عندما يهلّ كانون الثاني/ يناير 2022، يكون انقضى نصف قرن على ميلاد واحد من أهم الأجيال السياسية في التاريخ المصري الحديث.إنه جيل السبعينيات الذي تحمّل مسؤولية العمل الوطني في مصر الجريحة إثر هزيمة 1967، وامتدّ عطاؤه حتى ثورة كانون الثاني/ يناير 2011.
مطلع العام التالي للهزيمة العسكرية 1968 هبّت أولى موجات الغضب في مصر الجريحة، وبدا أن هناك جيلاً جديداً يوشك أن يولد.
في ذلك العام الغاضب نشأت حركات وانتفاضات طالبيّة في أنحاء مختلفة من العالم، وليس في مصر وحدها، أهمها وأكثرها دوياً الانتفاضة الطالبية الفرنسية.
لكل حركة طبيعة وأسباب تختلف عن الأخرى لكن جمع بينها الغضب على ما هو حولها وأمامها وخلفها.
انتشرت في تلك الأيام مسرحية الكاتب البريطاني جون أوسبورن: «انظر وراءك بغضب»، رغم أنها كُتبت في الخمسينيات، كأنها بدلالات عنوانها ثورة جامحة على الماضي بكل إرثه.
شاعت كتابات الفيلسوف الألماني هربرت ماركوز عن دور الطلاب في صناعة التاريخ، واحتلت صور الثائر الأممي أرنستو تشي غيفارا جدران المدن الجامعية رمزاً للتمرد على سطوة النُّظم.
واشتهرت عبارة أطلقها الأديب السكندري محمد حافظ رجب: «نحن جيل بلا أساتذة» تعبيراً عن أحوال ومشاعر ضاقت بأية وصاية، أو أبوّة مفترضة، من دون أن تصادف الحقيقة، فلا جيل يولد من فراغ منقطع الصلة بما قبله حتى لو تمرّد عليه.
بدأت تظهر مجلات الحائط على جدران الكليات الجامعية بأقلام فلوماستر وروح متمرّدة.
وقد استوحيت من الثورة الثقافية في الصين.
كانت مجلات الحائط في وقتها وظروفها ثورة في حرية التعبير عما تختلج به النفوس دون رقابة، أو مصادرة.
ثورة أتاحت أوسع فرص ممكنة للحوارات المفتوحة.
في فبراير من ذلك العام الغاضب تبدّت صدمة واسعة على خلفية أحكام مخفّفة بحق المتسبّبين في هزيمة يونيو من سلاح الطيران.
خرجت تظاهرات في جامعة الإسكندرية تحتجّ على الأحكام.
تطورت مطالبها إلى تعبئة موارد البلاد لخوض حرب تحرير سيناء المحتلة وتوسيع المشاركة السياسية في صناعة القرار.
لم يكن الغضب على ثورة يوليو، أو رفضاً لمبادئها وإنجازاتها، بقدر ما كان احتجاجاً من أجيال جديدة نشأت في ظلها على الأسباب التي أدّت إلى الهزيمة العسكرية.
نالت بعض الهتافات من جمال عبد الناصر، فهو المسؤول ولا مسؤول غيره.
مال الاتجاه الغالب في تظاهرات فبراير إلى طلب الخروج من وصاية الأب لا إنكار أبوته، أو طلب المشاركة السياسية لا التنكر لمشروعه.
أفضت انتفاضة 1968 ــ أولاً ــ إلى إلغاء الأحكام التي صدرت وإحالة القضية إلى محكمة عسكرية أخرى.
أفضت ــ ثانياً ــ إلى توسيع مساحة الحريات السياسية داخل الجامعات، وإسناد أدوار حقيقية إلى الاتحادات الطالبية.
كان ذلك تطوراً جوهرياً في البيئة العامة داخل الجامعات ساعد على تطور الحركة الطالبية واتساع الحريات التي اكتسبتها.
وأفضت ــ ثالثاً ــ إلى سريان روح جديدة في الحياة العامة خارج أسوار الجامعات.
نشأت كتابة جديدة ومقاربات مختلفة في الإبداع وميادينه شعراً ورواية وقصة قصيرة ومسرحاً وسينما.
برزت جمعيات وجماعات وبدأ ميلاد جيل جديد من المبدعين والنقاد.
كما أفضت ـ رابعاً ـ إلى صدور بيان 30 آذار/ مارس الذي تبنّى دولة المؤسسات وسيادة القانون وتوسيع المشاركة السياسية.
لم تكن تظاهرات 1968 مجرد احتجاج على الأحكام المخفّفة بحق بعض المتسببين في الهزيمة، وإلا ما امتدت حتى عام 1977 بلا انقطاع تقريباً، رغم التغييرات العميقة في بنية الحكم بعد رحيل عبد الناصر عام 1970، وأحداث أيّار/ مايو 1971 التي سيطر أنور السادات بعدها على مقادير السلطة العليا، وتناقضت السياسات مع ما كان قبلها.
كانت صدمة الهزيمة داعية ــ بذاتها ــ إلى مراجعة شاملة للعيوب والثغرات في نظام الثورة، التي سمحت أن تقع على هذا النحو المروّع.
أفضل تعريف لحركة 1968 أنها مخاض ميلاد وليست الميلاد نفسه، الذي انتظر أربع سنوات حتى استبانت ملامحه في عام 1972 قبل خمسين سنة.
