لا أحد منّا ينسى خريطة الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة التي وزّعها صهر ترامب، جاريد كوشنر، خلال مؤتمره الترويجي في المنامة في 25 و26 حزيران/ يونيو 2019. هذه الخريطة، التي تُشبه الجُبن الفرنسي المليء بالثقوب، منحت الفلسطينيّين مجموعة من الكانتونات المتوّزعة على الأراضي الفلسطينيّة والتي تربط فيما بينها في بعض الأحيان جسور وأنفاق. اعتقدَ بعض المعلّقين العرب، بأنّ صفقة القرن فشلت وبأنّ المشروع قد تمّ وأده في مهده. ولكنّ واقعنا الحالي وما تشهده المنطقة من تحرّكات مكّوكية إماراتيّة في الترويج للتطبيع مع الاحتلال، يُظهران بأنّ صفقة القرن ما كانت إلّا جزءاً من مشروع أكبر تمّ ويتمّ تنفيذه على مراحل متعدّدة.تعتبر صفقة القرن من النّاحية العمليّة، خطوة تحويل معادلة السلام مقابل الأرض إلى السلام مقابل التمنّن على الفلسطينيّين بمنحهم بعض الكانتونات وبعض المزايا الاقتصادية ومطاراً في صحراء مقطوعة. كما تُهمل هذه الصفقة عن عمد، حقّ العودة وحقّ المواطنة للفلسطينيّين وتسعى لتحويلهم إلى حُملان وديعة لا يمتلكون جيشاً يدافع عن أرضهم ولا روحاً وطنيّة ترفض التنسيق الأمني (عملياً تحويل الفلسطينيّين إلى جواسيس لصالح دولة الكيان).
المرحلة التي لحقت صفقة القرن كانت مرحلة إعلان (وليس بناء) علاقات مع الصديق السرّي (لم يكن سريّاً في معظم الأوقات) لـ «إسرائيل». هذه المرحلة كانت تهدف للترويج بأنّ مفهوم السلام مع «إسرائيل» لم يعد مستحيلاً، إذ إن هناك دولاً كالإمارات والبحرين وقّعت إعلان إبراهام. وساهم هذا التوقيع بطريقة أو بأخرى في كسر حاجز رهاب الإفصاح عن العلاقات مع العدو لدى بعض الدول الأخرى. إنّ المعادلة التي روّجت لها الدول الموقّعة على اتفاقية إبراهام كانت معادلة تطبيع اقتصادي أكثر من معادلة سلام مقابل سلام، إذ إن الإمارات والبحرين لم تكونا في يومٍ من الأيام على عداوة مع «إسرائيل».
المرحلة الثالثة كانت استهداف دول خارج إطار دول الطّوق المعروفة، عمل المتآمرون على القضية الفلسطينية على البحث عن دول الأزمات، وقامت بعملية ابتزاز تاريخيّة. حيث ربطت ملف رفع السودان عن قائمة الدول الداعمة للإرهاب مقابل الاعتراف بـ «إسرائيل» والتخلّي عن اللّاءات السودانيّة التاريخيّة الثلاث. ووعدت السودان بتقديم دعم اقتصادي يساهم بانتشاله من براثن الوضع الاقتصادي المتردّي. واتّجهت ماكينة التطبيع نحو المغرب من خلال اعتراف «صوري» أميركي بسيادة المغرب على أراضي الصحراء الغربية المتنازع عليها مع مجموعة البوليساريو المدعومة من الجزائر مقابل التطبيع مع «إسرائيل».
المرحلة الرابعة من هذا المشروع كانت استهداف دول الطّوق وإخراجها من معادلة الصراع. بدأت هذه المرحلة من خلال حصار لبنان اقتصادياً وفرض حصار خانق عليه ودفعه نحو الهاوية في بعض الأحيان. جاء تنفيذ هذا الحصار بأدوات أميركية.
