يمكن للبنانيين وللأحزاب المنتشرة فيهم أو لدول في الإقليم أو العالم أن ينظروا، جميعاً أو أشتاتاً إلى حالة حزب الله وما يملكه من أسلحة متطورة وعديدٍ منظم كشف عنه أمينه العام أخيراً، بدهشة وغرابة. وشاح الوداعة والتواضع واللين والتسامح والعقلانية الذي يعتمره على رأسه لم يسبق أن رأوه من قبل لا في داخل لبنان عبر الميليشيات المسلّحة التي نشطت خلال الحرب الأهلية ولا خارجه عبر قوى «غير دولتية»، كان بعضُها يمارس العنف والإمرة في الإدارة والسياسة ويبالغ في انتهاك الهُويات والثقافات والعادات المجتمعية والدينية القائمة. على الرغم من سني الحرمان والتهميش والعسف التي لحقت بالبيئة التي يمثلها لم يشتهِ الحزب لعبة الانتقام ولم يحمل في صدره غلاً وحقداً على من تسبّب بالأذية التاريخية والقتل العلني والخيانة بأشكالها الفجّة. ما أظهر الحزب يوماً رغبة محمومة للتخلص من خصمائه، ولم تُغرِه القوة التي امتلكها للانزلاق في لعبة تصفية الحسابات، بل مَن كان يسمع الأمين العام في خطاباته الكثيرة يشعر بقوة دفع مناقضة لا تخرج إلا بدعوات الحوار والتفاهم وتجنّب استعمال سلاح الفتنة. إلى درجة أنّه أصبح عرضة للتهكّم وقول بعضهم: «إنّه ليس مثلنا، وهو يفضّل البحث عن ظل يختفي وراءه، لأنّه يخشى أن نغلبه في لعبة الحرب الداخلية التي لا يُتقنها في هذا البلد أحد سوانا». التاريخ ينقل لنا شيئاً شبيهاً لهذا البعض الذي لا يفصله عن الخُرق سوى مسافات قليلة. فقد قيل للإمام علي(ع): «إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب» فردّ على غرور هؤلاء بالقول: «لله أبوهم وهل أحدٌ منهم أشدُّ لها مراساً وأقدم فيها مقاماً مني. لقد نهضتُ فيها وما بلغت العشرين وها أنا ذا قد ذرَّفتُ على الستين». وفي لحظتنا الراهنة يجب أن يعرف من ترتسم في ذهنه أحابيل الشيطان أن أوهامه العميقة تعميه بحيث لا يرى ما يجب أن يُرى، ويرى ما يجب ألّا يُرى. ربما كان الأمين العام ينساب وراء ابتسامته الجميلة حين يستمع إلى هذا البعض الذي يحاول المستحيل فلا يجني من مستحيله إلا الأخطاء والخطايا والخيبات. مَن قاتل وهو ابن عشرين وها هو قد تجاوز الستين مسكون بإيمانه. يعيشه بكل العمق الذي يستحقّه، وبالصلابة التي تزداد مع الزمن. فلا يسمح للذاكرة أن تهتزّ بصورها القديمة القاسية إلا ليختبر فهمه للحياة، وما هو عابر فيها وما هو مقيم. وكيف يجعل من استقامته استراتيجية للجم الشر، وكيف يستخدم طاقة خصمه لإرباكه وليكشف للناس حيله وخرافاته والقاع السياسي والأخلاقي الذي يختنق به.
يعرف الأمين العام ماذا يريد تماماً. ترك خصماءه يُظهرون أسوأ نواياهم وعدوانيّتهم. لم يردّ على استفزازاتهم في «خلدة» و «شويا» و«الطيونة»، وقبل ذلك على مدى سنتين في قطع الطرقات، وإن كانت تحفر في بصره وحواسّه غضباً مستحقاً. مُتعتُهم كانت في أن يفقدوه توازنه فيعمد إلى تحريك جنده في ظل جاذبية القوة والانتصارات الخارجية ليقع بعدها في حفرة المكيدة المحلية والإقليمية والدولية. لكنّه لم ينخدع يوماً بما يملك ولا هو مأخوذ بنظرية الحرب الدائمة. وهو، طالما يقدر على الفوز بالمعركة من دون إطلاق رصاصة واحدة، من خلال وضع خصمائه في طريق مسدود، وإقناعهم أنّهم لن يكسبوا شيئاً من مهاجمته ولو تشدّقوا لجمهورهم ولمشغّليهم بأنّهم أهل للنزال، فإنّه سيفعل ذلك. يعترف خصماء السيد نصرالله وأعداؤه في الداخل والخارج أنّه يتصرف بطريقة غير متوقّعة. تُذهلهم جرأته في كسر السقوف الاستراتيجية وجعل لاعبين كبار في المنطقة مكدودي الحال متقطّعي الأنفاس محدودي الخيارات، ولو كانت هدير سفنهم الحربية تحتل البحار وضوضاء طائراتهم الحربية تملأ أكثر من سماء. ويؤرقهم، في جانب آخر، صبره ورباطة جأشه رغم أنهم يفعلون كل شيء بهدف مضايقته وتشويه صورته.
نعم، ما زال للبنان فرصة أن ينجو من كابوس الحرب الأهلية والفتن المتقطّعة والكمائن الغادرة بسبب مهارات «السيد» الأخلاقية... إنّه يمضي قُدماً بإيمانه الذي يطلب منه الصبر


في حين أنّ «السيد» لا يضطر لإضاعة وقته مع استفزازاتهم إلا بالقدر المتعيّن الذي عليه أن يلاقيه. بينما تبدو مواقفهم له ساذجة وسخيفة، وتصرفاتهم خرقاء رغم امتلاكهم لقدرات مالية وعسكرية ومراكز أبحاث لا تتوقف عن العمل الاستثنائي والتخطيط المتقن وعجن المؤامرات. كلما كادوا للمقاومة وللوطن خرج عليهم بخطاب عرقل فيه مساعي جنونهم وجعلهم يقضمون خططهم البائسة. لا يشك «السيد» أبداً في التحرك الذي يختاره، ويعرف كيف يستخدم مهاراته الأخلاقية ليُطفئ ألسنة النار التي تتصاعد من «معراب» أو «المختارة» أو «بيت الوسط»، أو أماكن أخرى يعود أصحابها مع كل حملة أميركية أو سعودية إلى بدائيتهم الأولى. يريد هؤلاء أن تنسدّ كل بوابات الطوائف وطرقها أمام المقاومة وأن يخرج الغبار الأسود ليختنق المقاومون وأنصارهم في عزلتهم وخوفهم وجوعهم وقلة حيلتهم. فعلوا ذلك خلال عدوان تموز 2006 وأيضاً خلال سنوات الحرب على سوريا، وهم أرادوا ذلك مجدّداً وربما دائماً من بوابة الانهيار الاقتصادي والحرب الأهلية. كان يمكن للأمين العام بعد هزيمة إسرائيل المذلّة عام 2000 أن يبطش بالعملاء وأشياعهم وأتباعهم وكل من نصب للمقاومة الحرب وأسّس أساس الظلم والجور في هذا البلد. لكنّه لم يفعل ذلك. ولا فعل ذلك بعد الانتصار الكبير في عام 2006، وأيضاً بعد أن بلغت المقاومة في تعاظمها واقتدارها ما بلغته في حرب سوريا ونجاحها في هزيمة أشدّ الكائنات البشرية فتكاً وتوحّشاً.
