«إن الاتهام الذي أُدينت بموجبه الصحافية لم يكن من ضمن الجرائم الخطرة المحددة التي تختص المحكمة بها، وبالتالي لا أساس قانونياً يلزمنا بالتعاون مع هذه المحكمة في ما يتعلق بمذكرة التوقيف...» (برنارد فاليرو، «نيويورك تايمز»، 26 كانون الأول 2011).
لم يصدر هذا البيان الرسمي عن الرئاسة السورية، ولا عن أي مسؤول إيراني أو سياسي لبناني معارض للمحكمة الخاصة للبنان، هذا جواب الناطق باسم وزارة الخارجية الفرنسية على مذكّرة إلقاء القبض الصادرة عن محكمة يوغوسلافيا الدولية بحق الصحافية الفرنسية فلورانس هارتمان.
فبنتيجة محاكمة الصحافية المذكورة بجرم عرقلة سير العدالة وتسريب المعلومات، وسنداً للمادة 77 (مكرر) من قواعد الإجراءات والإثبات (محكمة يوغوسلافيا)، أصدرت غرفة الاستئناف لدى المحكمة الدولية لجرائم حرب يوغوسلافيا السابقة حكماً بحق المتهمة هارتمان (مراسلة سابقة في جريدة «لوموند»، والناطقة الرسمية السابقة للمحكمة ذاتها)، قراراً نهائياً قضى بتغريمها مبلغاً قدره سبعة آلاف يورو، مسددة على دفعتين متساويتين.
كان بإمكان الصحافية المذكورة تسديد المبلغ المصنف «معقول»، وبالتالي تفادي الإشكال مع محكمة مصنفة دولية بامتياز - أي مشرعة بقرار أحادي من مجلس الأمن خلافاً لمحكمة لبنان المشرعة بالاتفاق مع الدولة اللبنانية -، لولا خطورة هذا القرار وتجاوزه الفادح لقرار مجلس الأمن 827/93 الذي أنشأ المحكمة، ولنظامها، وللشرائع الدولية وخاصة البند 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وبسبب امتناعها عن تسديد الغرامة، تحوّل القرار المالي إلى قرار بحبس الصحافية المذكورة لمدة سبعة أيام، وفي 16/11/2011 أصدرت المحكمة مذكرة إلقاء قبض دولية! ما استدعى بيان وزارة الخارجية الفرنسية.
بالرغم من الانزعاج السطحي الذي ظهر في بيان الوزارة الفرنسية، إلا أن أيّ مراقب قانوني سيعتبر أنها قد بالغت بالتقصير في هذه القضية؛

كيف ولماذا أهملت
الدولة الفرنسية طرح تعديل كهذا إلى مجلس الأمن؟


فالصحافية المذكورة، وإن بقيت محمية وحرة الكلمة في وطنها لغاية اليوم، لكن بنهاية الأمر فالمذكرة الدولية قد حرمتها حقها في السفر خارج فرنسا أو في أحسن الأحوال خارج أوروبا، وبالتالي تكون فرنسا قد قامت بجزء من واجبها الوطني الداخلي فأسكتت إعلامها العريق، ولكن أهملت الجزء الآخر والأهم، وهنا نقصد واجبها الدولي.
لم يثبت لنا قيام الدولة الفرنسية – وهي عضو دائم في مجلس الأمن – بأي إجراء قانوني يلزم المحكمة الدولية لأجل يوغوسلافيا بإلغاء أو حتى تصحيح المادة 77 مكرّر من نظام الإجراءات والإثبات. وهي المادة التي أُضيفت عام 1999، أي بعد ست سنوات من تاريخ إنشاء المحكمة، المختصة أصلاً بمحاكمة مجرمي مجازر الحرب اليوغوسلافية.
وبالفعل، ففرنسا هي عضو دائم في مجلس الأمن، ومن المحظوظين بقدرتهم الدائمة على اقتراح القرارات الملزمة، ليس على محكمة دولية فحسب، بل على كافة شعوب دول العالم الثالث أيضاً.
المستغرب هو أن فرنسا لم تقترح أي مشروع قرار يترجم بيانها الصارم إلى حقيقة!
إن تطرقنا إلى موضوع الإعلامية فلورانس هارتمان ليس وليدة الحشرية أو حباً بالمعرفة فحسب، بل إن قضية هارتمان قد شكّلت السابقة التي يمكنها أن تؤثر إيجاباً في قضية حرية الإعلام، وبالتحديد قضية الإعلاميين اللبنانيين، بعد أن أثرت سلباً من خلال تلقف محكمة لبنان لها واعتبارها سابقة (precedent) في القانون الدولي، فباتت سيفاً مُصلَتاً على حرية الرأي... حتى الحرية المشروعة.
المادة (2) من القرار 827/93 (محكمة يوغوسلافيا) الصادر عن مجلس الأمن قد جاء واضحاً:
«يقرر بموجب هذا إنشاء محكمة دولية القصد «الوحيد» منها هو مقاضاة «الأشخاص المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي التي ارتكبت في إقليم يوغوسلافيا السابقة في الفترة بين 1/1/1991 وموعد يحدده «مجلس الأمن عند استعادة السلم...».