على الجانب السوري، تقرّبت الإمارات من سوريا وأعادت تطبيع العلاقات معها ومن ثم وعدت الإمارات سوريا بتنفيذ مشروع لتوليد الكهرباء عبر الطاقة الشمسية. لم يفصح الجانب الإماراتي عن المقابل الذي يجب أن تقدّمه سوريا مقابل هذا المشروع المُكلف. وبعد أسابيع تُفاجئنا وسائل الإعلام بصور جمعت وزير المياه والري الأردني محمد النجار مع وزيرة التغيُّر المناخي والبيئة في دولة الإمارات مريم بنت محمَّد المهيري، و«وزيرة الطَّاقة» في كيان العدوّ كارين الحرار، وحضور المبعوث الرئاسي الأميركي الخاص لشؤون المناخ جون كيري، ووزير الصِّناعة والتكنولوجيا المتقدِّمة المبعوث الخاص لدولة الإمارات للتغيُّر المناخي سلطان بن أحمد الجابر. لقد جاء هذا الاجتماع لتوقيع «إعلان نوايا» يتمحور حول بناء شركة إماراتية لمحطة توليد كهرباء تعمل بالطاقة الشمسية على الأراضي الأردنية وتصدير الكهرباء إلى «إسرائيل» مقابل أن تقوم «إسرائيل» بتصدير 200 مليون متر مكعب من المياه المحلّاة إلى الأردن.
بادئ ذي بدء، يعتبر هذا المشروع خطوة نحو انتقال التطبيع الأردني ــ الإسرائيلي من مرحلة التطبيع البارد إلى مرحلة التطبيع الكامل وتشبيك الأردن باقتصاد العدو. لا أحد ينكر أن الأردن هو ثاني أفقر الدول من ناحية الموارد المائية على مستوى العالم وفق المؤشّر العالمي للمياه، ولكن هل يكمن الحل باستيراد المياه من «إسرائيل»؟
يقول وزير المياه والريّ الأردني محمد النجّار بأنّ فكرة المشروع المشترك بين الأردن و«إسرائيل» جاءت بطلب من شركة إماراتية، مضيفاً أنّ التفاوض بشأن المشروع «جرى خلال 24 ساعة فقط». هذا الانجرار نحو هذه المشاريع دون دراسة مسبقة للجدوى الاقتصادية والسياسية، يُشكل خطراً حقيقياً على المصالح القومية للأردن. فعلى الرغم من نفي الالتزام القانوني والفني «لاتفاق إعلان النوايا» من قبل الجانب الأردني، إلّا أن عمليّة جسّ نبض الشارع الأردني بعملية التطبيع الكامل مع «إسرائيل» أصبحت أوضح من الشمس.
لماذا لم يتساءل الجانب الأردني عن الدوافع التي دفعت الشركة الإماراتية على تقاسم أرباح تصدير الكهرباء إلى «إسرائيل» في الوقت الذي كان من الممكن على هذه الشركة إقامة محطة توليد الكهرباء على «الأراضي الإسرائيلية» نفسها والتي تتمتع بأيام مشمسة مثلها مثل الأردن تماماً أي ما يقرب من 300 يوم في السنة؟!
لماذا لم يتساءل الأردن عن اختيار الصحراء الأردنية في الوقت الذي تشكل فيه الصحراء في «إسرائيل» ما يقرب من 60 في المئة؟!
كيف يمكن أن تكون هذه الصفقة لصالح الأردن وبشكل استثنائي، في الوقت الذي امتنعت فيه «إسرائيل» في العديد من المناسبات عن تطبيق اتفاقيات المياه التي جرى التوقيع عليها في اتفاق «وادي عربة» وابتزّت الأردن في مراحل مختلفة لتقديم تنازلات سياسيّة مقابل تصدير الماء؟!
يعتبر إخراج الأردن من معادلة الصراع على حقوق الشعب الأردني والشعب الفلسطيني إلى مرحلة تشابك العلاقات الاقتصادية، مرحلة ضمن مراحل مشروع تصفية القضية الفلسطينيّة عن بكرة أبيها وتحويل الفلسطينيّين إلى مجرّد غرباء لا وطن ولا هوية لهم في بلدهم. هذا المشروع يجري تنفيذه بواسطة دولة تتمرّد على المفاهيم الجيوسياسية وتسعى لأن تكون الطفل المدلّل الثاني بعد «إسرائيل».
* كاتب ومترجم عراقي مقيم في إيران