهامّه على شاكلة عبد الحكيم عامر الذي طمأن عبد الناصر «برقبتي» عن تحضّر الجيش المصري لاستيعاب الضربة الأولى. هذا يعطي خطب الأمين العام لحزب الله أهميّة عند إعلام العدوّ لم تحزها خطب قادة عرب عنده من قبل. لا أتصوّر أن العدوّ كان يرصد خطب عرفات أو حتى حبش كما يرصد خطب نصرالله. الفارق أن نصرالله نجح في تشكيل تهديد جدّي للكيان وأنه هزم وأذلَّ العدو في أرض المعركة. هذا لم يتوفّر أبداً في تاريخ منظمة التحرير أو الحركة الوطنيّة الأصغر شأناً. نستطيع أن نشير إلى عملية عسكريّة جريئة هنا أو هناك لكن غالبية العمليّات فشلت في تحقيق أهدافها لغياب المركزية في قيادة المعركة. المركزيّة الوحيدة التي فرضها عرفات كانت في منع أي إطلاق نار أو صواريخ ضد العدوّ إلا عندما كان يريد بناءً على برنامج دبلوماسي لا عسكريّ.
نجح السيد حسن نصرالله في تشكيل تهديد جدّي للكيان، وهزمت المقاومة العدو وأذلّته. هذا لم يتوافر أبداً في تاريخ منظمة التحرير الفلسطينية أو الحركة الوطنيّة


الحزب رصدَ العدوّ كما لم يُرصد من قبل. أسّس مدرسة لتعليم اللغة العبريّة. على أيامنا في الحركة الوطنيّة ومنظمة التحرير، كنا نعتمد على مترجم في «مؤسسة الدراسات الفلسطينيّة» لترجمة نصّ عن اللغة العبريّة. الحزب يعرف كيف يُخيف العدوّ وكيف يهزمه. مقالة في «فورين بوليسي» هذا الأسبوع تقول بصريح العبارة إن جيش العدوّ غير قادر على اللجوء إلى خيار عسكري ضد إيران لأنه لم يفق بعد من صدمة هزيمته الشنيعة أمام حزب الله في حرب تمّوز. إعلام الغرب يقول إن الحزب هزم العدوّ وإعلام العرب ينفي أن يكون الحزب قد انتصر ضد جيش إسرائيل. العدوّ يعترف في لجنة تحقيق بهزيمته وهناك من أعوان إسرائيل في لبنان من يقولون للعدو: لا، أنتَ لم تُهزَم. أنت المنتصر أبداً ودوماً.
الحزب يظهر محتقناً. جمهور الحزب الذي كان قدوة في الأخلاق والانضباط والأدب على مواقع التواصل خرج من عقاله كليّاً وأصبح ضيّق الصدر وسريع الاستفزاز. أكبر دليل على ذلك: هناك أشخاص (إعلاميّات وإعلاميّون) متخصّصون من قبل النظاميْن السعودي والإماراتي أو من خلفهما لاستفزاز جمهور الحزب، وجمهور الحزب يقع في الفخّ أسبوعاً بعد أسبوع، أي أن جمهور الحزب مسؤول عن دفع وزيادة رواتب أعدائه في الإعلام الخليجي. وسيادة سرديّة 14 آذار ليست نتيجة فظاظة إعلاميّة بقدر ما هي نتيجة فشل إعلام خصمها وغياب سرديّته. وانجذاب شباب الجامعات نحو خصوم مشروع المقاومة هو أيضاً نتاج فشل إعلامي في التصدّي لأكاذيب ومزاعم وأباطيل إعلام اليمين الرجعي.
