نَحَتَ المُستعمِر مفهوم «الإرهاب» منذ زمن بعيد وطوّعه على هواه بما يخدم مصالحه ومعاركه في كلّ مرحلة. وقد استخدمه في الداخل أولاً، ضد ثورات قبائل السكان الأصليّين في أميركا الشمالية وأستراليا ومن أجل سحق نضال الشعوب في الهند والجزائر والفليبين وجنوب أفريقيا وغيرها. كانت هذه الشعوب وطليعتها الثورية أول من جرّب تهمة «الإرهاب» على شكل مجازر ومشانق كما أخبرنا المناضل والراحل الكبير د. إقبال أحمد في ندوة هامّة حَمَلت عنوان: إرهابهم وإرهابنا.يقول البروفيسور أحمد: يأتي تحليل الإرهاب دائماً من مصدرين: الذين يدّعون مقاومته والذين يحاولون شرحه. ويُشير الأكاديمي الباكستاني وصديق الشعب الفلسطيني إلى معجم أكسفورد حيث نجد معنى وجذر كلمة إرهاب في اللّغة ومرادفات كثيرة اخترعتها بريطانيا والقوى الاستعمارية في سياق وصف مقاومة «الهنود الحمر»!
noviarifin - DeviantArt

الدول الاستيطانية الاستعمارية مثل أميركا وفرنسا وبريطانيا وأستراليا وكندا وغيرها اخترعت «قوانين الإرهاب» بهدف تجريم من يقاومها في الداخل، ولاحقاً وظّفتها للضغط على حركات التحرّر، غير أن تشريعات من هذا النوع، في هذا الزمن، عام 2021، وتجريم حركات سياسيّة تحظى بتأييد شعبي عارم، كما فعلت بريطانيا وأستراليا مؤخّراً مع حماس وحزب الله، يعني أن تطال هذه القوانين، في حال سريانها، الجميع. فالقوانين صُمِّمَت لردع مواطني – مستوطني – هذه الدول أيضاً.
وهذا يعني أنها لن تظلّ انتهاكاً لحقوق جماعة واحدة مستهدفة وبعيدة، هناك خارج الحدود، بل تتحوّل مع الوقت إلى قانون يصعب خلعه في الداخل، وأداة قمع تستهدف الحرّيات الفردية والعامّة. ونحن في زمن صار يختلط فيه «المهاجر» مع «المواطن» ولذلك، تناهض مؤسسات سياسية وحقوقية وأكاديمية التسرّع في إصدار مثل هذه القوانين من منظور مصلحة مجتمعاتها أولاً.
تهدف هذه «القوائم» في عصرنا الرّاهن إلى بناء معسكرات اعتقال جماعيّة من نوع آخر: معسكرات موجودة في الرأس وليس على الأرض. يحدث هذا من خلال «تصنيع نماذج» و«فزّاعات» يعلكها الإعلام المسيطر يومياً حتى تصبح بعد فترة وجيزة كأنها أحداث وقعت ولها أسماء ورموز. فالحديث المتواصل عن «الخلايا النائمة» والتي عادة تُذكر مع عبارات تتبعها - أو تسبقها – استدعاء صور «الأهداف الناعمة» مثل المراكز التجارية والأسواق والمدارس والأطفال ودور السينما والمسارح!
الهدف من وراء هذا كلّه زرع صورة في ذهن الرأي العام وتعزيزها عبر منظومة إعلامية وثقافية متكاملة تبدأ من أفلام هوليوود ولا تنتهي. الإرهاب يعني اليوم «شيئاً آتياً من الشرق»، له ملامح عربية وإسلامية، آسيوية، أفريقية. هذا لا يغرق المجتمع في وحل العنصرية أكثر وحسب، بل ويُشيع فيه الخوف والجهل معاً. الخوف من مجتمع المهاجرين. في الوقت ذاته تستهدف الدولة «المواطن الآخر» القادم من الشرق، وتدفعه ليقوم بدور الجلّاد لنفسه، ويُمارس القمع الذاتي حين يعمل بالنيابة عن أجهزة الحكومة ويَعتقل نفسه وعائلته في صندوق الخوف.
إنّه الخوف إذن. أو الإرهاب، إرهاب الدولة المنظّم، الأداة الفعّالة المجرّبة، من خلالها يجري استهداف الجميع في الداخل والخارج. ويُخلَع المهاجرون واللاجئون عن قضاياهم وتجري عملية إقصائهم عن المشاركة في العمل العام وحركة التغيير لصالح شعوبهم.
وإذا كان التخويف، الترويع، الرّدع، العقاب، صنيعة وحرفة المستعمر من أجل قهر الشعوب والسيطرة عليها إلى أطول فترة ممكنة، فلا يوجد في قبضة الشعوب المستعمَرة من أداة فعّالة لمواجهة هذه السياسة إلا السّلاح ذاته: التخويف والترويع والرّدع. وإدامة الصراع لأطول فترة ممكنة. وعلينا نحن العرب أن نتصالح مع هذه الكلمة ــ الإرهاب ــ وألا نخاف منها حتى لو سيقت لنا كتهمة في محاولة لتجريم المقاومة المسلّحة.
إنّ أحد أهم أهداف المستعمر، اليوم، هو فصل حركات المقاومة عن القضية التي تقاتل من أجلها. القول إنها «منظمات بلا قضية». تجريمها بالقانون يعني تفريغها من مضمونها وتشريع وتبرير استهدافها لاحقاً. إن فصلها عن المسألة السياسية ومجرى الصراع الدائر باعتبارها طرفاً فيه يعني حشرها في ملف أمني. ملف أمني فقط.
