كانت المدن متشابهة بتركيبتها بين ضفّتَي المتوسط حتى بداية القرن السادس عشر، والتفاعل بين الضفّتين كان قائماً إمّا حرباً أو سلماً عبر التجارة؛ والمنطقتان تحكمهما إمبراطوريتّان دينيّتان، واحدة عربية والأخرى أوروبية مركزها روما، مع فارق، ألا وهو تفوّق المدينة في الشرق العربي لأنّها مثّلت مركزاً علمياً وتجارياً مهماً، ويعود السبب في ذلك إلى فصل العلم عن الدين ورجال الدين مع بداية القرون الوسطى، وهذا ما لم تفعله الإمبراطورية الكاثوليكية التي استحوذت على المعرفة وتكلّمت باسمها، وقمعت أي رأي مغاير لموقفها وقراراتها، فقضت على الاستقلالية الفكريّة والعلميّة ما جعل أوروبا تستمد معلوماتها من المشرق في كل المجالات، من طب ورياضيات وفلسفة وأدب وشعر وموسيقى وغيرها الكثير.مع دخول عناصر قادمة من آسيا الوسطى في الجيش والإدارات العامة، بدأ الانحدار الفكري في المشرق العربي، وتضاءل دور المدينة، إلى أن قضى العثمانيّون نهائياً على الخلافة العربية المصدر، واستبدلوها بخلافة تركيّة سلطانيّة مع بداية القرن السادس عشر.

العامل الديني
التوقيت الفاصل بين التاريخَين هو اكتساح الأتراك العثمانيّين للعالم العربي والسيطرة عليه، والقضاء على دور مدنه؛ فالمعروف أن المدينة لعبت دوراً أساسياً ومركزيّاً في المشرق العربي منذ تاريخها القديم، وكانت المدينة تمثّل الدولة لذلك سُميت بالمدينة-الدولة (city state) كمثيلتها في الغرب (أثينا، إسبرطة، روما)، وبقيت المدينة المشرقية تلعب هذا الدور، فكانت الحاضرتان المميزتان بغداد ودمشق مركزاً للعلم والفكر والإدارة يؤمّها الطلاب من العالم أجمع، كما نشرت دمشق الأموية تجربتها الرائدة في الأندلس فوصلت حرية الفكر إلى أوجها في مدن إشبيلية وغرناطة وقرطبة، لكن سرعان ما سيطر العنصر التركي في المشرق، فمنع العلم والثقافة باسم الدين حتى في زمن الخلفاء العباسيّين لأنه استحوذ على الجيش، وبالتالي على جهاز الدولة برمّته.
ماركو كوبي Behance, 2014

إن القضاء على المدينة ـــ الدولة أوقف أي إمكانية لتطوّر المشرق العربي باتجاه المبدأ القومي/ الوطني ومبدأ المساواة والديومقراطية، لأن المدينة هي هوية جغرافية، لها تاريخها الذي لا يحدّده الدين، بل ما تحمله أرضها، ويحمله أبناؤها وبناتها من تراث منذ بداية التاريخ. لقد دمرت السلطنة العثمانية تاريخنا فلم نعد نرى أنفسنا كشعب في العالم العربي بل كدين، فنؤرٍخ ونعلّم ونقول «الإمبراطورية الإسلامية» بدلاً من أن نؤكّد أننا أسّسنا بأيدينا «الإمبراطورية العربية» في دمشق وبغداد، وهي عربية بحضارتها ولغتها وليس بإثنيّتها، لأن الحضارة العربية تميّزت بوجود إثنيات وعناصر مختلفة سكنت المنطقة وامتزجت مع سكانها الأصليّين الذين اعتنقوا الإسلام في غالبيّتهم، وليس جميعهم، فتاريخ المشرق العربي منذ القدم، تاريخ يقبل الآخر المختلف إثنيّاً ودينيّاً.
