ينزلق لبنان إلى الهاوية طائفياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ما يؤشر إلى مواجهات قد تبدو خطيرة؛ عايشنا بعضها في الأيام والأسابيع الماضية، ويمكن أن نشهد محطات لاحقة نتيجةً لذلك الدفع الجنوني في لغة التخاطب السياسي المتبادل بين مختلف الأطراف المتحكّمة، والذي وصل إلى حدّ، بات يهدد، وبشكل جدّي، الوضع العام في البلد. أحدٌ لن يستطيع، ولن يكون قادراً على منع الانهيار. فجلّ اهتمام القوى السياسية الحاكمة في لبنان، لم يعد حول كيفية وقف الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي وما له من تأثير على حياة اللبنانيين ومعاناتهم، بل أصبح حول تأمين موجبات ولاءاتهم الخارجية والأدوار المطلوبة منهم ارتباطاً بما تشهده المنطقة من صراعات، وعلى أي وجه سترسو عليه الأمور وعلى أي صورة ستتوجه، سواء أكانت حروباً أم تسويات، إضافة إلى التوترات السياسية الداخلية في أكثرية الدول العربية، والتناقض البائن بين مسارَي المواجهة والتطبيع من جهة، والاشتباك المتوازي مع التفاوض من جهة أخرى. وبناءً على ما تقدم، فإن لبنان لن يتعافى، لا داخلياً ولا مع تطورات الإقليم ولا بما يحصل على الصعيد الدولي؛ فمعركته الداخلية تدار بكل الأسلحة: الإعلامية، الطائفية، الشعبية والأمنية، ومن داخل المؤسسات الرسمية وفيها وعليها. حكومته الراهنة تعيش على الحافة: الهاوية من تحتها، والمجهول من أمامها، والدم على أطرافها...، لا حرب أهلية واسعة ستقع، بل توترات متنقّلة على إيقاع خطابات سياسية قائمة على رفع منسوب استجرار التجييش المذهبي والطائفي والاستثمار فيه، بهدف تحسين الشروط وشدّ العصب قبل الاستحقاقات الداخلية، أو استجابة لأجندات خارجية باتت معروفة الأهداف والقوى، يُجاهر بها في العلن.

ما العمل؟
لقد أصبح من الضروري السعي لإنتاج أسئلة جديدة كلياً عن تلك التي كانت مطروحة سابقاً. لا فعالية تُذكر اليوم ولا تأثير للقوى اللاطائفية، يسارية كانت أم وسطية أم قومية. لقد خفت ذلك الصوت، الذي لطالما كان يصاحب القضايا الكبرى، والقرارات الصعبة، والمواجهات الحاسمة. لقد أصبح صوت «الطوائفيات» والطائفيين أقوى من أي عقيدة أو مصلحة. وعليه، فإن البلد يعاني عنف الحاكم وتزمّته، ويقف أمام جدران الطوائف السميكة والمحروسة، التي تمنع كل بصيص تحرّر أو تغيير، والرابضة على كل المواقع، تمنع أي أفق آخر للمستقبل، تملأ المشهد، تعبّئ، توتّر تقتل وتتقاتل ومن ثم تتحاصص. تحمي برموش العيون النظام وتسهر على تسيير شؤونه واستمرار ديمومته؛ فلا صوت إلّا صوتها، سواء تناقضت تلك المكوّنات أو تصالحت. هي الأقوى، وتستمد قوتها من توظيفها «للغرائزية» القاتلة والمقتولة معاً، ومفتوحة على إقليم، يحضن الطوائف ويستثمر فيها، يجيرها ساعة يريد ولأيّ سبب كان، وقوى دولية، نالت حصتها باستمرار، تفاوض وتتفق وتنهي وتأمر ... أمام هذا الواقع نسأل: نحن! من نكون وأين هي قوتنا وكيف نبنيها وأي طريق أمامنا؟ هناك ضرورة لتقويم تجاربنا السابقة ونقدها. ليس المطلوب نقد الذات، بل نقد الفعل، كي يحثّنا على البحث عن أرضية جديدة لخطواتنا. لم نخطَّ لأنفسنا طرقاً واضحة كلياً، بل كان التباس الوضع الداخلي وتعقيداته تفرض علينا أحياناً مقاربات، قد تبدو متناقضة أو ضبابية بعض الشيء، ويُضاف إليها ضعف البرامج الموحّدة وتفرقها، وأيضاً المراهنة، ربما المستعجلة، على قوى مستجدّة من دون التعمق في طبيعتها ومنطلقاتها، وهذا لا يعني تشكيكاً في أحد بل القصد هو تبيان الواقع المعيش والمأزق الحاصل. من هنا أصبح ملحاً التفتيش عن تلك الطريق في وضح النهار، بعدما أصبحت أوراق الجميع مكشوفة، مع ضرورة العمل، بشكل فردي وجماعي على أهداف مرحلية وتبيان الغايات منها بهدف تحقيقها. فالتوجه إلى الشعب الذي خرج من الطائفية بحكم تربيته وتجربته، ربما هو الاتجاه الذي لا مناص منه، ومن خلال لغة جديدة وخطاب مختلف، بالإضافة إلى العمل على اختراق الجدران الاجتماعية المتصدّعة، إلى جانب استخدام الشعارات الأكثر وضوحاً والبعيدة عن التعميم والالتباس. الطائفيون هم قوة متراصّة، ليس بأعدادهم وأعضائهم فقط، بل بتماسك أفرادهم وممارسة عماهم الشخصي. لذلك أمامنا أكثرية «داشرة» من طوائفها، وهي من يجب أن تكون محطّ اهتمامنا.

