متصوفٌ انبرى يفجّر مشاعره المتدفّقة شعراً رقراقاً بالفارسية والعربية فانبجس من معين حروفه إحساسٌ مرهف يستثير كلَّ صاحب انتباهة، مستفزاً بفصاحة عالية وسلاسة بلاغة وبيان رقة كل طبع وجلالة كل معنى، في نظمه ونثره تسكن حكايا أنسنة ملتهبة تعانق سر الوجود في بساطة التعبير وحرقة الشوق تجترح منه أجوبة على قلق مشروع.المصلح الواعظ والأديب اللامع سعدي الشيرازي (1210-1292) ذاع صيته في الآفاق فترك أثره البيِّن على جملة من الأدباء والمفكرين على مساحة الأرض خلال عصر التنوير تحديداً في أوروبا ومنهم فولتير، وديدرو، وإرنست رينان، ولاحقاً يوهان جوتفريد هيردر، ويوهان فولفغانغ فون غوته، كما جذبت قصصه سعدي انتباه الكاتب والسياسي جوزيف أديسون.
تُرجم كتابه گلستان حديقة الورود، والبستان إلى لغات أوروبية عديدة.
عاش سعدي في عصر مضطرب سياسياً واجتماعياً أيام الفرنجة حيث وقع أسيراً بين أيديهم بعدها قفل راجعاً من بغداد عاصمة العلم إلى موطنه شيراز التي تعرضت هي الأخرى إلى هجمات المغول حينها ولم تمنعه كل الظروف من متابعة تحصيله وتماسه مع العلماء وأهل التصوف وأرباب الفرق والمذاهب.
متفتّق الإبداع متوقّد الذهن مختمر الوجدان منذ صغره وشبابه جرت أشعاره، ولا تزال على كل لسان لعذوبتها ووقعها في القلوب ولجرسها المطرب على الأسماع ولجليل لبوسها لبوس الأخلاق العالية الباعثة في النفوس كل إشراقة روح ولطافة فكر ومعنى ونصيحة تؤلف بين الأرواح على امتداد الأصقاع.
أكّدت رسالته الوحدة الشعورية الإنسانية في آمالها وأحاسيسها وغاياتها، إذ أخرجها سعدي من كل نَفَسٍ أناني إلى حسّ وحدوي جمعي يبرز أصالة الإنسان في وجه كل انحراف واغتراب وتناقض سياسي أو اجتماعي كياني، فإذا كانت كثيرٌ من الدوائر لم تستطع تكريس وحدة الإنسان فلنجعل من الدائرة الإنسانية الغنيّة بقيمها ومفاعيل تأثيراتها سبيلاً في طريق الوحدة، فكم نحن بحاجة إلى أنسنة انسلخنا عنها طوعًا أو كرهاً؟!.
شغفه المتحرّك النشط ينساب روعة وجمالاً عبر توليد الرُؤى والصور في فضاءات لا متناهية.
من روائع قصائده في الحب:
بكت عيني غداة البين دمعاً/ وأخرى بالبُكا بخلت علينا
فعاقبت التي بالدمع ضنّت/ بأن أغمضتها يوم التقينا
وجازيت التي بالدمع جادت/ بأن أسعدتها بالوصل حينا
وفي أخرى: قال لي المحبوبُ لَّما زرتُهُ/ مَنْ ببابي قلتُ بالباب أنَا
قال لي أخطأتَ تعريفَ الهوى/ حينما فرَّقتَ فيه بَيْنَنَا
ومضى عامٌ فلمَّا جئتُهُ/ أطرُقُ البابَ عليه مُوهِنَا
قال لي مَنْ أنت قلتُ انْظُرْ فما/ ثَمَّ إلاَّ أنت بالباب هُنَا
قال لي أحسنتَ تعريفَ الهوى/ وَعَرَفْتَ الحُبَّ فادْخُلْ يا أنَا.

هذا الحب الصافي تتوالد منه حرارة إعادة إنتاج الذات عبر لملمة عناصرها النفسية والأخلاقية بناءً على لغة رمزية حسّية وحدسيّة قائمة على الكشف والإلهام وإطلاق إمكانيات الملكات التي ترتقي بالنوع الإنساني إلى مصاف عالية تؤكد الجنبة الإلهية في الإنسان، والحب وحده من يستطع بعث الحياة في الإنسان، فالمحب من يذوب شوقاً بغية إضاءة الطريق للناس من حوله جميعاً، وهو المضحّي الأول والشهيد الأخير وخشبة خلاص لنفسه ولغيره إذ يعد نفسه صاحب نزوع روحي فعّال وهادف، وصاحب رسالة ووظيفة إصلاحية تقتحم الواقع ولا تنفكّ عنه تسعى إلى تطهيره من كل الملوّثات والمقيّدات.
أما نثراً فقد جاء في الفصل الرابع من كتاب البستان بعنوان «عن التواضع»:
سقطت قطرة مطر من سحابة: شعرت بالخجل عندما رأت اتّساع المحيط الهائل.
من أكون بوجود هذا المحيط؟
بوجوده، أنا حقاً غير موجودة
عندما نظرت إلى نفسها بتواضع
احتضنتها صدفة محار في داخلها.
رفعت السماء من قيمة القطرة إلى حدّ كبير
حتى أصبحت اللؤلؤة الملكية الشهيرة.
من يتواضع على باب اللاوجود
يجد السموّ ليعبر إلى الوجود.
هذه القصة يلفت سعدي فيها عبر فضيلة التواضع نظر كل إنسان إلى أن يتنبه إلى عدم الانجراف وراء إغراء الشيطان له وأن يحقّق صفة التواضع في نفسه عملياً وسلوكياً كضمانة لعدم سقوطه في فخ الإغراء، فقطرة المطر تعبير آخر عن حجم الإنسان وضعفه كمخلوق أمام عظمة الكون وما فيه ، أما اللؤلؤة فهي مظهر التجلّي النهائي لرحلة الصوفي العاشق الطويلة والمجهدة إلى مكان سكونه وأصله بطمأنينة، بينما المحيط هو الوحدة الإلهية الجليلة مركز كل شيء والدافع لكل شيء والتي تنادينا حتى نتفاعل معها بصدق وحب وإخلاص يمنع التكثّر السلبي في حياتنا التي تحوّلت إلى ميدان أفرغنا فيها كل أنانية وتشتّت وضياع بدل زرعها بتوحّد واعٍٍ يرفعنا.
تأخذ صفة التواضع في تجلّياتها وتمظهراتها الباطنيّة والعملية السلوكية عبورها الطبيعي وصولاً إلى تطهير الذات من كل العلائق الدنيوية التي تزيد الشهوانية استعاراً في النفوس وتدميراً تالياً لكل خير وجمال وتبتعد إذ ذاك بنا عن روحانية صافية توقظنا من غفلتنا القاتلة، هذه الغفلة الملعونة التي جعلت منَّا شياطين الأرض.
* أكاديمي وحوزوي