إن طمس الهويات الذي يمارسه مؤرّخونا باسم الدين، هو خيانة لتاريخنا، فعلينا أن نكفّ عن عنونة التاريخ في العالم العربي بين إسلامي ووثني، فهذه كتابة لاهوتية دينية لا علاقة لها بكتابة التاريخ بطريقة علمية وموضوعية. موضوعنا في المشرق العربي يدور حول «شعب» هذه المنطقة، وجوده، تطوّره، مآلاته ومصيره. دول العالم أجمع تكتب تاريخها انطلاقاً من تاريخ شعوبها، إلّا نحن لا نريد الاعتراف بوجودنا كشعب، بل كدين فنحن والتركي واحد لأننا مسلمون سنّيون، ونحن واحد في مواجهة المسيحي لأننا ننظر إلى دول الغرب ليس كدول قومية/ وطنية، بل كمسيحيّين علينا مقاتلتهم وكأنّ الدين الإسلامي أمر بقتل المسيحيّين. نحن لا نحارب الغرب لأنه مستعمر لأرضنا، بل نحاربه لأنه مسيحي، ولا نواجه التركي الذي سيطر علينا، ودمّر حضارتنا كما دمّر وظيفة مدننا الوطنية، لأن هويتنا هي «الدولة الإسلامية»، لا فرق بين شعب وآخر.
طالما علماؤنا وإعلاميّونا وكتّابنا ومفكّرونا لا يستطيعون التمييز بين الهوية الدينية والهوية القومية/ الوطنية، ولا يستطيعون التلفّظ بـ«الدول العربية» دون إضافة و«الإسلامية» عليها، فنحن في مشرقنا العربي نفكر كالعبيد، إذ نحن نقبل أن يستعبدنا شعب آخر باسم الدين، وإلّا لا معنى في ترداد «الأمة العربية والإسلامية»، لأن «الأمة العربية» إن كانت موجودة تضم إسلاميّين وغير إسلاميّين، وهويّتها ليست الهوية الإسلامية، بل الهوية القومية/الوطنية.
قد يناصرنا العالم الإسلامي الممتد من تركيا إلى إندونيسيا، وقد لا يناصرنا، فكل دولة من هذه الدول انتقلت إلى «الدولة-الأمة» الحديثة التي تراعي مصالح شعبها قبل أي شيء آخر، وقد تستعمر باسم الدين أيضاً إن كان في ذلك مصلحة لشعبها، لكنّها لن تقبل أبداً أن تستعبدها دولة أخرى باسم الدين كما نفعل نحن.

عصر النهضة الأوروبي
بدءاً من القرن السادس عشر افترق المسار المديني بين شرق المتوسط وغربه، لأسباب عديدة:
أولاً، علينا أن نتذكّر أنّه بالرغم من أن شرق المتوسط كما غربه كانا خاضعين لدول دينية، إلّا أنّ الفرق بينهما أن الإمبراطورية الكاثوليكية كانت وريثة الإمبراطورية الرومانية، وأبقت على عاصمتها روما كعاصمة الكثلكة، فهي أوروبية في الصميم، بينما اجتاح العثمانيّون العالم العربي المطل على شرق وجنوب المتوسط، وهو سلطة ليست من أهل المنطقة، بل سلطة شعب آخر احتل العالم العربي باسم الدين، وهذا فرق شاسع لأن الإمبراطورية الكاثوليكية حافظت على النظم والقوانين الرومانية السائدة آنذاك، كما حافظت على اللغة، ودعمت ملوك أوروبا مقابل الاعتراف بسلطتها، بينما فقد سكان المشرق العربي هويتهم العربية، وتحوّلوا عمالاً لدى السلطنة العثمانية، كما أصبحت اللّغة العثمانية هي اللغة الرسمية، وتقهقرت اللغة العربية حتى بالكاد أتقنها أهل المشرق، ولم تعد إلى رونقها إلا في القرن التاسع عشر حين قام مسيحيّون بإحيائها كاليازجيين.