ما يسمّى «لائحة المنظّمات الأجنبية الإرهابية» لم تظهر بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001. فمن يصدّق أن منظّمات وحركات مثل حزب الله والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحماس والجهاد الإسلامي والحزب الشيوعي الفليبيني و«الجيش الثوري الكولومبي – فارك»، و«منظمة نمور التاميل» وغيرها، كانت تفتح مكاتب مثلاً في لندن وباريس وواشنطن قبل 11 أيلول/ سبتمبر! هذه المنظمات مستهدفة وعلى قوائم الإرهاب منذ تأسيسها. هناك مصلحة للولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا في التذكير بها بين حين وآخر حينما تقوم بتحديث القائمة وتضعها مرة أخرى ـــ عن قصد ـــ في قائمة واحدة مع «داعش» و«القاعدة» و«النصرة» وحركة «كاخ» الصهيونية و... الـ «كو كلوكس كلان»!
لا تتولّى وزارة الخارجية في هذه البلدان متابعة «ملف الإرهاب»، بل وزارة المالية باعتبارها الخصم الأول، لأن جوهر القرار يتّصل بما يسمى «تجريم الدعم المادي»، وما يهم صناع القرار هو حصار حركات التحرّر و«تجفيف المصادر» وتجريم الدعم لها، أي منع الإسناد السياسي والمالي للطبقات الشعبية في بلداننا على نحو خاص.
قوائم الإرهاب جرى إعادة خرطها أكثر من مرة، آخرها في عهد الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون منتصف التسعينيات وليس مع جورج بوش الابن كما يُشاع، وهدفت لائحة كلينتون إلى الضغط على القوى الفلسطينية والعربية التي «ترفض عملية السلام وتناهض التسوية السلمية عن طريق العنف»، هذا هو النص الحرفي الذي جرى استخدامه لتبرير اللائحة التي أصدرتها الخزانة الأميركية عام 1994: استهداف القوى المسلّحة التي رفضت اتفاق أوسلو.
وجاءت اللائحة وفق سياسة العصا والجزرة بطبيعة الحال. أرقام هذه المنظّمات المدرجة على القائمة ترتفع وتهبط بحسب «التقدم» في موقف المنظّمة المدرجة وليس لتغيير في السياسة الأميركية. فالهدف السياسي من هذه القوائم هو انتزاع تنازلات من قوى المقاومة وحركات التحرّر ودفعها للتخلّي عن سلاحها وتبنّي مواقف «مؤيّدة لعملية السلام»، وقد نجحت الإدارة الأميركية في تحقيق هذا الهدف في بعض الأحيان فشطبت مثلاً من تلك القائمة منظّمات مثل «مجاهدي خلق» و«الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين» و«الجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا» وغيرها.
يهدف معسكر العدو الصهيوني إلى التضليل وتشويه صورة ونضال الإنسان العربي حيث يجري إدراج حركات المقاومة المسلّحة إلى جانب منظّمة «كاخ» الصهيونية كما أشرنا سابقاً. وهذه منظمة هامشية في الكيان، يرفضها عتاة القتلة في الأحزاب الصهيونية لأنها لا تساعد على تلميع صورة «إسرائيل» غير أن إدراج «كاخ» يجعل الإدارة الأميركية تبدو «مُنصفة» و«حيادية» في عدائها «للتطرف والعنف في المنطقة»!
وتهدف قوائم الإرهاب إلى حصار المقاومة وعزلها عن حاضنتها الشعبية وإرهاب المؤسّسات الثقافية والاجتماعية والنقابيّة والخيرية العاملة في بلدان «المهجر»، فلا ترغب هذه الدول في تنامي دور مجتمعات المهاجرين وحركات التضامن الجذرية مع الحقوق الفلسطينية، وتعمد على الفصل بين حركات التحرّر وبين امتداداتها المؤازرة داخل المجتمعات الغربية، وتضرب كل قوة يمكنها أن تمارس دوراً سياسياً ضاغطاً على الحكومات لصالح قضايا وحقوق الشعوب.
على قوى المقاومة الفلسطينية والعربية وغيرها في المنطقة أن تحوّل هذا الاستهداف إلى فرصة لصالح شعوبها وقضيتها من خلال تسليط الضوء على تاريخ مقاومة الشعوب لإرهاب المستعمِر وفهمه في سياقه السياسي وتعزيز علاقاتها مع حركات التحرّر على المستوى الدولي التي لها مصلحة في محاربة ما يسمّى قوائم الإرهاب، وتعميق دورها وخطابها الثوري التحرّري ودعم الحركات الثورية المسلّحة ومناصرة نضال السود والمهاجرين والسكان الأصليّين داخل مجتمع المستعمر نفسه ورفع سقف الخطاب السياسي لحركات التضامن المناصرة للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
من حق الشعوب المستهدفة أن يكون لديها قائمة تضع فيها الكيان الصهيوني ولائحة الدول الاستعمارية والحكومات ومسؤوليها، فهذا هو الرّد/ع السياسي المباشر في مواجهة هذه القوائم. كما من حقّها مناهضة السياسات الاستعمارية بكل الوسائل الممكنة ومقاطعة منتوجات وشركات هذه الدول ومحاصرة سفاراتها واستهداف مصالحها وتجفيف منابعها ومصادرها أيضاً.
* كاتب فلسطيني