تجعل الاستحقاقات المقبلة في أكثر من قطر عربي واقليمي، الأشهر الثلاثة المقبلة، من الأكثر حساسية ومفصلية في حركة الصراع الدائرة في المنطقة اليوم، إن لم نقل أبعد. يأتي الاستحقاق الانتخابي في العراق في مقدمها، إذ إن نتائج التصويت الانتخابي ستتجاوز الأزمات الكبيرة الداخلية، التي يعاني منها العراق اليوم، إلى ما هو أبعد، وتحديداً مرتبط بدوره وموقعه السياسي في حركة التجاذب الحادة التي تمر بها المنطقة، وبالتالي تعزيز أو اضعاف موقع وقدرة أي من الأطراف المتشابكة والمحاور المتقابلة.

ثاني الاستحقاقات يتمثل في فرصة التوصل للاتفاق على الحل النهائي بين ايران ودول الخمسة+1، والتي يرى فيها جميع أطرافها مصلحة يجب انجازها، كل بحسبه. ولا شك في أن إنجاز هذه المرحلة بنجاح سيتيح مساحة تواصل وانفتاح بين الاتحاد الأوروبي وايران، يبدو الطرفان بحاجة لها، أما أميركا فتبقى أي علاقة بها مرتبطة بملفات وقضايا كبرى ومسار طويل من انعدام الثقة، يستحيل تجاوزها أو تخطيها انطلاقاً من رؤية الطرفين المتضادتين لبعضهما البعض.
ثالث الاستحقاقات، الانتخابات المصرية والنظام الجديد المنبثق عنها، ومواقف القوى الاقليمية والدولية المنتظرة نحوه، وطبيعة الدور أو الخصوصية الذي سيتسم به الحكم الجديد. فبقدر ما يصعب على مصر الجديدة أن تلعب دوراً قيادياً للأسباب المفهومة، إلا أنّه بالقدر نفسه ينتظر منها دور أكثر حضوراً في ملفات المنطقة وقضاياها، دور يتسم باستقلالية ورؤية تنظر للأمن العربي بعد ردح طويل من التبعية وضيق زاوية الرؤية.
رابعها، تقدم المصالحة الفلسطينية بمقاومتيها السياسية والعسكرية بخطوات ثابتة، ما التركيز والاهتمام العربي والاسلامي بالقضية، وما له من آثار في عملية التسوية وشروط التفاوض المهلكة التي كانت تسير بها الولايات المتحدة لصالح إسرائيل، واسقاط ورقة اللعب على تناقضات الفرقة الفلسطينية. وهذا ما من شأنه محاصرة المقاربة الأميركية دولياً (اذ تبتعد مقاربة أغلب القوى الدولية من دول البريكس الى الاتحاد الاوروبي فضلاً عن القوى العربية والاسلامية... عن تلك الأميركية الاسرائيلية) لإنجاز تسوية على حساب فلسطين والعرب لصالح إسرائيل، ووضعها على المحك ان لم نقل الإطاحة بها، وارتدادات ذلك كفشل استراتيجي للسياسة الأميركية في ملف محوري كهذا.
الانتخابات الرئاسية السورية، من ضمن الاستحقاقات. إن أنجزت كما هو مقرر، فإنها لن تلغي أي فرصة تسوية «معقولة» يعمل عليها كما يروج البعض، بل انها ستعزز امكانية فرصة التقاوض، وذلك بعدما تتجلى المسائل التالية:
أــ اظهار مدى التأييد الشعبي للنظام بوجه دعوى الولايات المتحدة وحلفائها، ومحاولاتها عزل النظام عن شعبه «النظام يقتل شعبه»، فمعركة الرأي العام وحضور الجماهير يعول عليها النظام، وينتظر حضانة شعبية معتد بها رغم الظروف الميدانية الصعبة.
ب ــ تأكيد قوة السلطة وحضورها على اجراء العملية الانتخابية في أغلب مناطق ومدن سوريا وما يحمله ذلك من دلالات قوية.
ج ــ تأكيد جدية النظام في العملية السياسية الى جانب العمل العسكري الذي يتقدم فيه ميدانياً.
