في السابع عشر من نوفمبر، يُتم الرفيق نايف حواتمه عامه الــ86 وهو ما يزال على رأس الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. وهو طبعاً من الجيل الأول المؤسّس للثورة الفلسطينية في ستينات القرن الماضي، جيل ياسر عرفات وجورج حبش وأحمد جبريل وخليل الوزير. ومع تمنّياتنا للرفيق نايف حواتمه بالمزيد من طول العمر إلّا أن ذلك لا يمنع من تقديم مراجعة نقدية لبعض معالم مسيرته الطويلة.في آذار (مارس) من عام 1974، خاطبَ نايف حواتمه الإسرائيليين عبر صفحات جريدة «يديعوت أحرونوت» قائلاً «تعالوا لنحوّلَ السيوفَ إلى مناجل». وفي خطابه ذاك كان حواتمه أول قائد فلسطيني يدعو بوضوح إلى حلّ للقضية يقوم على أساس قرارات الأمم المتحدة والتسوية السياسية والشرعية الدولية، أي «حل الدولتين» بمعنى قيام دولة فلسطينية إلى جانب «دولة إسرائيل» بما يتضمّنه هذا الحل المقترح من تخلّ عن مبدأ تحرير كامل التراب الفلسطيني عن طريق الكفاح المسلّح. وأضاف نايف حواتمه «لا أرى لماذا يجب علينا أن نقبل بأن تفتح الرجعية العربية الحوار مع أشدّ التيارات الإسرائيلية تطرّفاً وتمنع على القوى التقدّمية أن تفعل الشيء إياه مع القوى التقدّمية الإسرائيلية».
فرقٌ شاسع بين كلام حواتمه «السلامي» هذا عن المناجل والشرعية الدولية والعلاقات مع القوى التقدّمية الإسرائيلية، وبين خطابه لجورج حبش قبل سنين قليلة ( عام 1969) حين أعلن انشقاقه عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين متهماً إيّاها بعدم الاهتمام بالتوعية السياسية والأيدولوجية وبأنها ليست ثورية بما فيه الكفاية بل وبالتحول إلى حزب برجوازي وبالتبعيّة الذيليّة لمنظّمة التحرير بقيادة حركة فتح اليمينية.
وقبل الانتقال لخطوة مخاطبة الإسرائيليين مباشرة كانت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين قد بدأت مسيرة برنامجها «السلامي» المثير على المستوى الفلسطيني وذلك حين أعلنت برنامجها «الوطني الواقعي المرحلي» عام 1973 والمتضمّن ذات الأفكار التي عبّر عنها حواتمه في تصريحاته للإسرائيليّين من خلال الصحافي الأميركي بول جاكوبس.
والحقيقة أنه لا يمكن النظر إلى برنامج الجبهة الديمقراطية «السلامي» وتصريحات نايف حواتمه بشأن العلاقات مع «الإسرائيليّين التقدميين» بعيداً عن نوايا وتوجهات ياسر عرفات، بل الأرجح أن يكون ذلك تمّ بإيعاز منه وترتيب مسبق معه. فعرفات في تلك المرحلة المبكرة، وهو الداهية وملك المناورات، لم يكن يرغب في تحمّل «وزر» هذه الأفكار غير المألوفة ولا المقبولة على الساحة الفلسطينية، فاحتاج إلى «واقي صدمات» يحميه من ردود الفعل الغاضبة المتوقعة من داخل فتح ومنظمة التحرير ويمكّنه من النأي بنفسه عنها، وفي ذات الوقت يمهّد لطرحها وتبنّيها رسمياً. وببراغماتيةٍ هي أبعد ما تكون عن اليسار الثوري قَبِل نايف حواتمه أن يلعب دور «بالون الاختبار» لحساب عرفات فيساعده في قياس مدى شدّة المعارضة لهذه السياسات الجديدة قبل اعتمادها علناً. وبالفعل فإنه بعد سنةٍ من طرح برنامج الجبهة الديمقراطية «السلامي» تحوّل إلى برنامجٍ لمنظمة التحرير كلّها و«للشعب والثورة الفلسطينية» حين تم اعتماده في دورة المجلس الوطني الفلسطيني في حزيران (يونيو) 1974 وما بعدها، تحت مسمّى برنامج النقاط العشر.
