لم يكن وصول آبي أحمد علي لقمّة هرم الحكم في إثيوبيا عام 2018 حدثاً عاديّاً. فهي المرة الأولى التي يصل للحكم فيها رجلٌ ينحدر من العرقيّة الأكبر في إثيوبيا، وهي الأورومو. ولم يكن وصوله ثوريّاً أو انقلابيّاً، بل كان عمليّة سلسلة نتجت عن انتخابات شعبيّة حقّق فيها الائتلاف السياسي الذي يتزعّمه (الجبهة الديموقراطيّة لشعب أرومو) نتائج ممتازة ممّا دفع الحزب الحاكم (الذي تُسيطر عليه عرقيّة التيغراي) لتزكيته لمنصب رئيس الوزراء خلفاً لرئيس الوزراء ديسالين الذي استقال بعد اندلاع عصيان مدني وأعمال عنف واحتجاجات ضد الحكومة. والواقع أن آبي أحمد لم يكن غريباً عن النظام القائم في إثيوبيا، فهو عمل لسنين كضابط في الجيش الإثيوبي ومن ثمّ في المخابرات العسكريّة، ووصل إلى رتبة عقيد قبل أن يتحوّل إلى العمل السياسي عام 2010. وبعد أن انتُخب نائباً في البرلمان انضم إلى الحكومة الفيدرالية كوزير للعلوم والتكنولوجيا ما بين 2016 و2017. أثار ارتقاء آبي أحمد لسدّة الحكم في إثيوبيا موجة ابتهاج شعبية. فهو بشبابه (مواليد 1976) وحيويّته وذكائه صار يمثّل أملاً للمستقبل بنظر قطاع واسع من الإثيوبيّين. ولآبي أحمد خصال فريدة تعبّر عن التعدّدية في البلد، فأبوه مسلم من عرقيّة الأورومو وأمّه مسيحيّة من الأمهره وهو شخصياً مسيحي بروتستانتي. ومن اليوم الأول لاستلامه الحكم بدا واضحاً أنّ آبي أحمد يريد قيادة إثيوبيا باتجاه مرحلة جديدة من النهضة الاقتصادية والتكنولوجيّة ويندمج في الاقتصاد العالمي ويجذب الاستثمارات لبلده الكبير. اتّجه آبي أحمد إلى الجيران أولاً، فلا بدّ من تأسيس أرضيّة مشتركة للتعاون في منطقة شرق أفريقيا ككلّ حتّى يتمكّن من تنفيذ خططه الطموحة. الخطوة الأولى والصّعبة كانت مع أرتيريا، العدو اللّدود لإثيوبيا منذ استقلالها عنها سنة 1991، فذهب إليها وعقد معاهدة سلام تُنهي عقوداً من النزاع السياسي (والعسكري) وحالة اللّاحرب ــ واللّاسلم بينهما. وأتبع ذلك بسلسلة اتفاقيّات تعاون مع حكومات السودان وجيبوتي وكينيا كلّها ذات منحى اقتصادي يُفيد جميع الأطراف.
وعلى المستوى الدّاخلي قام آبي أحمد بالانفتاح على المعارضين وأوقف الممارسات القمعية بحقهم وأطلق من كان في السجن منهم وسمح لشخصيّات إثيوبية مهاجرة إلى أميركا ودول الغرب بالعودة للبلاد.
نالت سياسات آبي أحمد الاستحسان والتأييد على مستوى المنطقة والعالم. وبدا أن آبي أحمد هو النجم الصاعد على مستوى القارة الأفريقية ــ يقودها نحو مستقبل جديد. وتمّ منحه جائزة نوبل للسلام عام 2019. شعر آبي أحمد بمدى الشعبية التي بات يحظى بها في بلاده وخارجها وهذا أعطاه ثقة بالنفس ودفعه إلى اقتحام موضوع صعب. إذ كان من الضروري إصلاح البنية الداخلية لمنظومة الدولة الأثيوبية وإزاحة الحرس القديم وأصحاب النفوذ الذين قد يعيقون التحول الديموقراطي والإصلاح الاقتصادي. وهؤلاء كانوا في أغلبيّتهم من عرقيّة التيغراي ويسيطرون بشكل خاص على المؤسسة العسكرية والأمنية.
