إذا كانت الطائفيّة السياسيّة ونظامها السيّئ الصيت والسُّمعة، مُستنقع الوَحل والدم والفقر الذي صَنَعهُ المُستعمِر الفرنسي وأُدخل إليه الشعب اللبناني، فصار ورطته التاريخية التي لا حَلّ لها إلاّ بِبناء نظام نقيض، فإن نظام المناطقية الذي صنعه المستعمر الصهيوني صار متاهة الفلسطينيين ومأزقهم الوجودي أيضاً، والآلية الفعّالة التي توفر عناصر التصفية والتدمير الذّاتي، من الداخل، تضمَن للعدوّ الصهيوني شَطب حقوقهم دونما قتال. فما جرى خلال العقود الأخيرة كان هندسة استعمارية لنظام هجين يخدم مصالح أوروبا وأميركا والكيان الصهيوني والنظام العربي، ويحمي امتيازات طبقة مهزومة عَثرَت على كيانها المَسخ في سُلطة الحكم الذّاتي الهزيل. نظام المناطقيّة يَتّكئ على الكيان الصهيوني وتقسيماته (1948) و (1967) والمعازل التي صار لها أحرف إنكليزية وعبرية. وتتحول مع الوقت إلى ثقافة ووصفة لتذويب هُوية الفلسطينيين. فبعد سرقة الأرض وسلب كل الحقوق تستمر حرب إبادة معلنة وصامتة تدفع الضحية إلى عالم الاغتراب والاستلاب والتعايش مع نظام أوسلو باعتباره «الواقع» و»الحل الممكن»، و»البلد هيك» وستبدو غريباً لو عارضت «انتخابات المناطق» و»الكنيست» تحت حراب الاحتلال!
هذا الواقع يفتح شهية بعض الساسة والجنرالات الصهاينة إلى تقديم «أفكار جديدة» من نوع تأسيس»الإمارات الفلسطينية» إمارة الخليل، إمارة غزّة، إمارة رام الله، إمارة نابلس، ومعازل مُفكّكة تُشكل من منظور العدو «البديل العملي للعلاقة مع سكان المناطق»، إنها منظومة قائمة بالفعل، تقودها دوائر المال وشيوخ العشائر ومافيات التنسيق الأمنيّ، وهذه أصبحت أقوى مما يسمونه «المجتمع المدني» والقوى الوطنية والإسلامية.
التكيّف التدريجي مع الحصار والإقصاء يمتد من النقب وأم الفحم مروراً بقطاع غزّة وصولاً إلى عين الحلوة، حالة من الحصار الشامل في «نظام الغيتو الفلسطيني» السلاح الأخطر في قبضة العدوّ. ولا مبالغة في القول بأنه سلاح ألعن من الدبابات والصواريخ. هكذا يستحوذ المستعمِر على عقل المُستعمَر ويضبطه في نظام من العبودية المقوننة تُعززه جماعة «السلام الاقتصادي» وقوى التطبيع ومثقفي السلطة العميلة.
نظام المناطق يستولد سُلطات صغيرة على صورته في القرية والمخيم والمدينة والجامعة والنقابة والحزب والمدرسة، يستجلبها وفق فرمانات فتأتي جاهزة وأكثر مسخاً وتخلفاً وانحطاطاً، تنتج «شخصيات» لها حظوة قبلية ومتصالحة مع الاستعمار. فنظام المناطق الهش تسهُل السيطرة عليه وتطويعه. خاصة في ظل تفسُّخ وضعف الحركة النقابية والنسوية والطالبية، وغياب العمل الجبهوي الثوري، أين يذهب الناس؟ يلجأون إلى القبيلة والوظيفة كتعويض عن الوطن.
لقد حاول المُستعمِر – المستوطن- ابتداع أنظمة لا مجال لحصرها. لم يأت بها من المريخ بل من داخل البنية الاجتماعية والثقافية للسّكان الأصليّين. فالهدف تفتيت مجتمعاتهم وتخريبها وتجريفها. جرّب ذلك مع كل الشعوب التي استوطن أرضها. ويدرك الصهاينة، مثل غيرهم من المستعمرين، قوة هذه الوصفة «السحرية» التي استخدمها المستعمر الأبيض في أميركا الشمالية ونيوزيلندا وأستراليا وغيرها، فلا يكترث لحلقات الدبكة والكوفية ومواويل العتابا وأبو الزلف. بل يوظف كل ذلك عبر آليات التدجين اليومي مُستنداً إلى الشق المحافظ في تراث وتقاليد المستعمَر، ويتّكئ على النظام الذكوري العشائري ويحتفي بالأطعمة والأهازيج. فالقلعة ،كما يُقال، تُؤخَذ من الداخل. وهذا نظام مَسخ المَسخ.
سُلطة المناطق العميلة تُدير شؤون بعض السكان في «يهودا والسامرة» وتعتاش على نظام ريعي يَرتكز على «الأمن « و»العشيرة» و»البنك». هذه أضلاع مثلث التحالف الطبقي للسلطة، كل ضلع يتّكئ على الآخر. والعلاقة بينها يحددها ضباط «الإدارة المدنية» للاحتلال. ويُمكن لمثلث السلطة أن يرتدي كل الأقنعة في المناسبات «الوطنية» ويشتم الاحتلال على الفضائيات ويعقد تحالفات سياسية في انتخابات البلديات وتبدو الصورة طبيعية وعادية إذا نظرت إليها من الخارج.
فيروسات المناطقية تجتاح العقل الفلسطيني إلى درجة صار يُطلق بعضهم على معازل الضفة وغزّة «جَناحَي الوطن»! هذه العبارة لم تأت من فراغ. صَنَع العدوّ سلطة تحمل هراوة مختومة بشعار المنظمة والنجمة السداسية. نظام قمعي يعمل بالوكالة وتديره طبقة من السماسرة والعملاء يُسنده جمهور من الموظفين المستلبي الوعي والإرادة، ويبرره مثقف سلطوي على شاكلته،كأن ما يجري حقيقة موجودة منذ الأزل. فالأجيال الفلسطينية الشابة لم تعرف إلا هذا النظام الرثّ، وإذا أرادت التغيير، أو تصوّر البديل الثوري، عليها أن ترى الصورة من خارج زاروب المناطق وإلا صهرها نظام أوسلو وبلعتها مؤسسات التمويل الأجنبي.
فيروسات المناطقية تجتاح العقل الفلسطيني حتى بات يُطلَق على معازل الضفة وغزّة «جَناحَي الوطن»! لقد صَنَع العدوّ سلطة تحمل هراوة مختومة بشعار المنظمة والنجمة السداسية


كتَبَ الشهيد غسّان كنفاني عن علاقة الفلسطينيين بأنفسهم، وعلاقتهم بالآخرين، وحذّر من مخاطر هذا الواقع قبل 60 سنة واعتبرها أسئلة وجودية ليست للترف الفكريّ والعلاك المصدي. وقال كنفاني إن جريمة خلع الفلسطيني عن قضيّته تُساوي جريمة خلعه عن أرضه. لم يتصور في أسوأ كوابيسه أننا سنصل إلى «شعب غزة» و»شعب الضفة» و»شعب الداخل» ونظام المعازل والحصار والارتهان لتمويل الاتحاد الأوروبي. فكيف صار «الحزب الثوري» والعشيرة شيئاً واحداً، وكيف تحولت الشركات والأجهزة الأمنية والمؤسسات المُمَولة من المستعمِر إلى ملاذ أخير لتوفير الحماية الذّاتية ورغيف الخبز؟
كان غسّان كنفاني يرى أن الثورة هي «الأرض» التي يمكن أن تبني عليها «هُوية الشعب المُقاتل» واعتبرها بمثابة الوطن المؤقت، والصمغ الذي يوفر عنصر الحماية والتماسك لشعب ممزّق، تشيدها بالنار والثقافة الوطنية والمدرسة والفن والنقد الصريح، فلا هوية فلسطينية خارج مشروع العودة والتحرير. ولا هوية فلسطينية معزولة عن عُمقها وفضائها العربيّ.