ذات مرة قال عبد الناصر في خطاب مفتوح: «إن هذا الجيل من شعب مصر على موعد مع القدر».
كان ذلك صحيحاً بأكثر مما قدّر، لكنّ الأقدار اختلفت طبيعتها بعد هزيمة يونيو، وما بعد رحيله من انقلابات استراتيجية وسياسية واجتماعية.
الجيل الموعود بثمار الثورة كان هو نفسه الجيل الموجوع بالهزيمة.
كانت التظاهرات الطالبية عام 1972 بحجمها وأثرها إعلاناً مدوّياً عن ميلاد جيل جديد.
ارتبطت لحظة الميلاد مع نداء استعادة الأراضي المحتلة بقوة السلاح ورفض المماطلة في اتخاذ قرار الحرب.
كما ارتبطت بصورة «الفدائي الفلسطيني» الذي وجد هُويته في بندقيته، على ما أنشدت أم كلثوم من كلمات نزار قباني.
كان الرئيس السادات قد تعهّد بأن يكون عام 1971 هو «عام الحسم»، لكنه تراجع وأطلق عليه «عام الضباب»، حيث الرؤية احتجبت خلف ضباب الحرب الهندية ــ الباكستانية.
بعد يومين من «خطاب الضباب» ــ 15 كانون الثاني/ يناير ــ تصاعدت الاحتجاجات والاعتصامات في الجامعات المصرية وسرت روح عامة غاضبة.
بدت الانتفاضة قوية ومباغتة كأنّ غضباً مكتوماً قد انفجر.
بدأت الشرارة في كلية الهندسة بجامعة القاهرة وانتقلت بشرعية غضبها إلى كليات أخرى ومن جامعة القاهرة إلى جامعة الأزهر، ثم إلى جامعات ثالثة ورابعة وخامسة.
ما كان ساكناً في الحياة العامة أخذ يزمجر بالرفض لأية «حلول سلمية»، يؤجل باسمها قرار الحرب.
صدرت بيانات دعم وتأييد من النقابات المهنية الرئيسية: الصحافيين والمحامين والمعلمين ثم المهندسين، ونقابات أخرى تتابعت دعوتها لـ «حرب تحرير شاملة».
وصف السادات محرّكي الانتفاضة الطالبية بـ «القلة المندسّة» التي تضلل «القاعدة السليمة»، وهو تعبير شاع على نطاق واسع في الخطاب الرسمي، واعتُمد لسنوات طويلة عند أية أحداث مماثلة حتى استهُلك تماماً.
رغم الرقابة على الصحف، إلا أن رياح الغضب وسّعت مساحات التضامن مع الحركة الشابة بما يمكن نشره.
تحوّلت جامعة القاهرة، في ذلك الوقت، إلى مزار لكل من يبحث عن أمل في المستقبل، أو يريد أن يطل عليه بنفسه.
ولم يكن اقتحام قوات الأمن المركزي للقاعة الرئيسية في جامعة القاهرة لفضّ الاعتصام بالقوة، والقبض على أعداد كبيرة من القيادات الطالبية كلمة النهاية في انتفاضة 1972.
بلغة الشعر وصف أمل دنقل في قصيدته «الكعكة الحجرية»، عملية فضّ اعتصام طالبي في ميدان التحرير انتقلت إليه طاقة الغضب بعد قمعها في القاعة الرئيسية بجامعة القاهرة.
نُشرت القصيدة لأول مرة في مجلة «سنابل»، أغنى المجلات الأدبية بمادتها وأفقرها في الإمكانات المتاحة التي أسّستها مجموعة من الشعراء الكبار بمواهبهم مثل محمد عفيفي مطر.
داست خيول السلطة كل السنابل بعد نشر «الكعكة الحجرية».
غير أن صوت الشيخ إمام عيسى ارتفع بكلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم، في واحدة من أشهر أغنياته: «أنا رحت القلعة وشفت ياسين».
في العام التالي، أي عام 1973، تحرّكت في جامعة القاهرة انتفاضة طالبية جديدة، كما لو أنها استئناف لانتفاضة 1972.
انتقلت الانتفاضة الجديدة بأجوائها إلى الجامعات المصرية الأخرى تحت المطالب نفسها: تهيئة الجبهة الداخلية للحرب وتوسيع المشاركة في صنع القرار ورفض أية مشروعات تسوية سياسية.
جرت تظاهرات واعتصامات وتكرّر سيناريو اقتحام قاعة الاحتفالات الكبرى بقوة الأمن المركزي واعتقال أعداد كبيرة من القيادات الطالبية، سرعان ما كان يجري الإفراج عنهم، كما جرت العادة في تلك الأيام.
وُلد جيل السبعينيات وسط تساؤلات عن المستقبل، خياراته ومعاركه.
كانت الوطنية المصرية الجريحة هي الحجرَ الأساسَ في بناء وعيه ووجدانه.
تعدّدت المدارس الفكرية اليسارية التي انتسب إليها طلابها، لكن جمعت بينها قاعدة واحدة: طلب تحرير سيناء المحتلة والاستعداد لخوض حرب محتمة.
في عنفوان التمرد والثورة تبلورت عند جيل السبعينيات ضرورات بناء نظام ديمقراطي يتّسع للتنوع السياسي.
بعد خمسين سنة على ميلاد ذلك الجيل فإن تجربته بامتدادها الزمني تستدعي التوقف أمامها بالتحية والمراجعة.
* كاتب وصحافي مصري