كرّت سبحة فتح ومنظمة التحرير بعد ذلك، فمن الالتقاء بــ«القوى التقدمية» في إسرائيل إلى جماعة «السلام الآن» إلى «ناطوري كارتا» واليهود غير الصهيونيّين إلى حزب ميريتس وشولاميت الوني إلى يوسي بيلين و«يسار حزب العمل» إلى شمعون بيريز وأخيراً إلى أحضان رابين وصولاً إلى حزب الليكود. وكرّت معها سبحة البرنامج السلامي، من «السلطة الوطنية المقاتلة على أي شبر يتم تحريره» إلى قرار 242 إلى «القرار الوطني المستقل» إلى «الرقم الصعب في المعادلة» إلى «نبذ الإرهاب» إلى مؤتمر مدريد والوفد المشترك وصولاً إلى أوسلو ومناطق B و C .
طبعاً لا يمكن تحميل نايف حواتمه وحده مسؤولية ذلك التدهور والمسار الانحداري فذلك يعود أساساً لعرفات ومجموعته في قيادة فتح ومنظمة التحرير، إلّا أنّه يجب أن يُسجّل أن «البذرة» لمسار التسوية الذي وصل إلى ما نراه اليوم تعود إلى الجبهة الديمقراطية وأفكارها «التقدمية» التي طرحتها سنة 1973. وما كان دور نايف حواتمه بعد ذلك سوى الشريك الأصغر أو التابع الذي يقدّم المساعدة والغطاء لعرفات كلّما لزم الأمر واحتاج لمظاهر «الوحدة الوطنية».
ومن اللّافت للنظر أن الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، والتي يُفترض أنها تأسّست كتنظيم ثوري ماركسي- لينيني في خانة أقصى اليسار، أفرزت من بين صفوفها شخصيات في غاية السوء، شخصيات تمثّل ردّة قبيحة عن كل مبادئ الكفاح الوطني والثوري، من أمثال ياسر عبد ربه (صاحب وثيقة جنيف-البحر الميت التي فيها تفريط بحق العودة المقدس للشعب الفلسطيني) وحمادة فراعنه (النائب السابق في البرلمان الأردني – التطبيعي الذي زار الكنيست وارتبط بعلاقة وثيقة مع السفير الإسرائيلي في عمان) ورياض منصور (مندوب فلسطين في الأمم المتحدة الذي لعب دوراً مهماً في إحباط جهود المنظمات الحقوقية لإدانة إسرائيل أمام المحاكم الدولية) ولا ننسى العفيف الأخضر (التونسي الذي تحوّل إلى ليبيرالي يميني متطرّف ومحبوب من قبل منظمة «ميمري» الأميركية الصهيونية).
عندما تأسّست الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين عام 1969 كان ذلك في زمان المدّ الثوري الماركسي – اللينيني في العالم، أيام كاسترو و غيفارا، أيام ماو تسي تونغ في الصين، أيام المقاومة الفييتنامية وهو شي منه، أيام سانكارا الأفريقي... أيام الكفاح الثوري المسلح للشيوعيين واليسار بشكل عام في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وكان من الطبيعي أن تسير الثورة الفلسطينية، أو على الأقل قسم مهم منها، على ذات الدرب حتى تحقيق الانتصار. طرحت الجبهة الديمقراطية نفسها لتلعب ذاك الدور على الساحة الفلسطينية ولكن للأسف تبيّن أنها ليس لديها المؤهلات الكافية لذلك. وبدلاً من الثبات على درب الكفاح العسكري الثوري بدأت سلسلة تراجعات على الصعيدين الفكري والعَمَلي جعلتها أبعد ما تكون عن النماذج الثورية التي انتصرت في أماكن أخرى من العالم، إلى أن وصلت حالها اليوم حيث تلعب دوراً أشبه ما يكون بالمؤسسات الحقوقية ومراكز الأبحاث والنقابات المهنية.
*كاتب و باحث من الأردن