هذه الخطوة في حال نجاحها، فمن المرجح أن تدفع لعملية تفاوضية أكثر واقعية تفرض «جنيف3».
ان انقضاء الاستحقاقات السياسية المذكورة، والوضعية المستجدة لكل طرف ومحور بعد تجميع نقاط الربح والخسارة السياسية وما ستفسحه من خيارات وتتيحه من فرص... وتؤسس له من فرص اضعاف الحضور الدولي لأميركا، لحساب دول البريكس والاتحاد الاوروبي... فيما لو رجحت نتائجها لصالح منظومة المقاومة.
وبالافادة من اللحظة الدولية المؤاتية والإرباك الأميركي فيها – بدءاً من الأزمة الأميركية مع الاتحاد الروسي في أوروبا الشرقية (أوكرانيا) والتشظي المتوقع عنها، الى حالة الاستياء العارمة من صلف السياسية الأميركية باستمرارها انتهاك سيادة دولنا والاعتداء الصارخ على المواطن العربي والمسلم (من فلسطين وسوريا وليس انتهاءً بالعراق وليبيا واليمن) والسعي لتفجير أوطاننا ومجتمعاتنا بتغذية الاحتراب الداخلي، ومنع اخماده واللعب على تناقضاته ودماء أهله لضمان مصالحها، وأمن اسرائيل.... فيعتقد أن منظومة المقاومة وحتى بعض القوى المقابلة لها في الأزمة الإقليمية باتت في دائرة البحث لضرورة انتاج نقاط التقاء من خارج مساحة الأزمة وفضائها، والتنبه العميق لاثر المستفيد الفعلي من الأزمة واستمرارها.
...فيما لو تبيّن أن الأزمة في سوريا سائرة لمزيد من المراوحة والاستنزاف والسير اللولبي الهبوطي لأطرافها _كما تدفع أميركا بكل قوة لذلك_ فإن حلقة الانهاك المفرغة يجب كسرها في لحظة ما لن تكون بعيدة:
ــ فإما أن تذهب الأزمة الى تسوية جدية وخطوات عملية تأخذ بمعطيات الواقع الفعلية،
أو أن من يدفع لتعميقها واللعب على تناقضاتها لكسب الغنم برأيه، بات ضرورياً أن يدخل «حلقة الغرم» هو الاخر... وبتشخيص منظومة المقاومة فإن الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل هما المسؤولتان الرئيستان والفعليتان عن استمرار الأزمة، والحؤول دون بلوغها الحل المرضي في سوريا وغيرها من قضايا المنطقة.
وبذلك ينتظر من قوى المقاومة ومن فتئ يشاطرها الرأي والقناعة - حتى من بعض الفريق المقابل - إعادة تثبيت وتوجيه هوية المعركة وطبيعتها، بمعنى أنها ما كانت (بأبعادها الفعلية) ولن تكون بوجه أحد من دول المنطقة، أو قواها مهما عظمت الخلافات، إنما مع المحرك والمستخدم الدولي، راعي سياسة تفتيت المنطقة وفدرلتها - الولايات المتحدة.
هذا ما يعتقد بأن الأشهر المقبلة ستحمل سماته، وأغلب الظن أن بعض القوى الاسلامية العريضة وحتى الجهادية منها بدأت تقترب منه.
واذا ما ترقبنا، فنفترض تلمّس معالم أكثر تركيزاً ودقة في الخطاب ووجهته ومفاصله... والتمهيد لما يليه؟
وليس المطلوب إلا رمي البصر نحوه والمساهمة المسؤولة من الجميع لتحققه حيث أمكن، فالنتيجة المؤكدة اليوم أن الفرصة مؤاتية لقطع الطريق على الولايات المتحدة وحليفتها اسرائيل، بأن تبقيا تستدرجان الأزمات لمنطقتنا، وتتلاعبا بمصيرها وهويتها، وتتفرجا عن التل بانتظار الرابح المنهك _حيث لا رابح_ لعقد صفقة التسوية النهائية على المنطقة معه.
* باحث سياسي