في ظلّ الأزمة المتدحرجة منذ قبيل احتجاجات 17 تشرين 2019، ظهرت شريحة الشباب اللبناني في مركز الحدث. فهؤلاء هم الأكثر تضرّراً من الانهيار الحاصل سواء من ناحية قدرتهم على استكمال الدّراسة أو إيجاد فرص العمل أو الانطلاق في الحياة. وهم أيضاً كانوا زخم الحركة الاحتجاجية ويدور الصراع حول إقناعهم واجتذابهم من كلّ القوى الفاعلة. كما أن أهمية هذه الشريحة تكمن في أنّ وعيها تشكّل بعد الحرب الأهلية وكانت قادرة على معايشة مرحلة ما بعد عام 2005 وإدراكها بكل تعقيداتها. وهذه الشريحة نظراً إلى دراستها الجامعية وفعّاليتها السياسية تساهم في تشكيل جزء من الرأي العام الشبابي وينحدر منها قادة رأي قادرون على الوصول إلى الجمهور برسائل محدّدة. وفي الانتخابات النيابية المقبلة عام 2022 من المتوقّع أن تكون هذه الفئة حاضرة بقوة على صعيد التعبئة والتحشيد والإقناع وتؤثر في السلوك الانتخابي بدرجة ما.
بوب فوجيتاني (الولايات المتحدة - 1963)

انطلاقاً مما تقدّم أنجزتُ دراسة ــــ أصدرها المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق ــــ حول كيف يؤثر الانتماء السياسي والطائفي على تصوّرات الشباب من خرّيجي الجامعات المنضوين في أحزاب السلطة المعارضة ومجموعات الحراك تجاه أزمة ما بعد احتجاجات 17 تشرين؟ تبنّت الدراسة منهجاً نوعياً من خلال المقابلات شبه المنظّمة التي شملت 64 خرّيجاً جامعياً من عمر 24 سنة إلى 30 سنة (جيل ما بعد الحرب الأهلية) منتمين إلى أحزاب مشاركة في السلطة وفق معيار المشاركة في البرلمان الحالي باستثناء التنظيم الشعبي الناصري (35 شخصاً من 15 حزباً) والمعارضة والحراك (29 شخصاً من 8 أحزاب و 18 مجموعة).
جرت المقابلات عبر فريق من المساعدين في الفترة بين تموز 2020 وتشرين الثاني 2020 وشملت 16 سؤالاً. بعدها جرى عرض الإجابات وترميزها وفرزها ثم تحليلها بشكل مُقارن داخل كل فئة، وكذلك بين الفئتين بلحاظ الانتماء السياسي والطائفي. نستكشف في هذا المقال تصوّر المشاركين لأداء أحزابهم ومجموعاتهم في ظل الأزمة اللبنانية؟ وما هي الخيبات التي يستشعرونها منذ الانتخابات النيابية عام 2018؟ وما هي حدود التغيير في القناعات السياسية بعد الذي جرى في السنوات الثلاث الأخيرة؟

أولاً: الرضا عن أداء الأحزاب
i. بالعموم هناك رضا مرتفع لدى معظم المشاركين من أحزاب السلطة عن أداء أحزابهم، وحين يمارسون نوعاً من النقد الذاتي يقومون بذلك مع تجنّب القضايا الكبرى أو قائد التنظيم مع ذكر العديد من التبريرات. بالمقابل يشعر المشاركون من الحراك والمعارضة بمستوى عال جداً من الرضا عن السلوك السياسي لتنظيماتهم ولا سيّما لدى المجموعات الحديثة العهد بالمقارنة مع أحزاب المعارضة العريقة، فيما كانت الانتقادات لدى هذه الفئة محدودة وعابرة.
ii. بالمجمل ربط المشاركون من الأحزاب عدم رضاهم بقضايا مرتبطة بأداء بعض النواب والوزراء أو الإدارة السياسية اليومية أو مسائل تنظيمية داخل أحزابهم أو سياسات الحلفاء أو الميل الدائم إلى المساومة بدل المواجهة أو التشدّد، وطبيعة التحالفات والتسويات. لكنّ هذه المساومة هي آلية عمل بين النخبة السياسية تحت عناوين مثل التوافقية والميثاقية وحفظ الوحدة الوطنية بهدف إدارة النظام وتقاسم المنافع والمصالح. أما النقد الذاتي لدى المشاركين من قوى المعارضة فتركّز في القدرة على الوصول إلى الجمهور والفشل في بناء أطر موحّدة لقوى الاحتجاج ومسايرة بعض قوى السلطة.
