يعرف الفيلسوف الأميركي جونز رولز العدالة كالتالي: «لكل شخص أن يحصل على حق مساوٍ في أكثر أشكال الحرية شمولاً وأوسعها مدى، تتلاءم مع حرية مماثلة للآخرين». كما أن العدالة هي عدم الانحياز في محاكمة أي إنسان لأي أمر أو التجني عليه ومعاملته بطريقة لا إنسانية وظلمه. منذ إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بالتحقيق باغتيال الرئيس رفيق الحريري، استُخدمت العدالة بمفاهيم خاطئة، حيث أصبحت الجهة التي تحقق وتحاكم هي نفسها. وبدأت المحكمة عملها من دون أن يكون عليها رقيب يدقق في مسارها وقراراتها ويحاسبها، ومن دون أن تقيم أي حساب للدولة اللبنانية وسيادتها وقانونها، مستخدمةً قرارات مجلس الأمن كأسس في انتهاك العدالة.
لقد تخطت الجهة التي تحكم وتدير مسألة العدالة كل الخطوط الحمر في تعاملها مع الدولة اللبنانية واللبنانيين، منتهكةً السيادة اللبنانية وحق اللبنانيين في التعبير عن رأيهم بحرية في عمل المحكمة.
وستكون إدانة المحكمة لصحافيين لبنانيين واستدعاؤهم للتحقيق، بصمة عار في تاريخها كونها تنتهك الحريات العامة التي يكفلها القانون الدولي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والدستور اللبناني.
وهنا يطرح اللبنانيون سؤالاً أساسياً: هل هذه المحكمة شرعية لكي تحاكم اللبنانيين؟
في قراءة صغيرة لعمل المحكمة، يظهر أن ليس لها سلطان على اللبنانيين، حيث إن أصل إنشاء هذه المحكمة كان غير شرعي، ولا يمكن لها بالتالي أن تحاكم لبنانيين سعوا إلى إظهار الحقائق، وكشف ما يحصل من تشويهات للتحقيق. فهذه المحكمة سلكت عملاً مغايراً تماماً لاختصاصها، الذي يتمحور حول التحقيق باغتيال الرئيس الحريري كما جاء في نظامها الأساسي، وذهبت نحو إدانة لبنانيين حريصين على وطنهم، وعلى ضرورة كشف الحقائق كما هي من دون أي تزوير.
ويمكننا هنا أن نذكّر ببعض المخالفات القانونية التي تعتري إنشاء المحكمة الدولية وعملها:
1ـ إن مجلس الأمن سارع الى تصنيف جريمة اغتيال الرئيس الحريري بأنها جريمة إرهاب دولي وذلك قبل أن ينتهي التحقيق، في حين لم يعتبر جرائم محلية أخرى كجريمة اغتيال الرئيس رشيد كرامي جريمة إرهاب دولي.
2ـ كان بإمكان مجلس الأمن كون الجريمة هي في الأصل جريمة محلية تهم لبنان في الدرجة الأولى ان يفوض الوكالات الإقليمية لمساعدة لبنان في التحقيق وفقاً للمادتين 52 و53، اللتين تؤكدان حق التنظيمات والوكالات الإقليمية في أن تعالج حفظ السلم والأمن الدولي بما يتلاءم مع مقاصد الأمم المتحدة ومبادئها.

قرار المحكمة هو تعدّ على سيادة الدولة اللبنانية وتدخّل في شؤونها
3ـ لقد صدر بيان عن رئاسة مجلس الأمن يؤكد شرعية الحكومة اللبنانية في حين ان فريقاً كبيراً كان ينتقد هذه الحكومة ويعتبرها مخالفة لميثاق العيش المشترك وكانت التظاهرات قائمة لإسقاطها وهذا ما يعتبر تدخلاً بشؤون الدولة اللبنانية وعدم وقوف إلى جانب الشعب اللبناني. كذلك الحكومة آنذاك لم تكن مؤهلة لعقد أي اتفاق، إذ كانت تعتبر غير شرعية وغير دستورية، ومناقضة للعيش المشترك وهذا ما أجمع عليه كبار فقهاء القانون الدستوري، وهناك وزراء طائفة بكاملها استقالوا وقاطعوا جلساتها احتجاجاً على ذلك.
4ـ نصت قرارات مجلس الأمن (الفصل السابع) على حق لجنة التحقيق بالحصول على جميع المعلومات والوثائق ودخول جميع الأماكن التي تريدها من دون أي رادع من الدولة اللبنانية، وهذا ما يفتح لبنان على التجسس.
