تتحدّد حركة الأسواق في سياق العلاقة التي تربط بين العرض والطلب والسعر. فازدياد العرض، يؤدي في الأحوال الطبيعية إلى انخفاض في السعر، بينما ندرة المواد تُنذر بارتفاعه. أما في ما يتعلق بالطلب، فإنه يزداد مع انخفاض الأسعار وازدياد العرض وارتفاع الدخل. لكن الميول الاستهلاكية في حالات معيّنة تخالف قوانين العرض والطلب. فكيف نفهم ازدياد شدة الطلب في اللحظة التي ترتفع فيها الأسعار، ويبقى مستوى الدخل ثابتاً؟ تحديداً في وقت تتحدد فيه حركة الأسعار في هبوطها وارتفاعها في سياق علاقة جدلية مع حركة التبادل التي تستند إلى العرض والطلب. وهذا لا يلغي الفرق بين حجم الطلب الفردي والكلي.
كذلك فإن مستوى الدخل والقيمة الشرائية لليرة ومعدلات التضخم ومستوى العرض جميعها عوامل تساهم في تحديد مستوى الطلب.
فالعلاقة عكسية بين السعر ومعدل الاستهلاك ــ بين العرض والسعر، وطردية بين ارتفاع الأجور ومعدلات الاستهلاك. وإذا كان ارتفاع مستوى الدخل يفوق مستوى الاستهلاك وارتفاع الأسعار، فإن المواطن يميل إلى الادخار. وهذا ينعكس إيجاباً على استقرار الأمن الغذائي والمعاشي، لكنه في اللحظة ذاتها يُخرج من أسواق التداول كتلاً نقدية كبيرة. ويتجلى هذا بوضوح عندما يتحول الادخار إلى ميل عام نتيجة ارتفاع معدلات الدخل بما يزيد عن حاجة الفرد.
أما في الأزمات وحالات اضطراب الأسواق. فإن العلاقة بين السعر وحجم الاستهلاك الضروري، تتغير لجهة انخفاض معدلات الطلب. ويتحدد هذا التبدّل نتيجة ارتفاع معدل التضخم الذي يلازمه غالباً ارتفاع مستوى الأسعار، إضافة إلى تراجع معدلات النمو السلعي الحقيقي. فيتم في حالة كهذه تغطية أي زيادة على الأجور استناداً على التمويل بالعجز، فيكون تحسين مستوى الدخل اسمياً، أي غير حقيقي. فيبقى بذلك مستوى المعيشة على حاله، هذا إن لم يتراجع، في حال كان مستوى التضخم أعلى من مستوى الزيادة الاسمية على الأجور.

نسبة التشغيل
على أرض الواقع لم
تكن تتجاوز حدود 37 ألف فرصة عمل سنوياً
لكن ارتفاع معدلات الطلب لا يتحدد في كل الحالات بمستوى الدخل. ولا حتى بانخفاض الأسعار أو ارتفاعها. ويتجلى هذا تحديداً في الأزمات، وتحديداً عندما يتوقع الناس فقدان بعض المواد الاستهلاكية أو حدوث ارتفاع مفاجئ في الأسعار. فيلاحظ نتيجة ذلك ارتفاع في معدلات الطلب للحد من تأثير ارتفاع الأسعار في مستوى الاستهلاك وكحركة استباقية للتخفيف من الشراء لحظة ارتفاع الأسعار. لكن هذا السلوك يفضي في أغلب الحالات إلى نتائج عكسية بفعل استشعار التجار لزيادة معدلات الطلب، فيبادرون إلى تخفيض العرض حتى يصبح أدنى من الطلب، فترتفع الأسعار بشكل دراماتيكي وتلقائي أكثر مما كان متوقعاً وبشكل أسرع. وفي هذه الحالة تتزامن ندرة المواد التي يكرسّها التجار مع ارتفاع ملحوظ في الأسعار مع ازدياد في معدلات الطلب، الذي لا يقترن بالحاجة بقدر ما يكون لغرض التخزين، مخافة الندرة وارتفاع الأسعار وتداعيات الأزمة. وتتعزز هذه الحالة نتيجة انخفاض الوعي الاستهلاكي للمواطن، وميل التجار للاحتكار.
وتتجلى هذه الميول وفق أشكال تخالف قانون العرض والطلب، الذي تتحدد بموجبه وبشكل عكسي حركة الأسعار. فالواقع يدل على أن الناس سيزيدون من مشترياتهم حتى لو ارتفعت الأسعار، ولم ترتفع دخولهم. لكن يجب ألا ننسى أن حتى في هذه الحالة، فإن ضعف القدرة الشرائية يلعب دوراً مهماً في حجم الطلب. وهنا يمكن أن يلجأ المواطن إلى بيع ما يمتلك من عقار أو ذهب.
إضافة إلى ما ذكرناه، فإن معدل الأسعار يتأثر بتكاليف أجور النقل، وغياب الرقابة التموينية. وأيضاً يتأثر بتفاقم مظاهر النهب المُعلن، وتحديداً من قبل عناصر اللجان الشعبية التي تقوم ظاهرياً بحماية مداخل المدن والمدنيين، لكن حقيقة الأمر هي أنها تستغل سلطتها على الحواجز وظروف الأزمة لاستغلال المواطنين. إذ لا يمكن لأي كان أن يمرر بضاعته عن أي حاجز إلا بعد أن يدفع ما يُطلب منه. إن هؤلاء وكذلك من يسيطر على الحواجز من المسلحين في المناطق التي خرجت عن سلطة الدولة، يتساوون في زمن الأزمة السورية مع من يقتل السوريين، إن لم يكونوا أشد خطراً، كونهم يحرمون المواطن من تأمين قوت يومه. وما يزيد من معاناة السوريين وأزمتهم، تفاقم ظاهرة تجّار الأزمات. وهؤلاء باتوا يشكلون شكلاً اقتصادياً جديداً تتحكم في مفاصله فئات اجتماعية تهدد استقرار الأمن الغذائي، فثرواتهم المنهوبة تزداد تراكماً كلما اتسعت دوائر الفقر والحرمان.