iii. لم يكن للبُعد الطائفي أو التنظيمي تأثير واضح على إجابات المشاركين. لكن يمكن ملاحظة أن المشاركين الدروز في أحزاب السلطة لديهم مستوى أعلى نسبياً من الرضا، فيما ركّز المشاركون من حركة أمل على ربط الرضا بدور القيادة وأضاف إليه المشاركون من حزب الله قضية المقاومة، بالمقابل بدا المشاركون السُّنّة، وتحديداً من تيار المستقبل، الأكثر مساءلة لخيارات قياداتهم.
iv. بدا لافتاً أن لدى كلتا الفئتين كانت القدرة على المشاركة في الحوار الداخلي والمرونة في التواصل مع صانع القرار داخل الحزب أو المجموعة مصدراً رئيسياً للرضا لدى المشاركين. وهذ ما يعكس رغبة مرتفعة لدى هذه الشريحة من خرّيجي الجامعات في المساهمة النشطة والمشاركة المباشرة في عملية صناعة القرار ولو بحدود الاستماع وعرض المشورة ويجذبها وجود بنية تنظيمية حيوية ذات قنوات نشطة باتجاهين داخل الهرم التنظيمي. وكذلك يُساهم الحجم التنظيمي الصغير لمجموعات الحراك ببناء صلات شخصية متينة داخلها ويخلق نوعاً من الحميمية الأسرية ولا سيما مع التفاعل المتواصل خلال التحركات إضافة إلى كونهم في الغالب ينتمون إلى جيل واحد.
بعض المشاركين من قوى 14 آذار متأثرون سلباً بفشل إسقاط العهد بعد 17 تشرين، ما دفع مشارِكة من القوات إلى تغيير قناعتها تجاه تلك «الثورة»


v. كانت مصادر الرضا لدى مشاركي أحزاب السلطة مرتبطة بدور رموز التنظيم والقضية الإيديولوجية وتقديم المساعدات وضرورات الواقع السياسي. بينما كانت مصادر الرضا لدى المشاركين من المعارضة والحراك متعدّدة، ولكن الأبرز فيها: (1) طبيعة هذه المجموعات لناحية بنيتها غير الهرمية ومستوى المشاركة في صناعة القرار والانفتاح على النقاش بما يمنح المنتسب إحساساً مرتفعاً بالانتماء والدور. (2) المصدر الثاني الأبرز هو النشاط العملي للمجموعات ضمن المجال العام من خلال تنظيم الاحتجاجات والتحركات والتوعية العامة وطرح الأفكار، فمشروعية هذه المجموعات تأتي من نشاطها الميداني والممارسة الواقعية وليس من قيادة تاريخية أو مشروع إيديولوجي كامل التشكّل.
vi. يشعر المشاركون من الحراك والمعارضة بموقف أخلاقي متقدم مرتبط بتموضعهم السياسي، وهم يحرصون على وضع أنفسهم في مقابل النظام السياسي «الفاسد» ويصرّون على إبراز التناقض مع الأطراف الموجودة داخل السلطة كوسيلة لإبراز هُوية متمايزة وجذّابة. فيكرر هؤلاء المشاركون الإشارة إلى دورهم في الدفاع عن حقوق الفقراء ونبذ الطائفية ومواجهة الفاسدين للافتخار بانتمائهم. كذلك كان المشاركون من الحراك والمعارضة أكثر قدرة وراحة بالتعبير عن أسباب شعورهم بالرضا وبرز ذلك من خلال الإجابات المطوّلة والمفصّلة لعدد كبير منهم. بينما كان يغلب على المشاركين من الأحزاب الطابع الدفاعي والتبريري ما يشير إلى شعورهم بعبء المساءلة الشعبية والتشكيك في أحزابهم.

ثانياً: الخيبات السياسية
i. بالمقارنة بين الفئتين عبّر المشاركون من أحزاب السلطة عن مستوى أعلى بكثير من الخيبة وذلك يعود إلى كون أحزابهم طرحت الوعود وتعمل من داخل السلطة، فكان أن انفجر الانهيار الاقتصادي والسخط الشعبي في وجهها. يتشابه شباب الأحزاب لناحية الشعور بالخيبة مما وصلت إليه الأحوال بعد عامين من الانتخابات الأخيرة، وهذا الأمر يجد تفسيره في كون شباب الأحزاب غالباً ما تكون لديهم طموحات عالية مشبّعة بالخطاب الحزبي ووعوده فضلاً عن أنهم يتعرّضون لضغط في المجال العام بأسئلة حول أداء أحزابهم. أما المشاركون من المعارضة والحراك فأغلبهم، بدون فوارق طائفية ملحوظة، اعتبروا أن ما وصلت إليه الأمور ليس مفاجئاً بل هو متوقّع ربطاً بنتائج الانتخابات النيابية. وهذا أمر طبيعي ممن هم متوضعون في معارضة النظام السياسي ونخبته. ويرى هؤلاء أن الأزمات الحالية تثبت صحة تقديراتهم وانتقاداتهم للوضع القائم ويمكن أن تقوّي من نفوذ المعارضة في المرحلة المقبلة.
ii. كانت توقّعات المشاركين من الأحزاب من مرحلة ما بعد الانتخابات أكبر بكثير من المشاركين الآخرين وهذا ما جعل الأزمة أكثر ضغطاً عليهم. وبدا أن جملة من شباب الأحزاب تعرّضوا لصدمة الانهيار وهي حالة لم يعبّر عنها إلا مشارك واحد من شباب المعارضة. تعامل المحازبون مع هذا الضغط بتحويل المسؤولية عن أحزابهم أو التخفيف منها مع بقاء حدود من النقد الذاتي. رغم ذلك هناك مجموعة ضمن شباب الأحزاب عبّرت عن الخيبة من أحزابها بمضمون شبيه بخطاب الشريحة الثانية ولكن بشكل فيه نوع من المواربة. هناك إدراك لدى هؤلاء المشاركين لحدود التوقّعات في ظل هذا النظام، وهذا الأمر لم يكن ليتحقّق لدى شريحة في طور الدخول إلى المجال السياسي لولا صدمة الأزمة، فالأزمة عملت كمكبّر لعيوب النظام وحدوده.
iii. تنوّعت مصادر خيبة المشاركين من أحزاب السلطة بين أداء الأحزاب والحلفاء ونتائج الانتخابات النيابية في عام 2018 والانهيار الذي حصل، فيما تركّزت الخيبة لدى مشاركي المعارضة والحراك على نتائج الانتخابات وسلوك الناخبين. وهنا يُلاحظ أن التعبير عن الخيبة من نتائج الانتخابات كان أكثر نسبياً لدى المشاركين السُّنّة، فيما الخيبة لدى المشاركين الشيعة جاءت ربطاً بمرحلة ما بعد الانتخابات بشكل أساسي. وفيما تتوجه انتقادات المشاركين السُّنّة إلى تيار المستقبل فإن النقد من المشاركين الشيعة في الحراك والمعارضة يوجّه إلى حزب الله وذلك من جانب أنه الطرف الذي تُعقد عليه الآمال.
iv. تظهر داخل فئة الأحزاب المشاركة في السلطة عبارات وأصوات عديدة تفيد بعدم الرضا عن أداء أحزابها ولكنّ أغلبيتها تحاول نقل مسؤولية ذلك إلى عوامل ليست تحت السيطرة الحزبية (طبيعة النظام، سياسات ومواقف الخصوم والحلفاء). نسبياً هناك ميل إلى الرضا عن أداء الأحزاب على المستوى المحلي مقابل سخط من الأداء العام. وهذا مرتبط بطبيعة أداء الأحزاب والنواب الذين يكثفون تواصلهم الجماهيري من خلال الحضور المباشر وشبكات المصالح والخدمات والمساعدات في مناطق حضورهم في مقابل أن قيادات الأحزاب تتعامل بشكل تقليدي على المستوى العام من ناحية التحالفات والسياسات والاندماج في النظام الطائفي. ومجدداً تظهر النقمة تجاه الحلفاء وهو أمر يتكرر مراراً خلال المقابلات وخاصة لدى المشاركين من حزب الله والتيار الوطني الحر.