5ـ إن تشكيل محكمة دولية بقرار أحادي الجانب ينتقص من سيادة لبنان، وكان ينبغي أن يؤكد نص القرار أحكام الاتفاق بين الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة وليس الدخول في حيز التنفيذ. لقد تم اللجوء الى الفصل السابع في يوغوسلافيا ورواندا على اعتبار ان الجرائم التي جرت هناك ضد الإنسانية ويتم التعامل معها من جهة دولية. أما المحكمة اللبنانية فهي لغرض لبناني ولا بد من الإصغاء الى كلّ الأصوات اللبنانية.
6ـ تجاهل موقع رئيس الجمهورية ودوره في عقد المعاهدات، حيث إن المادة 52 من الدستور تنص على ان «رئيس الجمهورية يتولى المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وابرامها بالاتفاق مع رئيس الحكومة...» وكان رئيس الجمهورية آنذاك اميل لحود عارض نص اتفاقية المحكمة الدولية، وهي لم تعرض عليه في الأصل قبل إبرامها وكان رئيس الجمهورية قد رد القرار الذي صدر عن مجلس الوزراء في جلسته بتاريخ 25/11/2006 لينظر به فور قيام حكومة مكتسبة للشرعية الدستورية والميثاقية.
7ـ لقد تخطت الحكومة مجلس النواب وتم تعطيل دوره في الموافقة على إبرام المعاهدات، وتكفي الإشارة إلى المادة 52 من الدستور اللبناني التي تذكر أن المعاهدات التي لا يجوز فسخها سنة فسنة، لا يمكن إبرامها إلا بعد موافقة مجلس النواب. أما إذا اعتبر البعض أن نظام المحكمة هو مشروع قانون فالمادة 19 من الدستور تقول إنه «لا ينشر قانون ما لم يقره مجلس النواب»، وتقول المادة 51 من الدستور المادة انه «يصدر رئيس الجمهورية القوانين وفق المهل المحددة في الدستور بعد ان يكون وافق عليها المجلس، ويطلب نشرها، وليس له ان يدخل تعديلاً عليها او ان يعفي أحداً من التقيد بأحكامها».
8ـ إن انشاء المحكمة الدولية انتقص من السيادة اللبنانية نتيجة تولية قضية جنائية محلية إلى محكمة غير لبنانية، وهذا ما يتعارض مع المادة 20 من الدستور اللبناني.
أضف إلى ما تقدم من مغالطات قانونية، أن هناك شريحة كبيرة من اللبنانيين ترفض عمل المحكمة، وتشدد على أنها مسيسة، خصوصاً أن هذه المحكمة ومن شكّلها ـ برأي هذا الشريحة الكبيرة من اللبنانيين ـ لم تأخذ بفرضية أن العدو الإسرائيلي قد يكون هو من اغتال الرئيس رفيق الحريري، بالإضافة إلى ملف شهود الزور الذين زوروا التحقيق، وعدم تمكن المحكمة من إثبات عدالتها على غرار ما حصل في سيراليون وتيمور الشرقية.
محاكمة الصحافيين مخالفة لحقوق الإنسان
ما تقدم، يبين عدم شرعية الجهة التي تحكم وتدير مسألة العدالة، فكيف بها وهي تحاكم حرية الرأي والتعبير، وتحاكم من يكشف حقائق خبّأها البعض لكي لا نصل إلى الحقيقة المبتغاة بعد مرور 9 سنوات. وهذه الهيئة تخالف من حيث تدري أو لا تدري كل المواثيق الإنسانية الدولية التي تكفل حرية الرأي والتعبير، وعلى رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يؤكد في المادة 9 أن «لكل فرد الحق في الحرية وفي الأمان على شخصه»، كما أنه يخالف المادة 19 التي تقول إن «لكل إنسان الحق في اعتناق آراء من دون مضايقة. كما ان لكل إنسان الحق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها».
بالإضافة إلى ذلك، فإن قرار المحكمة، يخالف العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي يؤكد في المادة 2 منه أن «لكل إنسان حق التمتع بكل الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، من دون أي تمييز...» وكذلك المواد التي تكون مشتركة مع الاعلان العالمي لحقوق الانسان ومنها المادة 19 التي تقول ان «لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير»، وكذلك المادة 21 من العهد الدولي وغيرها من الاتفاقيات التي تؤكد احترام الرأي والتعبير.