فمن مراجعة نظام محكمة يوغوسلافيا الضموم كملحق للقرار رقم 827 الصادر عن مجلس الأمن بتاريخ 25/5/1993، بالأخص المواد (1 - 8) «اختصاص المحكمة الوظيفي والمكاني»، يتبين بصراحة ووضوح أن صلاحية المحكمة هي محاكمة مرتكبي جرائم القتل والإبادة التي حصلت ضمن حدود جمهورية يوغوسلافيا السابقة، أي ليس فيها أي صلاحية أو اختصاص لمحاكمة أحد سوى مجرمي الحرب التي قامت ضمن حدود يوغوسلافيا السابقة وشركاؤهم في المجازر.
ولقضاة محكمة يوغوسلافيا صلاحية وضع قواعد الإجراءات والإثبات (المادة 15 من النظام الأساسي)... وهي ذات الصلاحية المنصوص عنها في المادة 28 من نظام محكمة لبنان.
وكما تم حشو المادة (60 مكرر) في نظام المحكمة الخاصة للبنان، كانت محكمة يوغوسلافيا قد ارتكبت السابقة ذاتها، ولكن في المادة 77 مكرر.
إن البحث عن الأخطاء التي ارتكبت بحق فلورانس هارتمان ليس بالعملية الصعبة، وقد تكون مدار بحث خاص وشامل، ولكن من الملاحظ أن اياً من المدافعين عنها (من محامين وهيئات دولية معنية والدولة الفرنسية)، لم يطلب أو حتى يوجه دفاعه نحو وجوب إلغاء أو توضيح المادة 77 مكرر... بالرغم من واقعية هذا الطلب.
كيف ولماذا أهملت الدولة الفرنسية طرح تعديل كهذا إلى مجلس الأمن؟ فالمحكمة الدولية ليوغوسلافيا هي ملك «صرف» من أملاك مجلس الأمن، وقرارها كان محط انتقاد كافة وسائل الإعلام العالمية، وخاصة الفرنسية والأوروبية والأميركية.
هذا في ما يتعلق بقضية هارتمان ومحكمة يوغوسلافيا، أما بالعودة إلى المحكمة الخاصة بلبنان، فإن طلب إلغاء المادة 66 (مكرر) أو تعديلها هو طلب مشروع وله إجراءاته المحددة بمتن النظام الأساسي وحتى قواعد الإجراءات والإثبات.
فقبل الطعن بصدقية المحكمة، يجب استعمال كافة الوسائل القضائية المشروعة وضمن المهل، وإذا كانت الدولة اللبنانية عاجزة (أو معجّزة) عن تقديم مشاريع قرارات أمام مجلس الأمن، فإن للمتهم طرق دفاع، لم يثبت لنا أن فريق الدفاع عن هارتمان قد سلكها، وقد تؤدي إلى نتائج إيجابية.
فالفقرة (ألف) من المادة 5 من قواعد الإجراءات والإثبات قد حددت بصراحة آلية تعديل القواعد:
«(ألف) يجوز تقديم اقتراحات بتعديل القواعد من جانب أحد القضاة أو المدعي العام أو رئيس مكتب الدفاع أو رئيس قلم المحكمة».
وإذا ربطنا هذه المادة إلى واجبات رئيس مكتب الدفاع، المحددة بالفقرة (زاي) المادة 57 من القواعد ذاتها المتضمنة: «الحرص لمصلحة العدالة أن يكون تمثيل المشتبه بهم والمتهمين متوافقاً مع القواعد الدولية. ومع أحكام النظام الأساسي...».
وبالتالي فلا بد من التقدم بواسطة رئيس مكتب الدفاع بطلب تعديل أو إلغاء المادة 66 (مكرر)، لمخالفتها المواد 1و2 من النظام الأساسي، وقرارات مجلس الأمن الملزمة إضافة إلى البند 19 من شرعة حقوق الإنسان، هو إجراء لا بد منه، على الأقل قبل السير بالدفع الأولي بعدم اختصاص المحكمة وغيرها من الدفوع المحددة بالمادة 90 من قواعد الإجراءات والإثبات ولذات الأسباب، التي يجب أن تثار «خطياً» خلال مهلة ثلاثين يوماً على الأكثر من تاريخ اطلاع الدفاع على كل المواد والإفادات».
إن العمل الجدي على تعديل وتصحيح القواعد التي تتعارض مع أسس نظام المحكمة والاتفاقية المعقودة بين الدولة اللبنانية والأمم المتحدة والشرائع الدولية الأخرى، قد يفتح الباب من خلال الوسائل الإعلامية اللبنانية لتصحيح الخلل الذي كانت وزارة خارجية فرنسا قد وصفته منذ ثلاث سنوات بأحسن توصيف، ولو أنها تعاطت معه على الطريقة اللبنانية.
* محامٍ لبناني