أيّ خيارات مطروحة أمامنا؟
لبنان في القعر، والفقر يجتاح كل الشرائح باستثناء الأثرياء. الطبقة الوسطى انهارت. المؤسسات أفلست. الجامعات، المدارس، الصناعات، النقل، إلى آخره دفعت اللبنانيين إلى اليأس والجوع. التوتر السياسي والأمني والاجتماعي أصبح ضيفاً ثقيلاً على يوميات اللبنانيين، إلى جانب الصعوبات المرتبطة بتأمين أولويات استمرار الحياة على ما عداها. ربما هنا تكمن الخطة المعمول عليها من أصحاب السلطة والسطوة كي يحرفوا أنظار اللبنانيين عن سبب ما وصلوا إليه ومن أوصلهم، وعدم التوجه نحو أصل العلة والتي هي طبيعة هذا النظام ووظيفته. وعليه، فإن القضايا المركّبة يلزمها خطة مركّبة، ترتكز على مفاصل أساسية تشكل توجهات برنامجية قائمة على: أولاً، معالجة الواقع الراهن المعيشي بعد أن تجاوز الانهيار كل الخطوط الحمراء، ووصل إلى حدّ المسّ بحياة المواطن، بعد تدهور القيمة الشرائية وتآكل الأجور واستباحة المافيات للمحروقات والدواء والغذاء... ليصبح المواطن تحت رحمة الاحتكار المعلوم من قوى السلطة والمحميّ منها ومن أصحاب الطوائف ورأس المال. وثانياً، التحذير من الانزلاق إلى الفتن بعد أن سقطت حرمة التقتيل الداخلي وأُقيمت خطوط التماس وحدودها، وبعد أن تهاوت كذبة السلم الأهلي ووقعت في مطب الفهم الملتبس لها، والتي كانت تترجّح بين المحاصصة والابتزاز والدجل لتحسين الشروط. وعلى تلك الأرضية المتحركة، كانت جموع الطوائف وصبيانها تتبادل أسباب الفرز والقتل متخطية بذلك خطابات التكاذب، التي ما برح يستخدمها أرباب النظام ودهاقينه.
لا فعّالية تُذكر اليوم للقوى اللاطائفية، يسارية كانت أم وسطية أم قومية. لقد خفت ذلك الصوت الذي كان يصاحب القضايا الكبرى والقرارات الصعبة والمواجهات الحاسمة

وثالثاً، البحث عن صيغة سياسية جبهوية جديدة، وهذا هو الأمر الأصعب. فالطوائف مجتمعة وإن اختبرت بين الحين والآخر مدى جهوزيتها لأي تناقض قد يحصل، في ما بينها أو بين رعاتها، تجمعها السلطة ويجمعها النظام، المتفقان على التقاسم والتحاصص وتوزيع المغانم والأعطيات، الثابتان على استمرار منظومتهما. أما اللاطائفيون فهم مبدّدون، وهنا وجب القول والعمل، ارتكازاً على تجارب عديدة سبقت، فهذا الأمر يلزمه تدقيق كي لا يكون التكرار هو الناتج الوحيد. لقد تمّ صرف جهد مضنٍ في هذا المجال ولم ينجح، ونقاط الخلل باتت واضحة والإقلاع عن معاودة الأمر نفسه أصبح مطلوباً. إلى اليوم، لم تنجح أي محاولة لجمع القوى التي تتقاسم الهموم والمواقع المتشابهة في إطار واحد، بالرغم من بعض المحاولات القاصرة والآنية؛ نقطة الارتكاز التي كانت تقوم عليها تلك المحاولات، على ما يبدو، لم تكن ثابتة أو متينة. ربما التأسيس على الثانوي كان الأسبق على الأساسي ما أفقد تلك الأطر قدرتها على المبادرة أو الاستمرار. هذا معطى موضوعي وأساسي، ففكرة التحالف يجب أن تقوم على أرض صلبة وبمرتكزات محددة، وليس على رمال متحرّكة.