وليس أبلغ من فشل وتقصير الحزب الإعلامي من اعتماد الحزب وجمهوره على إطلالات الأمين العام للحزب للردّ على الخصوم وتفنيد أقاويله. لكن هذا دليل ضعف. نصرالله بات قائداً في محور إقليمي واسع. هل من الضروري على الذي يقود معركة المواجهة مع إسرائيل وصدّ عدوانها في الشرق أن يعدّ ردوداً تفصيليّة عن السياسات اللبنانيّة بما فيها ملف النفايات والمحاصصة وغيرهما من القضايا التي من المفترض أن تتولّى
أمرها كتلة الحزب. لو أن للحزب فريقاً إعلاميّاً يعمل يوميّاً وعلى مدار الساعة وليس في المناسبات والمواسم، لما احتاج نصرالله إلى الحديث بتفصيل عن قضايا داخليّة. لكنّ الحزب في السنوات الماضية منع نوّابَه ووزراءَه من الظهور على الشاشات كأنّ هذا الترفّع هو موقف أخلاقي حكيم. على العكس، الشاشة التي تغيب عنها يملؤها أعداؤك بالدزّينات. وهذا الغياب عن الإعلام اليومي (أي على مدار ساعات اليوم) يضع الحزب في موقع الدفاع عن النفس دائماً، لأن زمام المبادرة بيد خصومه. صحيح أن الهجمة ضد الحزب تتمنّع بموارد هائلة وبزخم يمثّل تحالفاً عالمياً يحمي إسرائيل.
الحزب في الإعلام يتعامل على أن دوره لا يتعدّى الحفاظ على تأييد جمهور الصف. والخطاب الإعلامي موجَّه إليهم، باستثناء خطب الأمين العام التي تحاول مخاطبة الطرف الآخر، لكنها تستدعي ردوداً فوريّة من كل المكلّفين ماليّاً بالتخصّص في تفنيد خُطب نصرالله (لا شكّ أن موقع ميغا بشير الجميّل وسامي الجميل يبرزان في سرعة الرد في الفترة الأخيرة). الحزب متعوّد على العمل السري وهو غير ماهر في العمل الجبهوي العريض. الحزب حريص على تحالفه مع حركة «أمل» مهما كان بالرغم على ما يظهر على سطح المواقع من نفور وتوتّر بين جمهور الحزب والحركة. الحزب يظهر كأنه لا يريد أن يُوسّع نطاق جمهوره، وأن تحالفاً طائفياً هنا وتحالفاً طائفياً هناك كفيلان بتدعيم قاعدة الحزب. لكن هذا يقلّل من إمكانيّة الحزب لكسب جمهور من الطرف الآخر. تقارن بين إعلام 14 آذار الذي خاطب جماهير كل الطوائف والذي تصنّع النطق باسم شعب لبنان. الحزب يبدو مكتفياً بقاعدته الطائفيّة طالما هو يصل من خلالها إلى البرلمان.
والحزب إعلاميّاً ينتمي إلى حقبة سابقة من الزمن، إلى الإعلام العربي الرسمي الشديد الرصانة والجديّة. ونشرات أخبار «المنار» تشهد بذلك. والحزب يشكو من لجوء خصومه إلى السخرية، كأنّ السخرية سلاح غير مشروع في المعارك السياسيّة. والحزب في إعلامه لا يجيد السخرية وإن ظهرت أخيراً على المواقع صفحات جديدة فعّالة لأنصار من الحزب وهي تلجأ من السخرية. وسلاح السخرية وحده قادر على مخاطبة الجيل الجديد الذي سئم من إعلام الوعظ والخطابة الجامدة. والحزب يلتزم باستعمال أسلحة تقليديّة بائدة في نقد الخصم. المطبخ السعودي – الإماراتي – الإسرائيلي - الأميركي نجح في ابتسار خطب قديمة لقادة الحزب لتشويه مواقفه السياسية الحاليّة. لم يفكر الحزب يوماً في استحضار مواقف وخطب لكل خصومه من دون استثناء في مديح النظام السوري أو الإيراني أو سلاح المقاومة. هل هناك أسهل من إعداد فيديو عن تقلّبات وليد جنبلاط؟ هناك أفراد على المواقع، مثل جاد هنري سعد الذي بمفرده يقوم بفضح تقلّبات سياسيّين وإعلاميّين بالكلمة والفيديو والصوت. جهد فرد واحد مثله لا يحتاج إلى تمويل هائل. لكن عقليّة إعلام الحزب متخلّفة عن اللحاق بالعصر الحالي. محمد رعد يصوغ عباراته بإبداع ومهارة فائقة وهو صاحب ابتكارات لفظيّة مثل عبارة «النكد السياسي» لكنه قلّما يظهر في مقابلات. الحزب يتعامل مع المقابلات الإعلاميّة كأنها مهينة له. والوحيد الذي يطلّ في الإعلام من مسؤولي الحزب هو نائب أمينه العام نعيم قاسم الذي غالباً ما ينتقد بسبب ما يمكن وصفه بالضرر لمصالح الحزب السياسيّة.
واللجوء إلى القضاء، كما وردَ أعلاه، هو جانب آخر من الفشل. من يلجأ إلى القضاء في هذه الحقبة مع العلم أن أعداء الحزب سيستغلّون ذلك لجعل الحزب هو المُذنب بصرف النظر عن سبب الدعوى؟ هل هذا ظلم؟ حتماً، لكنّ السياسة ظالمة لمن لا يلعبها بمهارة. صحيح أن «القوات اللبنانية» وسامي الجميّل لجآ إلى المقاضاة في الماضي. لكن بوسع الحزب أن يكون صدره أكثر رحابة لتحمّل النقد والتجنّي والإسفاف، لأن المعترض يخسر خصوصاً إذا كان إعلام كونيّ يتصيّد سقطاتك. ليس من بديل عن التصبّر والتحمّل واستعمال نفس سلاح الخصم في الهجاء والسخرية والإحراج.

عرّف غوبلز الدعاية السياسيّة بأنها «تكرار، تكرار مُتكرّر»، أما الحزب يغيب ويغيب في انتظار إطلالة الأمين العام لحزبه


إن المقارنة بين أداء الحزب الإعلامي نحو العدوّ وفي إدارة أعقد وأنجح حرب عربيّة نفسيّة ضد العدوّ منذ عام 1948 وبين أدائه على الساحة اللبنانيّة تُظهر فارقاً كبيراً، كأننا نتحدّث عن حزبيْن مختلفيْن (وهذا مُطمئِن لأن ذلك يُقنعك أن الذين يديرون الحرب ضد إسرائيل هم غير الذين يقرّرون أن إقامة دعوى ضد فارس سعيد هي سياسة حكيمة. والحزب منذ اندلاع الانتفاضة يتعثّر في الردّ على معسكر الأعداء. لكنّ الخطأ الإعلامي الدعائي الأكبر للحزب منذ عام 2003 هو في الردّ على حرب طائفيّة-مذهبيّة (قرّرت أميركا وإسرائيل ودول الخليج شنّها ضد الحزب من أجل تقويض سمعته بين العرب). ما كان يجب على الحرب المذهبيّة الخبيثة أن تنجح إلى هذه الدرجة. الحزب لم يُدرك أن الحرب هذه كانت أمضى سلاح في يد العدوّ وهو أحسنَ استعمالها من دون ردّ فعّال من الحزب. وبصرف النظر عن تقييم دور الحزب في الحرب السوريّة وإذا كانت في مصلحة مشروع المقاومة أم لا، فإن إدارة الحزب لتدخّله في سوريا لم تكن ناجحة خصوصاً من ناحية التراخي في ضبط شعارات طائفية ومذهبية كانت تشدّ العصب لكن تقدّم هدايا مجانيّة للخصوم. وهتافات «شيعة، شيعة» مثلاً كانت تستوجب تدخّلاً ميدانياً من قبل الحزب لمنعها بصرامة – وبالقوّة - لأنها صبّت في مشروع معاداة المقاومة في لبنان وفي المنطقة. ألا يعلم الحزب أن إعلام الخليج (وحتى إعلام العدوّ رصد ذلك) يتصيّد كل فرصة لإطلاق هتاف «شيعة، شيعة» من أجل لصق السقطة المذهبية بالحزب؟ وبقدر ما أن الحرب الصهيونيّة الكونيّة تستهدف الحزب بنفسه فإن الحزب لا يتصرّف على أنه واعٍ لهذا الاستهداف.