إضافة إلى ما ذكرناه فإن انخفاض الطاقة الإنتاجية وازدياد حجم المستوردات، وتراجع حجم الصادرات، وتفاقم ظاهرة التهريب وانخفاض قيمة الليرة السورية أمام الدولار، وكذلك انخفاض الاحتياطي السوري من القطع الأجنبي، يزيد من تأثير السوق السوداء والدور السلبي للتجار بشكل عام، وتجّار العملة بشكل خاص، كونهم باتوا يساهمون بشكل واضح في محاربة فقراء سورية بقوت يومهم.
إن ما عرضناه يُعبّر عن فشل السياسات التنموية التي ركّزت في مؤشرات النمو الرقمية، وانحياز أصحاب القرار لمصلحة التجار وأصحاب الرساميل. فكانت السياسات الاقتصادية لا تعتمد التنمية الاقتصادية والبشرية المستدامة، بل كانت تساهم في تهميش القطاعات الاقتصادية الإنتاجية التي تشكّل المدخل الأساسي لنشوء نهضة تنموية. فكان النمو الرقمي في الغالب يقوم على سياسات تحريرية تساهم في تقليص الدور الرعائية للدولة وإبعادها عن دورها التنموي. فكانت أرباح فئات محددة تميل إلى الارتفاع الخرافي، فيما معدلات الأجور والتشغيل ومستوى المعيشة تنخفض إلى مستويات كارثية.
ولم تقف الأمور عند هذه الحدود، بل استطالت لتوسّع هوامش التشغيل غير النظامي، ما ساه في نشوء علاقات مشبوهة بين بعض المتنفذين في السلطة ورجال الأعمال. ونكاد نجزم بأن التشغيل غير النظامي كان خياراً وليس نتيجة، إذ بيّنت السنوات الماضية أن جملة التغيرات كانت تركّز في تخفيض الإنفاق العام، وكذلك ما يخصص من اعتمادات للمشاريع الاستثمارية ومؤسسات القطاع العام و المواد الأساسية. فيما كان يتم التركيز في زيادة المعدلات والمطارح الضريبية على الاستهلاك والإنتاج، في وقت كان يجري التغاضي عن رفع المعدلات الضريبية بما يتلائم مع نسب الأرباح الناتجة من الاستثمار العقاري والتجاري. كذلك كانت تُعفى حركة رأس المال المالي من التكليف الضريبي، فيما الإصلاحات الاقتصادية لم تكن تتجاوز سطح السياسات والعلاقات الاقتصادية. أما حملات مكافحة البطالة، فإنها كانت تتساوق مع تعميم سياسات السوق الحرة وتخلّي الحكومة عن مسؤوليتها في التشغيل. وكان هذا يجري بالتوازي مع عدم ربط مخرجات القطاع التعليمي مع حاجة أسواق العمل. ما أدى إلى تفاقم ظاهرة هجرة الكوادر العلمية وارتفاع معدلات البطالة، وازدياد نسبة من هم دون خط الفقر. وبلمحة سريعة على حجم التشغيل الحكومي نرى أن الخطط الخمسية لم تكن تستوعب سنوياً إلا أعداد محدودة من العمال. ففي الوقت الذي كانت تصل فيه أعداد الباحثين عن فرصة عمل إلى 300 ألف سنوياً، فإن الحكومة كانت تعلن في خططها الخمسية عن طاقة تشغيلية تتراوح من 60 إلى 76 ألف فرصة عمل سنوياً. لكن على أرض الواقع فإن نسبة التشغيل الحقيقي لم تكن تتجاوز حدود 37 ألف فرصة عمل سنوياً. وساهم هذا في اعتماد الأفراد لمبدأ الخلاص الفردي عبر مبادرات ذاتية لتأمين فرصة عمل، وكان هذا يساهم في طبيعة الأحوال في تفاقم ظاهرة العمل غير النظامي والمشاغل غير المرخصة، ما أدى إلى تشويه بنية الاقتصاد والعلاقات الاقتصادية واستشراء الفساد والعلاقات الزبائنية والمحسوبيات. إضافة إلى ازدياد التوترات الاجتماعية والتفاوت الطبقي. وما زاد من حدة الأزمة، إقصاء العمال عن المشاركة في صناعة القرار، فيما أقلية من المتنفذين وأصحاب الرساميل القريبين من دوائر صنع القرار، يضعون السياسات الاقتصادية التي تُعبّر عن مصالحهم ومصالح من يرتبطون بهم، فكانت النتائج دماراً اقتصادياً وجفافاً سياسياً وخراباً اجتماعياً.
لقد بات معلوماً أن تجاوز أسباب الأزمة السورية، يبدأ من الربط بين الدمقرطة السياسية والتنمية الاجتماعية، تطوير بنى الإنتاج، تعزيز الدور الرعائي للدولة، تطوير الطاقات البشرية، فتح المجال أمام الفرد للمشاركة في الشأن العام.
* باحث وكاتب سوري