المرتكز الأول: إن قضية التحرر الوطني، سواء أكانت من رأسمالية متحكّمة أم تبعية أم هيمنة، يجب أن تكون أساساً في منطلقات النضال القائمة على كسر ذلك البؤس المتأتّي من نتائج أعمالهم، لأنّ التحرير الوطني والمقاومة والمواجهة، مع أي احتلال أو نقيض طبقي أو اجتماعي، هي من القضايا التي لا تحتمل الحلول الوُسطى أو المساومة فيها وعليها، كما لا تحمل تغطية المرتكبين أو توفر لهم مخرجاً، وهي لا تقبل التأويل أو المناورة. كما أن الفقر والصراع الأبدي، بين من يملك ومن يحتاج، ليسا حالة عابرة بل هما في جوهر الصراع الاجتماعي وأساس تكوين المقاربات الفكرية والنضالية التي يجب أن يرتكز عليها العمل اليومي. فهذه القضايا ستُشكّل الأرضية الصلبة التي يمكن أن يُبنى عليه التحالف السياسي الذي يُظلل كل المقتنعين بتلك القضايا، بكليّتها أو حتى بجزء منها، بهدف تكوين موازين قوى منافسة لقوى السلطة، ببرنامج واضح وخطة ممكنة، ومن دون أوهام.
المرتكز الثاني: الاختلال واضح لمصلحة قوى السلطة والطوائف ورأس المال، وكذلك للخارج الذي له مواضع قرار كبيرة في كل المؤسسات ومؤثر. وعليه، فإن التوجّه نحو تكوين موازين قوى جديدة ونقيضة، مفقود اليوم، وهو يجب أن يُشكل الهاجس الأول والمطلوب لدى قوى الاعتراض الوطني. هذا الأمر يتطلب التوجه باتجاهين، الأول، استرداد ما لنا، أي للشعب اللبناني، مما صادرته قوى السلطة أو دجّنته أو عطّلته على مدى عقود: القطاعات، النقابات، الساحات، البلديات والنيابية... وهي محطات يمكن العمل عليها والتي ستشكّل الممر الأساسي لتكوين موازين قوى نقيضة تستطيع فرض شروطها المطلوبة، مع رؤية واضحة ومواقف ثابتة وتأثير على الرأي العام. الثاني، هو الإطار الوطني الجامع من خلال تحالف اجتماعي قادر بات منتظراً، والذي تقع عليه موجبات جعل تلك المواجهة شاملة، عمودياً وأفقياً. فلنخاطب أصحاب القضايا بقضاياهم وهمومهم بعيداً عن الدوغمائية التي تخاطب النخب وليس المواطنين. المرتكز الثالث: والمطلوب منه كل شيء، هو الحزب، الذي يتحمّل ويحتمل ويبادر. فالتمسك بالموقف الصلب وبالخطاب المرن المرتكز على وضوح الرؤية هو من ضرورات المرحلة. نحن نعيش حالة تهافت القيم في لبنان وانهيار المفاهيم واستكمالاً القضايا؛ فحالة الإنكار التي تعيشها غالبية المنظومة السياسية لما يجري من حولها، أو حالة التعمية المقصودة لحرف الأنظار عن أصل العلة، والذي هو النظام السياسي، باتجاه التوترات والحشد الطائفي والمذهبي الذي لم يؤدِ إلّا إلى المزيد من الاشتباك لا بد من مواجهتها، كذلك على الحزب أن يبادر، ومن موقعه الوطني، ومن بوابة الحرص، إلى الدعوة لإطلاق حالة اعتراض وطني جدّية، من قوى سياسية واجتماعية ونقابية وشبابية وأهلية وإعلامية... كي تُعلي الصوت دفاعاً عن لبنان، كل لبنان، بقضاياه الوطنية وموقعه المقاوم في وجه العدو الصهيوني والتدخل الخارجي، وللدفاع عن الشعب اللبناني، الذي يقدمه اليوم نظامه السياسي الحاكم أضحية على مذبح التناتش الطائفي والتوتير المذهبي، والانحياز إلى فقراء لبنان والذين يشكلون اليوم الأكثرية المطلقة من شعبنا ضحايا البؤس الرأسمالي وسياسات حكّامه وسلطاته المتعاقبة.
كلمة أخيرة لا بدّ منها: وسط ضباب خطابات الدجل التي تقوم بها نخب تعتاش على حرف الحقائق وتزويرها، وكتابة النصوص بحق الحزب الشيوعي، والتي لن تنقص من موقع الحزب ولا من مكانته، كما لن تزيد في مكانة كاتبيها قيد أنملة... فكما قلنا سابقاً: سيبقى الحزب الشيوعي في لبنان حزباً لكل وطني وديمقراطي وعلماني ومقاوم... فالحرص عليه وعلى الحالة الشيوعية في لبنان، ليس بالدعوة إلى إلحاقه بقوافل الطوائف والمذاهب ومشاريعها، بل بتأكيد استقلاليته ودعمه، كي يُشكل الرافعة الحقيقية لمشروع وطني بديل ومقاوم إلى جانب كل اليساريين والعلمانيين والوطنيين اللبنانيين...، وبعض الكتبة يعرفون تماماً من يُعطل قيام مثل ذلك المشروع في لبنان ولماذا؟

* عضو المكتب السياسي، مسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني