منذ سنواتٍ طويلة وفي زمنٍ سحيق، حين كنت شابّاً ووسيماً، خرج فيلم «شارلي ومعمل الشوكولا» من بطولة جوني ديب. وأنا أيامها كنت أحب المخرج تيم برتون، صانع الفيلم، فذهبت لمشاهدته في السينما. وبينما الفيلم يدور وأنا أنظر حولي في أرجاء الصالة، والحضور مزيجٌ بين راشدين وأولاد أتوا مع أهلهم، باعتبار أن موضوع الفيلم يخصّ الأطفال، وجدت نفسي أفكّر في زيف مصطلح «الطفولة» والطريقة التي نمثّل بها أطفالنا وهويتهم. الفكرة هنا هي أنّ مفهوم «الطفولة» نفسه، والتصرّفات والاهتمامات والبراءة التي نربطها بالأطفال، والحدود بين المراحل العمرية، ما هي إلّا مركّب اجتماعي يختلقه الراشدون ولا علاقة كبيرة للأطفال به (تلك كانت مرحلتي ما بعد الحداثية، وكانت تنتابني الكثير من هذه الأفكار).فكرة «الطفل» نفسها، والألعاب التي يلهو بها وأفلام الكارتون التي يستهلكها، يقوم بإنتاجها راشدون في مجتمع يرسم «الطفل» ضمن صورةٍ معيّنة تناسبه وتُوافق أولوياته. ومع أنّنا نشترك جميعاً بغريزةٍ حمائيّة تجاه الأولاد، إلّا أنّنا نعرف أيضاً أن الأطفال لا يشبهون الصورة الوردية التي نجدها في أفلام الكرتون والملصقات في دور الحضانة. هذه حقيقة نعرفها جميعاً (لأننا كنّا أولاداً) وإن كنّا لا نحب أن نعترف بها، وهي جزء من سردية «شارلي ومعمل الشوكولا»، ومفادها أن الأطفال في الحقيقة هم أيضاً قابلون لأن يكونوا أكثر فئات البشر أنانية وشرّاً (وكل شحنات «البراءة» التي تبثّها لهم عبر الدمى المبتسمة وأفلام الكرتون لن تغيّر في ذلك الواقع شيئاً).
أولغا كالتسكايا (روسيا)

هذا ينطبق بشكلٍ خاص على الطريقة التي يتمّ بها تقديم «أطفال الحرب» وتمثيلهم في أدبيات المجتمع الدولي. أذكر جيداً، أيام الطفولة والمدرسة، حين كان يتمّ تجنيدنا للعب هذا الدّور. مرّة أو مرّتين في السنة، كان التعليم يتوقّف فجأة، ويدخل إلى الصفّ رجلان أبيضان، ألمانيّان أو إيطاليّان، يبتسمان لنا ببلاهة وشفقة وفوقية، وخلفهما معلّمة الرّسم. تشرح لنا المعلّمة أنّهما ضيفان كريمان من شركة «فابريانو»، وأنهم يريدون منا أن نرسم لهم لكي نعبّر عن معاناتنا وبؤسنا، باعتبارنا أطفال الحرب الأهلية. ولقطع الشكّ باليقين، كانت معلّمة الفنّ تلقي فينا خطاباً حتى نفهم بالتحديد نوع الأداء المتوجّب علينا: «نحن الصغار ضحايا حروب الكبار، أعطونا السّلام، الآباء يأكلون الحصرم، الخ». ثمّ يعطوننا ألواناً وأوراقاً ويطلبوا منا أن نشرح، عبر الرّسم، كم أننا تعساء.