تراجع الدعم السياسي لـ آبي أحمد على المستوى الغربي، بسبب اتهامات وشهادات كثيرة على جرائم ضد المدنيين وانتهاكات حقوق انسان


شيئاً فشيئاً بدأت قيادات التيغراي ذات النفوذ في الدولة تشعر بخطورة سياسة آبي أحمد على مصالحها، فكان طبيعياً أن تبدأ المقاومة و«التحرّش» برئيس الوزراء وإيصال رسائل له بطرق شتّى وصلت إلى حدّ تعرّضه لمحاولة اغتيال بقنبلة يدويّة لم تنفجر خلال مشاركته في تجمع شعبي مؤيّد له. في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 ردّ آبي أحمد بقوّة، فأوقف 63 من كبار المسؤولين في الجيش وأجهزة الأمن بينهم 27 جنرالاً، للاشتباه في ارتكابهم انتهاكات لحقوق الإنسان وفساد والضّلوع في محاولة اغتياله. بدأ الحرس القديم من أصحاب النفوذ في جهاز الجيش والدولة يعودون إلى إقليمهم الأصلي في شمال البلاد، تيغراي، ويستجمعون قواهم ويحضّرون لمواجهة رئيس الوزراء. في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 أمر آبي أحمد قوّات الجيش الحكومي بالهجوم على إقليم تيغراي. حصل ذلك بعد سلسلة من الاحتكاكات بين الطرفين. فقد رفضت حكومة إقليم التيغراي قراره بخصوص تأجيل الانتخابات في البلاد بسبب ظروف كورونا وأصرّت على إجرائها، ممّا دفع بآبي أحمد لقطع التمويل الفيدرالي عن الإقليم وفرض نوع من الحصار عليه. حصل إثر ذلك ردّ فعل مسلح من جانب جبهة تحرير تيغراي حين هاجمت قاعدة عسكرية حكومية للجيش. تفاقمت الأمور بعد ذلك بين الطرفين واتّجهت إلى التصعيد. ويعود الفضل في الإنجازات العسكرية المهمة التي حقّقتها «جبهة تحرير شعب تيغراي» إلى الخبرة العسكرية الكبيرة لكوادرها وقياداتها التي شكّلت العصب الأساسي للجيش الإثيوبي على مدار 30 عاماً بعد أن انتصرت على نظام منغستو سنة 1991، يُضاف إليها أكثر من 15 عاماً من الكفاح المسلّح ضد الحكومة قبل ذلك.
ولعلّ أهم زعمائهم على الإطلاق هو تسادكان جبريتنساي البالغ 68 عاماً ويتولّى القيادة العليا لقوّاتهم والذي تُعزى إليه جميع النجاحات العسكرية التي حقّقوها.
كان لتسادكان سمعة كبيرة أيام الكفاح المسلّح ضد نظام منغستو في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي حين أظهر كفاءة عسكرية نادرة. ويُروى أنه لم ينم على سرير طيلة 15 عاماً قضاها بين الكهوف والجبال والأدغال يقود العمل العسكري ضد الحكومة. تصاعدت مكانة تسادكان بين رفاقه حتى كان على رأس قيادة قوّات جبهة تحرير شعب تيغراي التي وصلت إلى 100 ألف مقاتل عند دخول أديس أبابا سنة 1991.
وعندما اندلعت الحرب في تيغراي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 لبّى تسادكان نداء الواجب وانضم إلى المقاومة المسلّحة، ونحّى جانباً خلافاته مع قادة الجبهة الآخرين، وبدأ في تنظيم شباب التيغراي للقتال إلى جانب قُدامى المحاربين الذين عادوا إلى حمل السلاح. ويبدو جليّاً أن خبرة المحارب القديم تفوّقت على حماس الشاب آبي أحمد.
اليوم يجد آبي أحمد نفسه في وضع سيّء للغاية. فالحملة التي أطلقها قبل سنة في تيغراي تدهورت إلى أن وصلنا للوضع القائم هذه الأيام حيث تهدّد قوات جبهة تيغراي باجتياح العاصمة. والنداء الذي وجهه آبي أحمد لعموم المواطنين في أديس أبابا للاستعداد وحمل السلاح للدّفاع عن العاصمة يُشير إلى مدى التّدهور الذي يُعانيه آبي أحمد وجيشه. كما أن حركاته الاستعراضية الأخيرة من لبس الكاكي وإعلانه التوجّه بنفسه إلى الجبهة إنما تأتي في خانة رفع الروح المعنوية وليس لها قيمة عسكرية حقيقية. وممّا يُفاقم من سوء أحوال آبي أحمد تراجع الدعم السياسي له على المستوى الدّولي، وبالذات الغربي. فمع وجود اتّهامات وشهادات كثيرة على وقوع جرائم ضد المدنيّين وانتهاكات حقوق إنسان ومذابح في إقليم تيغراي ارتكبتها قوّات الحكومة الإثيوبية، يتعرّض آبي أحمد إلى ضغوط شديدة وصلت إلى حدّ إعلان الإدارة الأميركية فرض قيود واسعة النطاق على المساعدات الاقتصادية والأمنية لإثيوبيا بسبب «الفظائع» في إقليم تيغراي، كما حظّرت منح تأشيرات لمسؤولين إثيوبيّين.
دخل آبي أحمد في تصادم مباشر مع المنظّمات الإنسانية ممّا دفعه إلى طرد سبعة من كبار مسؤولي الأمم المتحدة بتهمة «التدخّل في شؤون إثيوبيا الداخلية». وإنها لمفارقة كبرى أن يتحوّل «رجل السلام» والتسامح والفائز بجائزة نوبل إلى متّهم بجرائم وانتهاكات ومذابح!
وفي موقف نادر أصدرت اللّجنة المانحة لجائزة نوبل للسلام بياناً بدا وكأنّه يمهّد للتراجع عن قرارها منح الجائزة لآبي أحمد عام 2019. إذ قالت اللّجنة إنها «تتابع عن كثب التطورات في إثيوبيا وتشعر بالقلق الشديد». المؤشّرات اليوم تُفيد بأنّ كل ما فعله آبي أحمد وأنجزه منذ وصوله للسلطة معرض للتلاشي بفعل الحرب مع التيغراي. سياسة التسامح وإطلاق الحريات على الصعيد الداخلي، أجواء السلام والتعاون على المستوى الإقليمي، سمعة إثيوبيا في الأوساط الدوليّة كبلدٍ صاعد وجاذب للاستثمار، كلّ ذلك معرّض للزوال.
*كاتب من الأردن