حين اندلعت أزمة الهجرة الكبرى، بعيد انهيار الإقليم، لم تكن التعقيدات الجيوسياسية، في المنطقة والعالم، قد وصلت إلى الحدّ الذي نشاهده اليوم، حيث الصراع على حدود الاتحاد الأوروبي، لم يعد محصوراً بالنزاع بين التكتّل وتركيا، على خلفية الموقف من انضمام أنقرة إلى الاتحاد. اقتضت التسوية حينها إبرام اتفاق، تُوكَل إلى تركيا بموجبه مهمّة ضبط حدودها مع اليونان، لقاءَ رزمة مساعدات ودعم تصل إلى 4 مليارات دولار، لإدارة أزمة اللاجئين في المخيمات التركية، عبر إبقائهم هناك، ريثما تنتهي الأزمة السورية. الهجرة توقّفت لاحقاً، أو لِنَقُل، تحوّلت إلى سياق فردي، ومع تراجُعِها، تراجعت بدورها حدّة الأزمة بين تركيا والاتحاد بخصوص اللاجئين، لتحلّ مكانها أزمة أخرى، مع اليونان هذه المرّة، تتعلّق بالصراع على الموارد النفطية في البحر المتوسّط. هذا السياق لأزمة اللجوء لم يكن الوحيد حينها، لأنّ الهجرة من الجنوب إلى الشمال لا تقتصر على الأزمة السورية، أو حتى العراقية، ولا تتحدّد بالعوامل الجيوسياسية وحدها، كونها نتاجاً لطبيعة النظام الرأسمالي نفسه، الذي لا حياة له، من دون انتقال الثروة، ومعها قوّة العمل، بعد إخراجهما بالقسر والعنف، من الجنوب إلى الشمال.
الغطاء الجيوسياسي المتغيّر
هذا التدفُّق المستمرّ لقوّة العمل، يجري تسويغه، عبر إضفاء طابع جيوسياسي عليه، باستمرار. الصراع بين الدول على ضبط الحدود أو على الموارد لا ينتهي، ولكن، مع كلّ تدفّق جديد لقوّة العمل المهاجرة، تحصل متغيّرات، سواءً في الشمال أو في الجنوب، يُرفَع بموجبها الغطاء السياسي عن هذا النظام أو ذاك، تبعاً لمدى انصياعه للإملاءات الغربية. في الأزمة السابقة كان الموقف من السلطة في سوريا هو المحدّد لاستجابة الغرب لأزمة المهاجرين، فأُوكلت إلى تركيا، الخصم الرئيسي للسلطة حينها، مهمّة إدارة التدفّق الكبير للاجئين، بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، لم تنجُ أنقرة لاحقاً، من غضب الاتحاد، رغم تنفيذها الاتفاق بحذافيره، حين اندلعت الأزمة مع اليونان، على خلفية الصراع على حقول الغاز في البحر المتوسط. حالياً، لم تعد تركيا في هذا الموقع، على الرغم من استمرار وجود اللاجئين لديها، على اعتبار أنّ الموقف من النظام هنا الذي كان يحكم التوجُّهات الغربية بمجملها، لم يعد هو المحدِّد لمقاربة أزمة الهجرة، إذ انتقل اهتمام دول الاتحاد، من سوريا، وحتى العراق، حيث المصدران الأساسيان للاجئين، عربياً، إلى حدودها مع دول الاتحاد السوفياتي السابق، وخصوصاً، بيلاروسيا. اندلاع الأزمة في مينسك، على خلفية إعادة انتخاب الرئيس البيلاروسي الحالي، الكسندر لوكاشينكو، لولاية سادسة، وفَّر للغرب، وتحديداً للاتحاد الأوروبي، الأداة التي يحتاج إليها، لإقفال ملفّ الهجرة، الذي تسبَّب، رغم عوائده الاقتصادية الكبيرة، بتصعيد المشهد السياسي هناك، إثر صعود أحزاب اليمين المتطرّف. الموقف من نظام لوكاشينكو، حلَّ هنا، مكان نظيره السابق من النظام في سوريا، واستُعملت في مواجهته الأدوات ذاتُها تقريباً، من عدم الاعتراف بشرعية الانتخابات، إلى احتضان المعارضة سياسياً، وصولاً حتى إلى فرض نظام عقوبات، تُمنع بموجبه بيلاروسيا من إجراء أيّ عمليات تبادل تجاري مع أوروبا والولايات المتحدة، تُضاف إلى تلك الخاصّة بحرمانها من الوصول إلى أسواق المال الدولية.