من قال لكم أننا كنا نرى أنفسنا على هذا النّحو؟ نحن لم نكن نعرف أننا «ضحايا» حتى أخبرتمونا أنتم، ونحن لم نعش في فيينا وباريس حتى نقارن ونعرف أن حالة الحرب استثنائية وأننا مساكين (أنا لم أشاهد شارعاً مخطّطاً حتى سافرت خارج لبنان، ولم أشاهد شرطياً في حياتي قبل سنّ العاشرة، ولم يصنع الأمر لي أزمة). كنّا، في معظمنا، أبناء طبقة وسطى نعيش أفضل من أكثر الأطفال في العالم، والحرب الأهلية ـــ إن لم تمسّك بشكلٍ مباشر وتقتل أهلك أو تدمّر بيتك ـــ فهي ليست بالكامل مكاناً سيئاً للأولاد. أما جولات القصف القصيرة، والمعارك المتفرقة، والتهجير المؤقت، فأنت كطفل تفهمها أساساً على أنها إجازة وعطلة من المدرسة. لن تكون هناك صفوف غداً. وأن تنام يوماً أو يومين في الملجأ لهو ثمنٌ بسيط مقابل ذلك. لماذا تصرّ «فابريانو» على أني ضحيّة، وتريدني أن أشعر كأني أوليفر تويست في الميتم؟

الآخر والزيف واللؤم
ألعاب الهوية والتمثيل، أي كيف يتم إنتاج الهوية، وتصويرها، وكيف تتحوّل أحياناً إلى هدفٍ للكراهية والحقد، هي عملية معقّدة وتجري على أكثر من مستوى في آن. على سبيل المثال، يمكنك أن تنظر إلى الخطاب الطائفي المنفلت الذي اجتاح بلادنا في العقد الماضي على أنّه، ببساطة، قصّة شعوب «متخلّف»، تحمل هويات بدائية ولا تحتمل الاختلاف وتهوى أن تقتل بعضها بعضاً. ولكنّ منظور «التخلّف والتقدّم» هذا لا يرى من الأمور والظواهر إلا سطحها، ويحكم عليها بحسب خطابٍ أخلاقوي قديم (يلاحظ الأمجد سلامة كيف أن العديد من «المتنوّرين» العرب، الذين يكلّمونك طوال الوقت عن الحداثة وكم أنّنا بعيدون عنها، ويشتكون من «تخلّف» الشعب والمجتمع من حولهم، يتوهّمون أنّهم يمثّلون العالم الحديث وقيمه، فيما كلامهم في الحقيقة يشبه خطاب مثقّفي القرن التاسع عشر. بمعنى أنّنا، اليوم، قد أصبحنا في عالمٍ تجاوز الحداثة بمفهومها القديم، وتجاوز المركزية الغربية والتاريخ الخطّي، حيث هناك حالة «عليا» من الأخلاقيات والجماليات علينا كلّنا أن نستنسخها. ولكنهم يتكلّمون - بثقة - كأننا لا نزال في عصر الأنوار، الذي لم يظلّ أساسٌ من أسسه لم يتم نقده وتفكيكه وتجاوزه. هم يعتقدون أن خطابهم جديد وحديث وتقدمي، ولا يعرفون كم هو قديمٌ وببغائي. يسعون إلى الحجّ والقوافل قد عادت).
عودةً إلى مثال خطاب الكراهية والإبادة، يمكنك أن تعيد تركيب الصورة بأكثر من طريقة. يمكنك أن تبدأ، مثلاً، من لانغلي أو من البيت الأبيض: أميركا، القوى الكبرى في العالم، يكون لها أهداف جيوسياسية معيّنة في المنطقة (نظام تريد إسقاطه، خصم تريد إضعافه، مكان تريد التمدّد إليه)، وهي في سبيل ذلك تدعم حروباً وفرقاء وحركات مقاتلة وسياسية شتى. لكنّ «الجيوسياسة»، حين تتمظهر على الأرض ماديّاً، ستأخذ أشكالاً اجتماعية محلية لا يمكن التنبؤ بها. حين تحرّك أميركا أدواتٍ في المنطقة لتقاتل لحسابها، فهي لن ترسل كتائباً من الليبراليّين والنسويّين، بل ستعمل مع حكومات الخليج، وتختار من بين الموجود، وقد يوافق مصالحها هنا، ويكون أقرب إلى الاستخدام، مجموعات سلفيّة أو طائفيّة يمكن توجيهها ضدّ الخصوم. وهنا تتحوّل «المصالح» على مستوى الدول إلى خطاب إباديّ كاره وعنصريّات وشيطنة لشعوبٍ كاملة على الصعيد «المحلي» المُعاش، ولكن المسألة هنا ليست مجرّد خلافٍ فقهي أو صراع اثني «قديم». حين تفسّر ظاهرة ما، لا يكفي أن توصّف ماهيتها، بل أن تسأل لماذا حصلت؟ وكيف ترتبط بظواهر أوسع منها؟ ولماذا حصلت في هذا الوقت بالذات؟
«الردحيّات» بين اليساريّين والإسلاميّين في لبنان، موضوع لا علاقة له بالأيديولوجيا والدين وماركس، بل هو استمرارٌ لما يشبه «حرباً أهلية» شيعية ــ شيعية