لقد أكد إعلان اليونسكو إسهام وسائل الإعلام في دعم السلام العالمي والتفاهم الدولي، وهذا السلام لا يكون عبر محاكمة صحافيين قرروا حماية وطنهم ومنع حصول فتنة بين ابنائه واكدت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان عام 2010، انه «يلزم لحرية الصحافة حماية خاصة كي تتمكن من لعب دورها الحيوي المنوط بها». وكذلك كفلت حماية الصحافيين كل من اتفاقية جنيف لسنة 1929 في المادة 81، والمادة 13 من اتفاقية لاهاي 1907. وقد تأكد هذا الحق/الواجب، في المادة السادسة من الإعلان الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة بتاريخ 9/12/1998 وعنوانه: «الإعلان عن حق ومسؤولية الأفراد والجماعات ومؤسسات المجتمع في تعزيز والدفاع عن حقوق الإنسان والحريات الأساسية المعترف بها عالمياً».

التعدي على السيادة اللبنانية

وبعد هذا العرض، يمكننا أن نقول، إن قرار المحكمة هو تعدّ على سيادة الدولة اللبنانية وتدخّل في شؤونها، لأن من أهم مظاهر السيادة هو أن تتولى الدولة ممارسة كل حقوقها ومسؤولية تطبيق القوانين في كل ما يحصل على أراضيها، وهذا ما تؤكده الفقرة السابعة من المادة الثانية لميثاق الأمم المتحدة التي تنص على أنه «ليس في هذا الميثاق ما يسوغ «للأمم المتحدة» أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما...». وكما يعود أصل التحقيق بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري للدولة اللبنانية فقط، فإن موضوع الصحافيين يعود لدولتهم لا إلى غيرها، وهذا الأمر هو في صميم السيادة اللبنانية، لأن لا سلطة للمحكمة الدولية على اللبنانيين. كما أن توسيع المحكمة لاختصاصها المتمحور حول عملية الاغتيال إلى محاكمة الصحافيين فيه مخالفة لنظامها الذي تتبعه في أصل إنشائها. وعليه لا يحق لأحد محاكمة صحافيين لبنانيين سعوا إلى كشف الحقائق، لأن هذا الحق تكفله الدساتير وتؤكده الاتفاقيات الدولية.
وبعد ما تقدم، نقول إنه يحق للإعلامييَن اللذين جرى استدعاؤهما للمثول أمام هذه المحكمة، أن يمتنعا عن المثول أمامها، لأن الحرية المصونة بالدستور اللبناني وإنشاء المحكمة كان مخالفاً لهذا الدستور (يمكن مراجعة دراسة الجامعة اللبنانية حول موضوع المحكمة)، خصوصاً أن الدستور اللبناني أكد احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي قولاً وكتابة وحرية، والصحافيون عبروا عن رأيهم داخل وطنهم وبما يهم أبناء وطنهم....(لمزيد من الاطلاع المادة 13 من الدستور).
وقد أكدت المادة 9 من العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية، أن لكل فرد حق في الحرية وفي الأمان على شخصه. ولا يجوز توقيف أحد أو اعتقاله تعسفاً. ولا يجوز حرمان أحد من حريته، ولكل شخص كان ضحية توقيف أو اعتقال غير قانوني حقاً في الحصول على تعويض. كذلك المادة 14 من العهد ذاته تقول إن «الناس جميعاً سواء أمام القضاء. ومن حق كل فرد، لدى الفصل في أية تهمة جزائية توجه إليه أو في حقوقه والتزاماته في أية دعوى مدنية، أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية، منشأة بحكم القانون». كما تمنع اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، أي معاملة مهينة وغير إنسانية لأي إنسان في إقليم الدولة. بعد كل ما تقدم، فإننا نضع عمل المحكمة الدولية منذ تأسيسها حتى اليوم، برسم اللبنانيين والدولة اللبنانية والمجتمع الدولي، ونؤكد وفقاً لما ذكرناه أعلاه أنه لا يحق للمحكمة أن تحاكم لبنانيين أبرياء للانتقام منهم، كونهم حاولوا كشف حقيقة معينة أو انتقدوا عمل المحكمة، او أن تصدر قرارات انتقامية بحق جهات وأفراد من دون أي وجه حق.
* صحافي لبناني