طبيعة الأزمة داخل الاتحاد الأوروبي
بهذا المعنى، ليست شرعية النظام البيلاروسي هي المشكلة، بقدر ما هي الحاجة إلى إدارة الصراع مع دول الجنوب، أو حتى مع دول الاتحاد السوفياتي السابق، التي لم تمحَض الغرب ولاءَها، بأدوات تُستَخدم فيها الليبرالية السياسة كغطاء ذرائعي. الأزمة الفعلية حالياً، ليست على الحدود بين بيلاروسيا وبولندا، حيث يَعْلَق، حالياً، وحتى إشعار آخر، آلاف اللاجئين من دول مختلفة (عراقيون وسوريون ويمنيون وأفغان و..الخ)، بل داخل الاتحاد الأوروبي نفسه، في مشهد سياسي، لا يقلُّ تعقيداً، عن أزمات الإقليم هنا، أو عن تداخلات أزمة الهجرة نفسها.
مواجهة أزمة الهجرة عبر احتواء الموجة الشعبوية اليمينية في إطار الثنائيات الحزبية التقليدية، بما يحوِّلها إلى طرف تقليدي في الصراع السياسي، وتحميل أطراف خارجية مسؤولية الأزمة

المتغيّر الرئيسي في المشهد هناك، ليس انتهاء حقبة أنجيلا ميركل بحدّ ذاتها، بل انحسار سياسة «الباب المفتوح» التي اعتمدتها لإدارة أزمة الهجرة من دول الإقليم، بُعَيد انهيارها، إلى أوروبا. المصلحة السياسية والاقتصادية لدول الاتحاد المركزية، ومن ضمنها ألمانيا، اقتضت حينها، اعتماد سياسة لإدارة الملفّ، بحيث يكون الخطاب الليبرالي المتعلّق بحقوق اللاجئين، هو الغطاء، للاستفادة الاقتصادية من هذا التدفّق الكبير لقوّة العمل المهاجرة، إلى دول اللجوء الأوروبية. المنظور الذي اعتمدته ميركل كان بعيد المدى، بمعنى أنه لم يأخذ في الاعتبار الحسابات السياسية الضيّقة المتعلّقة، ليس بالضرورة بمستقبل حزبها، بل بالمتغيّرات التي يمكن أن تطرأ على المشهد السياسي في ألمانيا، وفي أوروبا عموماً، كنتيجة لقرارها، بالدفاع عن مستقبل النظام الرأسمالي الأوروبي. الثمن الذي دُفِع لاحقاً، لقاءَ هذا القرار، كان باهظاً، وتمثَّلَ، ليس فقط في صعود أحزاب اليمين المتطرّف سياسياً وشعبياً، أو في حصولها على تمثيل سياسي واسع في الدول التي كانت تحظر حضورها داخل المؤسّسات المنتخبة هناك، بل أيضاً، في اعتماد قواعد شعبية متزايدة، وخصوصاً داخل أوساط الطبقة العاملة الأوروبية، خطابها الخاصّ بمناهضة الهجرة. حين يحصل انقسام مماثل على قضية، تمثّل، ليس فقط مستقبل الاتحاد الأوروبي، بل أيضاً، مصير الرأسمالية الأوروبية برمّتها، فإنّ مستقبل الحزب الذي صاغ هذه السياسة، ومعه الأحزاب المركزية المماثلة في الدول التي دعمت سياسات ميركل الخاصّة باللجوء، سيصبح موضع تساؤل. لِنَقُلْ، إنه سيغدو، على ضوء التشكيك المتزايد في سياساته، ليس خارج المشهد السياسي بالضرورة، ولكن مفتقراً للفاعلية، التي تسمح بالاستمرار في حماية النظام الرأسمالي الأوروبي من الموجة اليمينية المتطرّفة، التي بدأت «تهدّده». والحال أنّ «التهديد» لا يقتصر على ألمانيا وحدها، حيث يحصد «حزب البديل من أجل ألمانيا» مزيداً من المقاعد البرلمانية مع كل انتخابات جديدة تحصل، بل يتعدّاه إلى دول مركزية أخرى، مثل فرنسا، التي تشهد «صعوداً صاروخياً»، للمرشّح اليميني المتطرف إلى الرئاسة المقبلة، إيريك زمّور (نتيجة مزايدته في قضايا الهجرة والإسلاموفوبيا وكراهية النساء)، على حساب أبرز رموز اليمين المتطرف هناك، مارين لوبين.