في لبنان، اليوم، يجري أمرٌ مشابه. حيث تتحول الحرب ضد المقاومة بسهولة، في الإعلام وخطاب الناشطين والنخب، إلى تنميطٍ وعنصرية ضد الشيعة في لبنان ككلّ، وتصوير غالبيّتهم على أنّها «آخر»، أو مجموعة خطيرة، أو «غريب» أقل لبنانية من غيره، وباقي هذه التوصيفات المعتادة التي تستخدم في كل مكانٍ وزمان. هناك معايير عامّة للحكم في هذه الحالات: هل يتمّ توجيه الخطاب نفسه إلى المجموعات اللبنانية الأخرى؟ هل يتم وضع الجميع تحت نفس الدرجة من النقديّة والتلصّص الجماعي، من العادات الاجتماعية إلى خطب رجال الدين؟ هل يمكن أن نتخيّل خطاباتٍ طويلة، كالتي ألقاها العديدون منذ 2019، توصّف مجموعات لبنانية أخرى بالطريقة الاستعلائية نفسها؟ (الأمر المزعج هنا هو ليس مضمون الخطاب، بل فكرة أننا متيقّنون أن من يقوله لن يجرؤ على استخدامه، بأسلوبه وأحكامه وتعابيره، مع أي جماعة لبنانية أخرى لأنه يعرف جيداً أنّه، إن فعل، فستنتهي حياته السياسية، هذا إن لم يتمّ تعليقه على أقرب عمود). الطّريف هو أنّه، في هذا السياق، تسمع أخيراً «حجة مزدوجة» من العديد من الناشطين مفادها: «كلا، لا يجري تنميطٌ وعنصرية هنا، لكنكم تستحقون التنميط بسبب أفعالكم». وهذا كلامٌ يصدر عن ليبراليّين، وليس عن الطائفي التقليدي القديم (من الأمور القليلة الجيدة في الليبرالية الحديثة هو عدم تسامحها مع العنصرية والتمييز، فبمَ تنفعني إن سمّيت نفسك ليبرالياً، وقبضت من الغربيّين، ولكنك في وقت الحرب تقف مع جبهة النصرة؟).
المشكلة هنا ليست في الأخلاقيات والآداب العامّة، بل في أن هذا النوع من الحملات لا يكون بالصدفة، ويكون غالباً مقدّمة لحروب سياسية أو ضربات، بعد أن تزرع في المجال العام تقبّلاً مسبقاً لأي شيءٍ قد يحصل لهؤلاء الناس. ولكن، على الهامش هنا، المثير في هذه المسألة كلها هي أن هؤلاء اللبنانيّين الذين أصبحوا «هدفاً» في الإعلام والمجال العام، تحديداً الذين يؤيّدون «حزب الله» منهم، النساء التي ترتدي العباءات السود والرجال الذين يهتفون في المهرجانات، هؤلاء لديهم وعي سياسي وانضباط وقدرة على الفعل الجماعي أكثر بكثير من ناشط مركز العاصمة (الذي يمارس السياسة بين التظاهرة والسوشيال ميديا). هؤلاء الناس يخضعون لعملية تدريب سياسي جماعي منذ أربعين سنة، مع كلّ حرب، مع كلّ انتخابات، مع كلّ حملة سياسية، يحصل تنظيمٌ وتراكم، وهم يمارسون السياسة بالشكل اليومي المستمرّ. هؤلاء الناس «حديثون» أكثر منك، عزيزي الناشط، لأن الحداثة ليست في أن تجترّ «نصاً» حديثاً وتكرره كـ «سكريبت»، بل هي في التنظيم الجماعي والحركة الاجتماعية وتراكم الوعي والتراث، وهكذا فقط يمكن أن تخلق واقعاً جديداً. هؤلاء الناس ليسوا مغسولي الدماغ، بل هم، ببساطة، تعلّموا من التجربة: أعطيت فلاناً الثقة فنجحنا بالتحرير، ثم وقفنا معه عام 2006 ونجحنا مجدّداً، ثم تحمّل الجميع المخاطرة في حرب سوريا ونجوا، وواجهوا مختلف الحملات السياسية في الداخل؛ وهم فعلوا كلّ هذه الأمور سويّة، أنت ماذا فعلت؟
من عمّر كفاية يمكنه أن يُقارن، ببساطة، سلوك الناس في القرى الجنوبية خلال الأزمة الأخيرة بسلوكهم أيام الثمانينيات. رغم الأوضاع بالغة الصعوبة اليوم، أنت تجد مستوىً من التنظيم والانضباط لم يكن في الوسع تخيّله في الثمانينيات مثلاً. كلّما كان يقع حدث أو أزمة، كالاجتياح الاسرائيلي، كان نصف الناس ينقلبون فوراً إلى عملاء ضدّ النصف الآخر، و«الذكي» هو من يحاول أن يستفيد من الموقف على حساب الآخرين، وباقي صفات المجتمع الذي لا يتخلّله تنظيمٌ ووعي (في قريتي أيام الاجتياح، تمكن الأهالي من التعرّف إلى «المقنّع» الذي كان يدل الإسرائيليّين على الناشطين ليعتقلوهم، وذلك لأنهم لاحظوا أنه اختار «الأهداف» دائماً من عائلات محدّدة وتجنّب أخرى – العميل كان ببساطة يصفّي نزاعات عائلية عبر الغزاة). المشهد اليوم مختلف تماماً، كأنهم شعبٌ آخر.