وعلى النقيض من كنفاني، عَمَد السياسي الفلسطيني التقليدي بعد عام 1974 إلى استبدال الثورة بالمؤسَّسة (منظّمة التحرير الفلسطينية) فاعتبرها «الكيان المعنوي» و»الممثل الشرعي الوحيد» وفرّغها من جوهرها الثوري ثم اكتفى بالرمز واللافتة وألقى بالجوهر وبالميثاق الوطني في سَلة المُهملات!
وبرغم الدور الهام الذي قامت به المُنظّمة في سنوات الثورة ( 1967 – 1973 ) وشعارها «وحدة وطنية، تعبئة قومية، تحرير» إلا أنها تحولت في بازار التنازلات والتطبيع وعبادة صنم «الدولة» إلى كرخانة تشبه القائمين عليها، لا علاقة لها بالوحدة الوطنية والتعبئة القومية، فضلاً عن التحرير !
صارت مزرعة للتدجين وتفريخ المهزومين وجوقة الحاج أبو مازن الذي يسميه قادة الأحزاب والمثقفون بـ «السيد الرئيس»! وهذه التسمية لم تأت هي الأخرى من فراغ... فاللغة التي يحاول البعض ستر عوراتهم بحروفها هي ذاتها التي تفضحهم.
آفة المناطقية لا تقتصر على الضفة والقطاع بل أصبحت موجودة في كُلّ التجمعات الفلسطينية لأنها تعشّش في العقل والثقافة التقليدية. فما علاقة اللاجئين الفلسطينيين في الأردن (الكُتلة الشعبية الكُبرى) بالقرار السياسي الفلسطيني؟ واللاجئين في سوريا ولبنان وفلسطين؟ كيف تقوم هذه العلاقة بينهم في الشتات، قانونياً وسياسياً ونضالياً وثقافياً؟ كيف تتجسد مع نصفهم الآخر في الوطن؟ هذه الأسئلة لا يمكن أن يجيب عليها كاتب أو حزب أو مركز أبحاث!
ومن يعتقد أن الخروج من النظام الأوسلوي المَسخ يمكن أن يكون عبر «إجراءات تنظيميّة» أو «إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير» و»تشكيل مجلس وطني جديد» ننصحه بمراجعة تجربة الـ 60 سنة الماضية، وليراجع بالمرة معلوماته وقدرته العقلية. فالخلاص من براثن نظام المناطقية يشترط هزيمة مشروع الحكم الذاتي التصفوي أولاً، وهذا هو الشرط للخروج من زمن «سلطة المناطق» إلى زمن الثورة – الشعب- الوطن، وحينذاك فقط يسقط الغيتو والوهم معاً... ويتساوى الجميع على أرض الثورة من حيفا إلى رام الله إلى اليرموك وشاتيلا.
تفتك المناطقية في تركيبة الأحزاب والفصائل الفلسطينية أيضاً. وغالبية أحزابنا تقوم على ثلاثة «فروع» أو ثلاثة « أقاليم» هي «الضفة» و» غزة» و»الخارج» فيما يُستثنى 78% من فلسطين المحتلة، تلك «المنطقة الحرام» تقع خارج حسابات القوى الوطنية والإسلامية... ولكن هذه قصة أخرى. لو اقتصر الأمر على «النخبة» لكانت نكبتنا المستمرة منذ عام 1948 أقل وطأة وبؤساً. فيروس المناطقية بات يخترق عقولنا ويمزّقنا من الداخل. وكل تجمع فلسطيني يعيش عزلته وحصاره وأولوياته. وهذا الحال يدعو طليعة الطبقات الشعبية الفلسطينية في فلسطين والشتات إلى تنظيم صفوفها وخلق مشروعها الثوري التحرري البديل.
إن الأكثرية الشعبية الفلسطينية المطحونة تعيش في بطن التيه والفقر والمرض والمعازل، ولا مصلحة لها في مشاريع السلطة الزائلة. وستظل مصلحتها كامنة في مشروعها التاريخي: العودة والتحرير. فالشعوب المناضلة تُقاتل من أجل تحرير أوطانها واسترداد حقوقها المسلوبة، ولا تبذل الروح والدم من أجل سلطة ومناطق لأصحاب القصور وعملاء الاستعمار!

* كاتب فلسطيني