خذ السلوك الإعلامي للحزب وقت الحراك في 17 تشرين. لم يتعامل معه بجديّة ولم يقدّم أي تصوّر اقتصادي يعكس فهماً لعمق الأزمة المستعصية (قال الحزب إن لديه خطة اقتصاديّة سريّة: كيف يكون لحزب جماهيري خطة اقتصادية سريّة؟ نفهم أن تكون له خطط عسكريّة وأمنية سريّة، لكن اقتصاديّة؟) لا بل إن محمد رعد صرّحَ في عزّ الانهيار أن الأزمة تشارف على نهايتها. أليس عند الحزب مستشارون اقتصاديون كي يدرك قادة الحزب أن هذه الأزمة ليست عابرة بل تحتاج إلى عقود للخروج منها؟ والحزب ارتضى أن يُصوَّر على أنه الذراع الغليظة للنظام وكان يرتضي أيضاً أن تُنسب إليه أفعال لشباب حركة «أمل» في الجنوب وبيروت. لا أمرَ يعلو عند الحزب أكثر من تحالفه مع حركة «أمل». كيف يمكن للحزب أن يستغرب أنه بات يُصوَّر وعن حقّ أنه خرج من درس اندلاع الانتفاضة بالتمسّك بالنظام وهو الأقل انتفاعاً منه بسبب خشيته من الفوضى؟ لكنّ الفوضى مستشرية والنيل من المقاومة والتحريض عليها ليس أمراً فاشلاً أبداً ولو كان الحزب يضمن قاعدته الطائفيّة في الانتخابات. الحزب يعاني أيضاً من إيمان (شبه ديني) بالأحقيّة والصوابيّة الذاتيّة، ما يضعف من حافز المخاطبة عبر الإعلام. وقد تكون ثقة الحزب العسكرية المستحقّة تخفّف من حاجته - بنظره هو، وهذا خطأ كبير - إلى خلق سرديّة مضادة للخصوم. أليس صدفة أن «الأخبار»، هذه الجريدة اليساريّة المجاهرة بدعم المقاومة تتعرّض لهجومات أكثر بكثير مما تتعرّض له «المنار» أو «الميادين»، ربما لأن الأعداء لا يتابعون ذلك الإعلام ولا يرون فيه خطراً على سيادة سرديّته، أو لأن المادة هناك لا تصل إلى الجيل الشبابي؟
لا جدال في أن هناك تسخيراً لموارد هائلة من دول كثيرة (غربيّة وخليجيّة) للتصدّي لمشروع المقاومة ولحزب الله ولتحميل الأخير المسؤوليّة عن كل ما جرى ويجري في لبنان. تعرف كم أن المشروع المُضاد للحزب هو خبيث وكاذب عندما ترى التبرئة المطلقة من قبل فريق اليمين الرجعي والثاو الثاو (الثاو الثاو هو فريق رجعي لكن بلبوس تقدّمي مُخادع و»كول») لرفيق الحريري ودوره في هندسة الإفقار والانهيار. يسري على رفيق الحريري في حياته شعار «أنا بعدي الطوفان»، طالما كان يراكم ثروته الشخصيّة على حساب الشعب اللبناني. وفي مواجهة كل هذه الحملة العاتية ضد الحزب يلوذ الحزب بسياسة الصمت وانتظار خطب نصرالله الموسميّة للردّ على الأعداء وتفنيد حججهم. هذا التوقيت السلحفاتي في الرد الإعلامي يعود إلى زمن كان الناس يقرأون فيه مجلات سياسيّة أسبوعيّة لأن الفضائيات لم تكن تملأ الأسماع والأنظار. إن انتصار الحزب وبراعته في الحرب النفسيّة ضد العدوّ وفي تقديم خطاب متطوّر لكل العرب عن الصراع مع الصهيونيّة لم ينعكسا البتّة على خطة الحزب الإعلاميّة في الداخل. لكنّ المشكلة ليست إعلاميّة فقط إذ إن سياسات الحزب الداخليّة منذ الانهيار كانت متعثّرة وخاطئة وأعطت أعداء الحزب موادَّ جاهزة للنيل منه. الصراع مع إسرائيل من قبل الحزب هو اليوم في حالة متقدّمة جداً والعدوّ يخاف من الحزب كما لم يخف من جيش عربي من قبل. يكفي أن نقرأ— حتى في «الشرق الأوسط» الصهيونيّة — أن العدوّ يُحضِّر لواءً خاصاً لمواجهة جيش الحزب على أرض الجليل، أي أن الحزب يخاف من الحزب على أرض لبنان وعلى أرض فلسطين. لكنّ هذا الحزب في مواجهة الخصوم لم يستطع أن يقدّم إعلاماً ذكيّاً إلى درجة أن أمثال إيلي محفوض يفهمون الإعلام ودوره أكثر من الحزب. يكفي أن نتذكّر أن غوبلز عرّف الدعاية السياسيّة بأنها «تكرار، تكرار مُتكرّر»، فيما الحزب يغيب ويغيب بانتظار إطلالة الأمين العام لحزبه.
هذا ليس إعلاماً بل غيبوبة!
* كاتب عربي ــ حسابه على تويتر
asadabukhalil@