المضحك أنّ بعض المنتفخين «الفايسبوكيين» و«التويتيريين» الذين حرّضهم «السيد» على اختبار حواسّهم وذاكراتهم من باب النصيحة الأخوية والوطنية، مصرّ على مراهقته ولا يريد سماع صفارات المغادرة بعد أن انتهى زمان من هو أكبر منه! المهم، أنّ «السيد» بخُلُقه الرفيع لا يريد أن يأخذ اللبنانيين بجريرة «طغاة الداخل والخارج». كان تفاهم «مار مخايل» فتحاً وطنياً، أظهرت عبره المقاومة استعدادها أن تكون جزءاً من ضرورات أمن الآخر ومصالحه وإنسانيته وحياته العامة بلا منّة ولا «ذميّة» ولا «عددية»، وما ذلك إلا لأنّ «الله ... يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف». الرفق جزء من طبيعة «السيد». وسلوكه، وهو يقطع بعض المعابر المصيرية الكبرى، خير شاهد على ذلك. وقد سبق للمقاومة كما نقل لي أحد قيادييها يوماً أنّ قائد الثورة الإسلامية الإيرانية الإمام الخامنئي قال في جلسة خاصة حول الأوضاع في لبنان: «إنّ فتح القلوب أهم من فتح البلدان». ثم إنّ المصادفة قادتني خلال قراءتي كتاب الإمام الخميني «جنود العقل والجهل» إلى العبارة ذاتها مع زيادات يقول الإمام في شأنها: «يمكن للإنسان من خلال الرفق والمداراة أن يستقطب قلوب الناس ويُخضعها لإرادته، ولكن من المحال أن يُنجز شيئاً من ذلك بالعنف والشدة»... ثم يوصي الهداة إلى طريق الحق... «بأن يسلكوا سبيل فتح القلوب... وأن تكون قوة الرفق والمداراة راسخة فيهم إلى درجة تمكّنهم من التغلب على جهالات الجَهلة والحمقى».
ومَن أسمى من «السيد» حِلماً ورفقاً ورأفة؟ ومَن أشجع منه حين يشتدّ الوطيس، وأرحم منه حين تتسلل المعاناة إلى حياة اللبنانيين. ولذلك هو لا يسمح أبداً لمشاعر القوة والغضب والاقتدار أن تنحرف عن مسارها. يوازن بين الصرامة والرحمة. يفرّق تماماً بين عموم اللبنانيين وبين مَن يصنع الغدر. وهو عندما يوجّه الضربات إلى خصومه في الداخل يستخدم ألفباء الرفق التي أنتجت بعض أروع صفحات تاريخ لبنان الحديث. بيد أنّ مَن حاول جرّ «السيد» إلى الحرب الأهلية ولبنان إلى التقسيم والمجتمع إلى كراهية المقاومة، فهو يخطئ أبداً إن كان يعتقد أنّ الطريق الذي يسير عليه هو الطريق الصحيح، لأنّه إن قرر المواجهة فإنّه سيلقى الهزيمة على الفور، ومن يُفرط كثيراً في الثقة بالاستناد إلى دعم حلفائه الغربيين والخليجيين عليه أن يعرف أنّ «الفرن المفتوح لا ينضج خبزاً»! والنتيجة هي هذه ببساطة.
في المحصلة، يستخدم «السيد» الرفق باعتباره محرّكاً لمعالجة الوضع السيئ بطريقة أفضل نحو حياة طيبة كريمة، وليس باعتباره كابحاً يمنع من تأديب المعتدين.
فعبارة «حافظوا على غضبكم»، ستبقى حاضرة هي الأخرى عند اللزوم في وجه مَن أنتج أسوأ فصول لبنان الدموية والاقتصادية!
نعم، ما زال للبنان فرصة أن ينجو من كابوس الحرب الأهلية والفتن المتقطّعة والكمائن الغادرة بسبب مهارات «السيد» الأخلاقية. بالمناسبة، هو لا يُخبّئ ميله الديني في مثل هذه المواقف الصعبة التي يلتزم فيها آخرون برفع عقيرة الخطاب الطائفي والتحريضي لاستنهاض جمهور متعب محبط. إنّه يمضي قدماً بإيمانه الذي يطلب منه الصبر. لأنّه مع كل صبر يكتسب انتصارين: الأول على الذات، والثاني على الآخر الذي يريد جرّه إلى ميدان معركة ليست معركته. وهذه حقيقة يعرفها المؤمنون جيداً.
في «خلدة» و«شويا» كما «الطيونة»، يعطي «السيد» كل شيء القيمة التي يستحقها. لأنّه في البدء والنهاية هو سيد سلاحه في السّلم كما في الحرب!
* أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الدولية