بالمناسبة، «الردحيات» القديمة بين اليساريّين والإسلاميّين في لبنان هي، في جانب أساسي منها، موضوعٌ لا علاقة له بالأيديولوجيا والدين وماركس؛ بل هو استمرارٌ لما يشبه «حرباً أهلية» سياسية، شيعية ــ شيعية، جرت تحديداً في جبل عامل منذ بداية التسعينيات وانتهاء الحرب. هذه المواجهة السياسية كانت تجري بين ثلاث مجموعات أساسية شكلت، في القرن العشرين، المشهد السياسي في الجنوب: أبناء العائلات القديمة والملّاكة، بقايا الحركة الوطنية واليسار، والإسلاميون الصاعدون («أمل» بداية بشكلٍ أساسي، ثم «أمل» و«حزب الله»). المعضلة هي أن كلّاً من هذه الأطراف كان قد «حكم» الجنوب في مرحلة ما، وظلت هذه السلطة في مخيالهم، أي أنهم يعتبرون أن الجنوب يوماً «كان لهم»، وأن هؤلاء الناس «لهم» وقد تمّت سرقتهم بشكلٍ ما. أما دورات الانتخابات النيابية، فهي كانت الحلبة التي يظهر عليها اختلاف الموازين والأحجام عن الماضي، والميزان ظلّ يميل بتصاعدٍ لصالح الإسلاميّين ويُقصي خصومهم. أنت لا يمكن أن تفهم سلوك الكثير من «اليساريّين» اليوم من غير أن تفهم هذه الخلفية الاجتماعية (وهذا يفسّر أيضاً لماذا لا يزال العديد من يساريي لبنان مغرمين بحليفهم السابق، ياسر عرفات، ويرفضون انتقاده ونقده، وهو أمرٌ قد يبدو غريباً بالنظر إلى أنه قد قادهم إلى الهزيمة الكاملة. الفكرة هي أن مرحلة أبو عمّار هي «المرحلة الذهبية» لديهم، وهم يعرفون أن ما أعطاهم إياه عرفات، حين سلّمهم نصف لبنان، كان من المستحيل أن يحصلوا عليه في السابق، وهم لن يحصلوا عليه مجدّداً).

التنميط معكوساً
مثّلت نخبة وسط المدينة في بيروت، بخاصّة فئة الناشطين والمسيّسين، عندي لغزاً دائماً. المعضلة هي كالآتي: لو أنك نظرت إلى كمية المال والتمويل التي مرّت عبر هؤلاء الأفراد على مرّ السنين، وكمية الاستثمار فيهم (بما في ذلك الاستثمار في أشخاصهم وتعليمهم، الخ. وأنت لن تُصادف شخصاً فوق الخامسة والعشرين هناك إلا وتكتشف أنه قد نشر روايتين وديوان شعر)، ثم نظرت إلى ما يخرج من الجهة الأخرى، فسوف تجد انعداماً مهولاً في النسبة والتناسب. لا تنظيم وتراكم، لا إنجاز سياسي، لا مؤسسات طوعية دائمة، لا نادي كتب. أين تذهب كل هذه الأموال والطاقات؟ حتى بالمعنى الثقافي والفني البحت، فأنت لن تجد إنتاجاً يستحق القراءة، أو رواية جيدة، أو موسيقى جديدة، أو نقاشاً سياسياً مستمرّاً، بل تجد مثالاً عن معنى «الثقافة المتمولة» التي لا يمكن أن تكون إلا رديئة (في مرحلة ماضية، اضطررت ــ لأسباب شخصية ــ أن أحضر الكثير من عروض الرقص المعاصر في بيروت، وكانت تلك بعضاً من أسوأ الساعات التي ضاعت من حياتي، لا تنافسها إلا حفلات الموسيقى الكلاسيكية التي أجبرت ــ أيضاً لأسباب شخصية، مرغماً ــ على حضورها).
