أن تكتب عن المناضل سماح إدريس، عليك أن تعي أنك تكتب عن قامة وطنية وثقافية قلّ نظيرها، فهو الذي قال: «إن تخلّينا عن فلسطين تخلّينا عن أنفسنا».رحل سماح إدريس وفلسطين لا تزال تنزف، لكنّه أغمض عينيه بضمير مرتاح تجاه القضيّة الفلسطنيّة، لأنّه كرّس حياته دفاعاً عنها إن من خلال تأسيسه ««حملة مقاطعة داعمي إسرائيل» وإن من خلال مجلة الآداب التي كانت تحتضن القضيّة الفلسطينيّة بشكل أساسيّ. تخلّى القدر عن سماح، لكنّ فلسطين تعلم أن سماح لم يتخلّ عنها يوماً حتى وهو على شفير الموت.
فلسطين المحتلّة التي تخلّت عنها دول عربية بأمّها وأبيها، أبى سماح التخلي عنها، أما في لبنان فرفض أن يساوم وأن يذعن لسياسات الفساد، وكان همّه الكبير كسر النظام الطائفي من خلال توحيد القوى العلمانيّة في وطنه، فحاول جاهداً ومنذ عام 2011 وحتى انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 توحيد هذه القوى في صف واحد في وجه الغطرسة الطائفيّة من خلال علاقاته المتينة مع كلّ قوى التغيير، لكن للأسف لم يُوفق بذلك. فقام بفتح منبر مجلة الآداب من أجل تقريب وجهات النظر بين هذه القوى العلمانية، وكان حلمه أن تتوحد كلها في جبهة وطنية واحدة من خلال برنامج سياسي واضح، بوصلته مواجهة المشاريع الخارجية والتغيير الجذري الداخلي، وصولاً إلى كسر النظام الطائفي وإقامة الدولة العلمانية الوطنية العادلة. سماح كان يمتلك طاقة لا مثيل لها وكان بالمرصاد لكل من يتطاول على القضية الفلسطنية، تماماً كما كان بالمرصاد للنظام الطائفي اللبناني المستشري في الفساد، ولذا كان لسماح أعداء كثر وخاصة في ما يخص مقاطعة العدو الإسرائيلي ومن يدعمه في كلّ المجلات الثقافية والفنية والاقتصادية، وحيث أثمرت «حملة مقاطعة داعمي إسرائيل» إنجازات كبيرة في الوطن العربي وفي العالم أيضاً، قامت حملة رايات التطبيع مع العدو الإسرائيلي بشنّ الحملات ضده حتىّ بعد وفاته، حتّى وصلت بذاءة بعضهم إلى الشماتة بموته والتهكّم عليه! هؤلاء يعتقدون أن سماح إدريس العلماني المنفتح النزيه المبدئي، إنسان خشبيّ لا يزال ينادي بالقضية الفلسطينية، وهم يدّعون حب الحياة ويدافعون عن الحريات، وفي الوقت نفسه يتماهون مع من باع القضية الفلسطنية أمثال محمود عباس وغيره وتسبّبوا بدمار فلسطين وقتل أطفالها، فكيف يستوي حب الحياة والحريات مع هدر دماء الأطفال وتشريد العائلات وتدمير بيوتهم وتعذيب القاصرين في السجون الإسرائيليّة؛ فإن كان سماح إدريس إنساناً خشبياً بدفاعه عن حقوق الإنسان فلتعلُ المنابر الخشبيّة إلى الأبد ولتمت «حريتهم» تحت أقدام الشعب الفلسطيني!
سماح بقي عصياً على هذه الحملات البيغضة، لا بل زاد عزماً وإصراراً على المثابرة والإنجازات وهو على فراشه يواجه الموت داخل المستشفى. كان يتابع تفاصيل نشاطات «حملة مقاطعة داعمي إسرائيل»، ويحاول أن ينجز ما استطاع وكأنّه يسابق الموت. أنجز ما تبقّى من القاموس اللغوي، وأشرف على تطوير مجلة الآداب الإلكترونية، كان يرد على كلّ الرسائل والاتصالات، والأغرب أنّه كان يدعمنا حين نضعف نحن تجاه مرضه، كان يحاول مسح حزننا عليه ببسمته وروحه المرحة، كان يريد لنا أن نبقى أقوياء من أجل فلسطين ولبنان! سماح الشخصية الاستثنائية حمل إرث دار الآداب ومجلة الآداب وطوّرهما، وبقيت المجلة لغاية اليوم منبراً للقضايا العادلة والدفاع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها وانتشال «الثقافة» المزوّرة التي وصلت إلى الحضيض نتيجة دخول المفاهيم الغربيّة المتمثلة بـ«الأنجي أوز» وبديمقراطية الغرب التي تتآمر على حقوقنا كشعوب عربية، والتي كانت سبباً رئيسياً في تشويه صورة كل الحركات الاعتراضيّة في العالم العربي منذ الربيع العربي حتى يومنا هذا.
وللمصادفة، تم طرد صحافي لبناني منذ أيام معدودة وهو مدير مكتب «دوتشيه فيله» وذلك بسبب منشور كتبه على الفيسبوك يدين به التعامل مع العدو الإسرائيلي. لم نسمع من نقابة الصحافة ولا من تلك التي تطرح نفسها بديلاً عنها ولا من المؤسسات التي تدّعي الحرص على الصحافيين ولا من «صحافة حرية الرأي والتعبير» أي اعتراض على هذا الطرد المدان. هذا الإعلام نفسه أتحفنا على شاشاته بالدفاع عن قضايا سخيفة عن الحريات لكنه لم يتجرّأ أن يستنكر فصل زميل له. هذه الشاشات نفسها استماتت دفاعاً عن «الفنانين والمثقفين» كزياد دويري وغيره الذين زاروا الكيان الغاصب لأسباب منها معلوم، ومنها مجهول، ومنها مدفوع ومنها تماشياً مع ديمقراطيات بلاد العم سام!
كل هذا كان يحذر منه الرفيق سماح ويناضل من أجله، ساعياً دائماً ليكون لنا مفهوم صحافي متضامن، نقي ووطني، بوصلته القضايا المحقّة وليس «الأنجي أوز» والمفاهيم المستوردة عن الحريات.
خسرنا سماح وسنفتقد بذلك إنساناً ناضل بشراسة عن حقوق من يُسحقون يومياً، ومن يطالبون بأرضهم ويعترضون على ملك أو أمير أو زعيم، أو حتّى نظام!
رحلت يا سماح في زمن الانقسامات والتخلي عن المبادئ، رحلت والطائفية في أوْجها، رحلت في زمن الانهيار الأخلاقي والسياسي والتربوي والثقافي التام، كيف لا ونقابة الصحافة والمحرّرين لم تتكلّف عناء نعيك؟ كيف سيترحّمون على مقاوم وكاتب وصحافي شريف سيبقى حياً أبداً وقد ترحّمنا نحن وأنت على مبادئهم منذ زمن؟ كيف سيترحّمون عليك يا سماح وهم أصلاً ليسوا أحياءً في ضمائر الشرفاء أمثالك؟!!

* قياديّ في الحزب الشيوعي اللبناني