v. ظهر اهتمام ملحوظ بالانتخابات الأخيرة، فشباب قوى 14 آذار، بالتحديد تيار المستقبل، عبّروا عن خيبة كبيرة من تلك الانتخابات من جهة خيارات الناخبين وكذلك طبيعة القانون. أما بعض المشاركين من قوى 8 آذار، ورغم ربح أحزابهم للانتخابات الأخيرة فيرون أنه لا بد من إصلاح القانون الحالي بحيث يمكن تجاوز القيود الطائفية للنظام وبالتالي امتلاك قدرة أكبر على إحداث التغيير. اكتشف المشاركون من قوى 14 آذار، بعد فوزهم الأول بالأغلبية النيابية منذ عام 2005، حدود تأثير هذا الفوز على قدرة أحزابهم، وربما رغبتها في إحداث تغيير عميق كما كانت تعبّر حين كانت على مقاعد الأقلية. بالمجمل يتشارك السُّنّة في كلتا الفئتين مستوى أعلى من الخيبة من نتائج الانتخابات مقارنة بباقي المشاركين.
vi. تتشارك الفئتان موقفاً نقدياً من قانون الانتخابات، وبدرجة أكبر لدى المشاركين من الحراك والمعارضة. ويتقاطع المشاركون من أحزاب صغيرة مشاركة في السلطة مع المشاركين من المعارضة والحراك في انتقاد القانون الحالي بحجة أنه لا يسمح بتمثيل القوى الناشئة والأحزاب الصغيرة.

ثالثاً: حدود التحوّل في القناعات السياسية
i. أفاد ربع المشاركين من كلتا الفئتين بأنه لم يحصل لديهم أي تغيير في القناعات السياسية منذ الانتخابات النيابية 2018، وفيما برّر المشاركون من أحزاب السلطة ذلك لثقتهم بأحزابهم وقياداتهم كانت حجة المشاركين من المعارضة والحراك منطلقة من عدم الثقة بالمنظومة الحاكمة وموقفهم منها وهو أمر أكدته الأزمة. لكن فيما توزّع هؤلاء على مجمل الأحزاب في الفئة الأولى كان المشاركون ضمن الفئة الثانية، أي المعارضة والحراك، ممن أنكروا حصول أي تحوّل في قناعاتهم السياسية، هم بأغلبيتهم العظمى من تيارات ومجموعات ذات اتجاه يساري.
ii. داخل فئة المشاركين من أحزاب السلطة كان مثيراً للانتباه حصول مراجعة للاقتناع بإمكانية بناء دولة مدنية والعيش المشترك. ويظهر أن هذا التحوّل كان انعكاساً لحدّة الانقسامات السياسية منذ الانتخابات النيابية الأخيرة من ناحية وحدّة الحملات الإعلامية وقطع الطرق التي استهدفت بيئات حزب الله والتيار الوطني الحر تحديداً بعد احتجاجات 17 تشرين الأول 2019. في المقابل لم يبرز هذا الموقف لدى أي من المشاركين في فئة المعارضة والحراك.

إحباط المشاركين من الحراك ناتج عن الإدراك بأن مسار التغيير سيطول ولن يكون ممكناً من خلال الانتخابات ولا سيما مع غياب جبهة موحّدة للمعارضة


iii. التقاطع الأكبر بين الفئتين هو مراكمة التصوّرات السلبية تجاه القوى السياسية الموجودة في السلطة. فالمشاركون من أحزاب السلطة خابت ظنونهم من حلفائهم والقوى التي أنجزوا تسويات معها، وبالتحديد بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية وتيار المستقبل. الاستثناء الوحيد كان امتداح مشاركين من حركة أمل وحزب الله التحالف بين حزبيهما. في المجمل تسيطر حالة عميقة من القلق والشكوك بين المشاركين من الأحزاب الموجودة في السلطة. أما لدى المشاركين من المعارضة والحراك فإن عدداً منهم إما انسحب من أحزاب مشاركة في السلطة وإما لم يعد يؤيدها وأصبح نقدياً تجاهها أو لم يعد يرى فارقاً بينها جميعاً لناحية سوئها. وهذا الأمر ارتبط بشكل أساسي بمشاركين سنّة وشيعة.
iv. هناك مستوى عالٍ من الإحباط لدى كلتا الفئتين وإن من مصادر مختلفة. لدى المشاركين من أحزاب السلطة هناك نوع من الاستسلام للواقع السياسي القائم وعدم إمكانية التعاون مع القوى السياسية الأخرى ومستوى من الخيبة من الأداء الحزبي بعد الانتخابات الأخيرة عام 2018. ويبدو أن بعض المشاركين من قوى 14 آذار متأثرون سلباً بفشل إسقاط العهد بعد 17 تشرين وهذا ما دفع مشاركة من القوات إلى تغيير قناعتها تجاه تلك «الثورة». أما لدى المشاركين من المعارضة والحراك فالإحباط ناتج عن الإدراك بأن مسار التغيير يبدو أنه سيطول ولن يكون إحداثه ممكناً من خلال الانتخابات ولا سيما مع غياب جبهة موحّدة للمعارضة.
v. يتكرر لدى عدد من المشاركين ضمن المعارضة والحراك التأكيد على تمايزهم عن الخيارات السياسية لأهلهم حيث يبدو أن هؤلاء غادروا الانتماء التقليدي للعائلة. يعتزّ هؤلاء المشاركون بقدرتهم على ممارسة هذا النوع من التمرّد والاستقلالية، ويشيرون إلى أنهم شهدوا تحوّلاً في منهجية تفكيرهم السياسي لجهة الانفتاح على مدى أوسع للأفكار وممارسة النقد الذاتي.

الخلاصة
ينبغي بداية التأكيد على أن النتائج التي خلصت إليها الدراسة غير قابلة منهجياً للتعميم خارج دائرة المشاركين فيها، ولكن يمكن الانطلاق منها لتحصيل فهم معمّق لتصوّرات جيل ما بعد الحرب الأهلية.
بدا أن المشاركين بالعموم يتموضعون في تنظيماتهم بشكل متماسك مع ميل أوضح نسبياً لدى شباب أحزاب السلطة إلى ممارسة النقد الذاتي تحت سقف عدم المساس بالقيادة الحزبية (التركيز على مسؤولية النواب والوزراء والمسؤولين الحزبيين) ولا بالقضايا الجوهرية. وكان نقد هؤلاء المشاركين شديداً للنظام السياسي وممارسات السلطة ولو أنهم يشيرون في ذلك إلى قوى السلطة الأخرى سواء الحليفة أو المنافسة. وهنا كان لافتاً ظهور مستوى مرتفع من عدم الرضا عن التحالفات وأداء الحلفاء بينما كان نقد المشاركين من الحراك والمعارضة يتجه نحو العجز عن بناء تحالف واسع لقوى الاعتراض. هذه المواقف للمشاركين من أحزاب السلطة تكشف عن نوع من الإحباط من النظام السياسي القائم وعن عدم صلاحيته وكذلك عن غياب واسع للقدرة على صناعة التوافقات. وفي هذا السياق يبرز مستوى الاستقطاب الحاد بين تيار المستقبل والحزب التقدمي وحركة أمل من ناحية والتيار الوطني الحر من ناحية ثانية. وكان واضحاً أن المشاركين السنّة هم الأكثر شعوراً بالإرباك السياسي في خياراتهم، وبرز ذلك في نقدهم الأوضح نسبياً لأحزابهم وقواهم بالمقارنة مع باقي المشاركين. والمؤشر الثاني مرتبط بمستوى التردد الذي يحكم خيارهم الانتخابي في الانتخابات النيابية المقبلة عام 2022.
تبرز لدى المشاركين من أحزاب السلطة خيبة من تطوّرات الأمور منذ الانتخابات النيابية عام 2018 بعكس المشاركين من المعارضة والحراك ممن قالوا في المجمل إن نتائج الانتخابات كانت كافية لتوقّع ما هو آت. ويعود هذا الفارق إما إلى التوقعات المرتفعة للمشاركين من أحزاب السلطة ربطاً بالخطابات الانتخابية وإما بسبب تأثرهم بالضغط الشعبي والحملات الإعلامية ضد أحزابهم بفعل احتجاجات 17 تشرين والانهيار الاقتصادي. ولذلك كانت خيبة المشاركين من أحزاب السلطة موجهة نحو القوى السياسية الحليفة أو من النتائج الانتخابية (ولا سيما من المنتسبين إلى قوى 14 آذار) مع بعض النقد الذاتي لأحزابهم ولا سيما على مستوى السياسات الوطنية مقابل بروز نوع من الرضا عن الأداء المحلي لدى بعض المشاركين. فيما ظهرت خيبة المشاركين من المعارضة والحراك من نتائج الانتخابات النيابية ومحدودية التغيير الذي حصل إما بسبب امتناع كثيرين من المعترضين عن الاقتراع وإما لسهولة التلاعب بالناخبين. ولذلك تشاركت مجموعة من الفئتين توجيه النقد للقانون الحالي كونه لا يحقق عدالة التمثيل مع ميل إلى أن تكون الدوائر أوسع مع النسبية.
ساهمت الأزمة في بروز مستويات متفاوتة من التبدلات في القناعات السياسية لدى ثلثَي المشاركين من الفئتين منذ الانتخابات النيابية 2018. تجلّت هذه التبدّلات لدى المشاركين من المعارضة والحراك حيث إن مجموعة من هؤلاء غادرت قوى سياسية مشاركة في السلطة أو أصبح أفرادها نقديين تجاه قوى كانوا يؤيدونها وتموضعوا في موقع نقدي للوضع القائم. فيما رَاوحت المراجعة لدى المشاركين من أحزاب السلطة بين حد أقصى مرتبط بعدم إمكانية بناء دولة وعيش مشترك في لبنان (ناتج عن حدّة الانقسامات والحملات ضد بعض الأحزاب) وبين حدّ أدنى على صِلة ببعض الخيارات السياسية لأحزابهم مثل تحالفات أو تسويات محددة.
يستشعر المشاركون من حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر ضغوطاً إعلامية وميدانية (قطع الطرق) تستهدف أحزابهم ورموزهم تُولّد لديهم ردة فعل معاكسة بعيداً عن الإيمان بإمكانية التعايش الوطني أو تعزز لديهم المطالبة بالصيغة اللامركزية الموسّعة. يتقاطع هذا الأمر مع حملة إعلامية ممنهجة من أحزاب وقوى موالية للولايات المتحدة تضع هُوية حزب الله وحركة أمل الشيعية على نقيض الهوية الوطنية وتحاول إبراز أن الخلاف أعمق من كونه سياسياً بل هو ثقافي بالمقام الأول، فهناك الشيعة الغرباء وهناك اللبنانيون الوطنيون. ويهدف هذا الأمر إلى تعبئة الطوائف الأخرى ضد حزب الله، بما يُضعف حلفاء الحزب لدى المسيحيين والسنّة والدروز. وهذا ما يمكن أن يفسّر جزئياً تأكيد القيادات الشيعية على فكرة الوحدة الوطنية وضبط الأحداث الأمنية بين المناطق، من حيث إن انسياق الشباب في التنظيمين الشيعيين لردود أو سلوكيات هويّاتية مغلقة ومدعومة بالعنف يعزّز من سردية خصومهم ويغذيها.
يستمر جزء من المنخرطين في المعارضة والحراك، وتحديداً اليساريين منهم، في اعتبار حزب الله ليس كبقية أحزاب السلطة، فيرونه مقصّراً أكثر من كونه متوّرطاً، وينتقدونه من باب تعويلهم عليه لإتمام مسار التغيير، وبعضهم يواصل نقد الحزب بأمل دفعه لتغيير حساباته. كذلك يؤكد العديد من هؤلاء على تحييد مسألة المقاومة عن نقدهم لسياسات الحزب المحلية. فبالنسبة إلى عدد من هؤلاء المشاركين، وأغلبهم من الشيعة، كشفت مرحلة ما بعد الانتخابات ثم الموقف من احتجاجات 17 تشرين حدود انخراط حزب الله في معركة الإصلاح ومكافحة الفساد. وفي المقابل يذهب آخرون من تيارات الحراك إلى اعتبار الحزب جزءاً من المنظومة الحاكمة دون أي تمييز.
ختاماً، هناك تصوّر سلبي عام لدور القوى الخارجية في لبنان، فتبرز خشية من التدخّلات الخارجية في الأزمة ومحاولة تدويلها. فقد برزت بعض الأصوات من داخل فئة المعارضة والحراك تتوجّس من دور خارجي، ابتداءً أو استدراجاً، يُعيد إنتاج التسوية الداخلية بين النخبة السياسية ويمدّها بالموارد. في حين أنه داخل فئة الأحزاب المشاركة في السلطة كان التخوّف لدى مشاركين من قوى 8 آذار من الخارج مرتبطاً بتدويل الأزمة ضد المقاومة. في حين أن مشاركين من الفئتين لديهم قلق من دور خارجي لتحفيز حرب طائفية إما لإضعاف المقاومة وإما لتفكيك البلد.

* أستاذ جامعي

النص الكامل للدراسة متوفّر عبر اللينك الآتي:
http://dirasat.net/uploads/research/6099511.pdf