«مجتمع الحمرا» هنا تعبير اصطلاحي، خاصة وأن هذا «المجتمع» قد توزّع على أحياء بيروتية أخرى وأغلبه قد هجر الحمرا - التي تغيّر طابعها ولم تعد كما كانت (أنا أذهب إلى الحمرا في هذه الأيام أساساً لكي أمرّن لهجتي العراقية وآكل كباباً في مطعم عراقي هناك). ولكنّي طوّرت نظرية عن العلاقة بين هذا المجتمع وبين التظاهر السياسي - نشاطهم المفضّل. قد تبدو النظرية غريبةً للوهلة الأولى، ولكن، صدّقني، ما أقوله يجب أن تشاهده بعينيك حتى تصدّق، وتفهم أنه كلامٌ جدّي وليس مزاحاً.

من الطفل الصغير إلى الشيخ العليل. لا أحد يتنحّى جانباً ويقول «آسف، أنا لا أرقص». في لحظةٍ تراهم يأكلون على الطاولات وبعدها بدقائق تجدهم يرقصون فوقها


نعود إلى السؤال في الأعلى عن نوع المهارات و«الإنتاج» الذي يتميّز به هذا المجتمع، وهنا أقول إن لديهم، بالفعل، موهبة أعترف بها وأحترمها وأنحني لها، وهي موهبة الرّقص. لا أقصد هنا الرقص المحترف، بل الرقص في الحانات. أتكلّم بجديّة، لم أرَ في حياتي فئةً كهذه أو شعباً الكلّ فيه يرقص. من الطفل الصغير إلى الشيخ العليل. لا أحد يتنحّى جانباً ويقول «آسف، أنا لا أرقص». في لحظةٍ تراهم يأكلون على الطاولات وبعدها بدقائق تجدهم يرقصون فوقها. وكلٌّ يطوّر أسلوبه الخاص ويجتهد، وكلّ ليلة سبت تتحول الحانات إلى ما يشبه لوحاتٍ تعبيريّة جماعيّة، الكلّ يرقص، وبشكل شبه احترافي، وينسّقون فيما بينهم كأنهم تدرّبوا سوية (كنا، أنا وزينون حلّال، نراقب هذه المشاهد ونعطي اسماءً للرقصات تلك).
ما أريد الوصول إليه هو وجود علاقةٍ، عند بعض هؤلاء، بين الهوس بالتعبير الجسدي العلني خلال حفلات الرقص وبين التظاهرة السياسية. لو شاهدت شرائط مصوّرة لتظاهراتٍ من وسط بيروت، ستتمكن من التعرّف على هؤلاء بسهولة، وستنتبه إلى أنّه، على مستوى ما، يوجد خطُّ مشترك عند الناشطة يربط بين القفز في المظاهرة والصراخ في الميغافون، وبين حفلات الرقص الجماعي في «مزيان». المشكلة هي أن مفهوم السياسة الحقيقي يذهب أبعد كثيراً من لحظة المظاهرة (بل هو، المفترض، ما ينتجها وليس العكس).

خاتمة: عن عداوات تستحقّ
منذ أيّام، حين كانت مجموعة من الشباب «المتحمّس» من حركة «أمل» تتجمّع أسفل الجريدة، وجدت نفسي أفكّر: هل عليّ شيءٌ ما؟ حكم جزائي قديم، ضريبة لم أدفعها، نزاع عقاري؟ هل فعل أحدٌ من أقاربي شيئاً مشيناً؟ هذا لأنه، في حالة الخلاف مع «أمل»، كل هذه الأمور ستظهر. لدى «أمل» (هنا لا أقصد القواعد الشعبية، بل الكوادر العليا التي تأمر وتوجّه الحملات) تكتيكاً في التعامل مع الخصوم يميزها عن باقي الحركات السياسية في لبنان. هم لن يشتموك ويتهموك أو يكذبوا عليك، فهذا مجرّد كلام لا معنى له. بل هم سينبشون في ملفاتك حتى يجدوا عليك شيئاً، سيكون حقيقياً وغير مختلق، وسينشرونه في كل مكان. وإن لم يجدوا شيئاً عليك، فعلى والدك أو جدّك. الفكرة هنا هي أنّ من يخاصمونه ويخاصمهم لن يخرج من الموضوع من غير خدش. وهذا كنت قد شرحته وفصّلته لأحد الزملاء في الماضي، ولكن من لا يريد أن يستمع لن يستمع (لن أذكر اسم الزميل لأني قرّرت ألّا أكتب أموراً سيئة بعد الآن عن أسعد أبو خليل).