ثانياً، خسرت المنطقة قرارها المستقل، وضمرت المدن لأن العثمانيّين قرّروا أن أي تبادل بين الشرق والغرب يجب أن يحصل عبر تركيا لا المشرق العربي، فازدهرت إسطنبول، كما تفشّى الفقر والمرض (الطاعون) لعدم وجود إمكانيات مادية لمكافحته، وضمر عدد السكان الذين أثقلت الضرائب العثمانية كاهلهم.
غادرنا الاحتلال لكن بغضاء الطوائف وانقساماتها لم تغادرنا. مدن المشرق العربي مختطفة من قبل المؤسسات الدينية التي تأبى أن تعيد للمدينة دورها «المدني»


ثالثاً، استحوذت السلطنة العثمانية على الأراضي، وأخذ السلطان يغدق الإقطاعات على ضبّاط من جيشه، لكنه يستطيع استعادتها ساعة يشاء، فلم تتكوّن إقطاعات كبيرة يتوارثها الأبناء. ولقد استطاع رجال الدين وضع قوانين تسمح لهم بتوارث الإقطاعات، فتحوّلوا إلى أثرى وأقوى الفئات الاجتماعية ما سيخوّلهم للعب دور كبير في مصير دول المشرق العربي فيما بعد.
رابعاً، لم تعد المدينة المشرقية تلعب أي دور سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي بعد أن حوّلها العثمانيّون إلى مركز إداريّ للسلطنة العثمانية، بينما تحوّلت مدن غرب المتوسط إلى مراكز استقطاب للحركات التحرّرية من الإقطاع والأرستقراطية، وما ساعد تحرّر الفلاحين من العمل كرق لدى الإقطاعيّين بدء الثورة الصناعية والحاجة للعمال بأعداد كبيرة، فانتقل الرأسمال من الأرض إلى الصناعة والتجارة وتأسّست الطبقة الوسطى في المدن وسميت بالبرجوازية أي سكان المدن (Bourg).
خامساً، أصبحت المدن في أوروبا مركزاً للنشاط الفكري المواكب للتطورات الحديثة فواجه مفكروها الكنيسة الكاثوليكية متسلّحين بقوة المدينة وسلطتها الكبيرة، إذ إنها استعادت دور «المدينة الدولة» الإغريقي كما المشرقي، فانشأت جهازاً سياسياً مستقلاً يستطيع أن يخوض حروباً، ويقيم تحالفات دون العودة إلى الإقطاعيّين الأرستقراطيّين، بينما رزحت مدن المشرق العربي تحت السلطة العثمانية التي قسمت المدينة بحسب الملل والطوائف، فنجد حتى اليوم في كافة مدن «سوراقيا» منطقة شيعيّة وأخرى سنيّة وثالثة مسيحيّة. وهكذا شلّت المدينة ولم يعد سكّانها يؤلّفون هيئة سياسية ومجتمعية متماسكة، بل تباغُض ونفور من الآخر المشترك في الدورة الحياتية نفسها!
انطلقت من المدن الغربية ثورة قوميّة/ وطنية، وثورة فكريّة دعمها انتشار المطابع وبالتالي المعرفة، وثورة ديموقراطية أطاحت بالملكية وهيمنة رجال الدين، أما الثورة الثالثة فكانت الثورة الصناعية التي غزت عبرها العالم، وتحوّلت إلى ريادة التكنولوجيا. أما نحن، فلا نزال في عالمنا القديم، غادرنا الاحتلال لكن بغضاء الطوائف وانقساماتها لم تغادرنا. مدن المشرق العربي مختطفة من قبل المؤسّسات الدينية التي تأبى أن تعيد للمدينة دورها «المدني» الذي هو أساس وجودها كما تدل الكلمة، وتمنع عنها مهمتها الأساسية في صناعة التاريخ الحديث، والولوج إلى الدولة القومية/الوطنية.
* باحثة وأستاذة جامعيّة