الانقلاب على سياسة «الباب المفتوح»
لتفادي هذا الصعود، ومعه الانقسام العميق، الذي يحمله للمجتمعات الأوروبية، وخصوصاً بعد تزايد أعداد اللاجئين فيها، لم يتخلَّ الاتحاد الأوروبي عن سياسة ميركل السابقة فحسب، بل انقلب عليها، تماماً، وبدأ الموقف الموحَّد داخله، الذي تعبّر عنه المفوضية الأوروبية، بالاقتراب من مواقف دول أوروبا الشرقية، لجهة اتخاذ موقف حازم من أيّ موجة هجرة جديدة. ولكي لا يبدو الموقف الجديد، متقاطعاً مع مواقف أحزاب اليمين المتطرّف، التي تحرص الأحزاب الكبرى الممثَّلة في البرلمان الأوروبي على التمايز عنها، لجهة استمرار الغطاء الليبرالي لسياسة الاتحاد، استُعيض عن السياسة السابقة المشجّعة للهجرة إلى دول الاتحاد مباشرةً، بأخرى تدعو دول الجوار، القريب من دول المنشأ إلى استقبال اللاجئين لديها، والتفاوض معها على اتفاقات مماثلة لذاك الذي عُقِد مع تركيا، وتم من خلاله احتواء أزمة الهجرة السابقة. الاقتراب من مواقف أحزاب اليمين المتطرّف الخاصّة بالهجرة، حقّقت أمرين: الأوّل تنفيس الاحتقان الداخلي، من خلال احتواء صعود الموجة الشعبوية اليمينية في إطار الثنائيات الحزبية التقليدية، بما يحوِّلها إلى طرف تقليدي في الصراع السياسي، لجهة طرح البرامج الانتخابية، وبالتالي جرّ القواعد الشعبية التي وقعت تحت نفوذ هذه الأحزاب، إلى مربّع، محكوم تاريخياً، بسياسة موازين القوى واللوبيات السياسية، أكثر منه بالحاجة إلى «تغيير سياسي جذري»، في مواجهة المهاجرين. أمّا الثاني، فيتمثّل في تحميل أطراف خارجية مسؤولية الأزمة، وهي في الحالة هنا، بيلاروسيا، بذريعة عدم شرعية نظامها، واستخدامه المهاجرين كسلاح جيوسياسي «هجين»، ضدّ دول الاتحاد الأوروبي، في إطار الردّ على العقوبات المفروضة عليه، من جانب التكتّل. اعتماد هذه السياسة المزدوجة مفيد في هذه المرحلة بالنسبة إلى الاتحاد، لأنّ الاتكال على الاحتواء الداخلي لا ينفع وحده في مواجهة أحزاب، يعتمد خطابها، بالإضافة إلى تحميل المهاجرين مسؤولية الأزمة الاقتصادية، ومعها «تغيير الهُوية الثقافية»، على التخويف من عدوّ خارجي، يتربّص بالبلاد دائماً، ويتهدّدها، على كلّ المستويات.

خاتمة
هذا سيضع اليمين المتطرّف هناك، في مواجهة مع دولة حليفة لروسيا، التي تتقاطع معها هذه الأحزاب في مواجهة يمين ويسار الوسط الأقرب، سياسياً و»ثقافياً»، إلى الغرب. وبالتالي، ستكون هذه الأحزاب مضطرّة تحت وطأة الصراع الحاصل على الحدود البيلاروسية البولندية، إلى تحميل المسؤولية عن أزمة الهجرة الجديدة، إلى الطرف الذي اختاره الاتحاد الأوروبي لذلك. لا يخدم ذلك المصلحة الانتخابية والسياسية لأحزاب يمين ويسار الوسط فحسب، على أبواب انتخابات رئاسية قريبة في فرنسا، وقُرْب تشكيل حكومة ائتلافية لليسار في ألمانيا، بل أيضاً، يستدرج روسيا إلى مواجهة ليست طرفاً فيها، عبر استهداف حليف أساسي لها على حدودها الغربية مع أوروبا، وإضعاف نفوذها في المشهد السياسي هناك، لجهة العلاقة مع أحزاب اليمين المتطرّف الصاعدة، في كلٍّ من ألمانيا وفرنسا.
*كاتب سوري