هنا تذكّرت مقولة سبيفاك عن استحالة أن يتكلّم «الهامش»، وكيف أنها تنطبق بالكامل على عالم الإعلام، ومنه جريدة «الأخبار». فكرة أن هناك وسيلة إعلامية تنطق باسم «الناس» هو وهم، بل إن الصحافي نفسه، ما إن يصبح صحافياً، حتى لا يعود من «الناس». فلنتخيّل، كتمرين نظري (وإن كان قد حصل في الواقع)، أنّك تريد أن توصل «صوت الشارع». وجلبت شباباً «من الشارع» وطلبت منهم تمثيل هذه الفئات. ما إن يصبح هذا الإنسان صحافياً حتى يتوقّف عن أن يكون «إنساناً من الشارع»، وهو لن يقارن نفسه بعد الآن بالمكان الذي جاء منه، بل بزملائه الذين يعملون لدى الخليج أو عند الغربيّين وستجده، بعد أعوام، يُعادي هذا «الهامش» ويحاربه. ميزة «الأخبار» الوحيدة هي أنها تثير غضب هؤلاء، وهم مشكلتهم لا تكون في شيءٍ كُتب ضمن مقال أو فعلاً غبياً ارتكبناه، هم فعلياً لا يريدون أن نكون موجودين من الأساس. لا يفهمون لماذا لدينا صوتٌ وإمكانية للكلام، وهم يقرأون الجريدة أكثر مما أقرأها أنا. المسألة هي أنه لا يوجد حافز في العالم أفضل من أن يعاديك هؤلاء، وأنا متأكّد أنه حين يدرس الأكاديميّون في المستقبل هذه المرحلة من لبنان، فهم سيشرحون كيف كانت هذه النوادي النخبوية التي تريد أن تحتل الثقافة والسياسة، وأبناء البكوات والعائلات المحظية، من أسوأ التعبيرات الطبقية التي عرفها البلد - خلاصة كلّ شيءٍ رديءٍ فيه.
من هنا، حين حصلت قضية السعودية والحملة على لبنان، فهمت أننا سندخل أياماً سيئة ومحرجة للعديد من الناس، وبخاصة «الثوريّين» منهم (لم يحصل من قبل أن تجد ناشطين أكثر جرأةً وشجاعة مع حكّام بلادهم والنظام الذي يعيشون في كنفه من جرأتهم على حكام أجانب). كتبت سابقاً عن فكرة الابتزاز الخليجي وأن لا سبيل للتعامل معه إلا عبر رفضه من البداية وليكن ما يكون (فالابتزاز، في السياسة كما في الأمور الشخصية، حين يبدأ لن يتوقّف). بل في حالة السعودية ونظامها الحالي تحديداً، لا يوجد سبب لأن نحاول إرضائهم، وأنا أتكلّم هنا بالمعنى العملي، إذ إننا سنفشل مهما فعلنا. سأشرح: محمد بن سلمان غاضبٌ على الأردن وقد قطع عنه أغلب الدعم منذ سنوات، لأنهم يعتبرون أن الأردن ليس «متعاوناً كفاية»، ولا يخدم سياساتهم كما يريدون. إن كان الأردن، الأردن، في نظرهم لا يستحق التعاون وليس حليفاً وفياً، فماذا سيقولون عنّا نحن؟ انسوا الموضوع؛ هم سيعادوننا مهما فعلنا، وهذا لن تغيّره كل مدائح الإعلاميّين وتزلّف السياسيّين. ولكن هنا نصل إلى نقطة الفصل: من ناحية لديك كتائب كاملة من المثقفين والنخب همّهم ألّا يزعل منهم الأمير، ويقرّعوننا جماعياً لأننا أفسدنا مزاجه، ويجثون له ويعتذرون باسمنا، ومن جهةٍ أخرى، في مكانٍ أقرب إلى الرياض وداخل الحدود السعودية، تجد شباباً يمنياً يدوس صور أميرهم بلا اكتراث، وهنا الفارق بيننا وبينهم.

*كاتب من أسرة «الأخبار»