ظريف جوزيف عون. في السنتَين الماضيتَين لا يلقي خطاباً إلا ويتطرّق فيه إلى الحملة على الجيش وعلى قيادة الجيش. لا، هو يشكو أمن الحملة ويعد بأنه لن تؤثّر على الجيش (يقصد على شخصه). والكلام مستغرب لأن هناك هالة من قداسة (غير مفهوم مصدرها) تحيط بالجيش وبقائده، ويشارك فيها الزعماء والأحزاب ودكاكين المجتمع المدني والثاو الثاو وإعلام التمويل الخليجي والغربي. كلّما يتحدّث جوزيف عون عن حملة ضدّه أجد نفسي أصرخ به في سرّي: أين هي هذه الحملة؟ أين تجليّاتها؟ أتمنّى، يا جوزيف عون، أن تكون هناك حملة سياسيّة ضدّك وضد دورك لكنها غير موجودة. هل يريد جوزيف منع النقد أو يحلم بمجتمع مثل السعوديّة؟ حتى على المواقع، عندما أنتقدُ جوزيف عون أجد جمهور الأحزاب على اختلافها يتنطّح للدفاع عنه. بما في ذلك جمهور حزب الله. إميل لحّود، هو أنزه الرؤساء في التاريخ اللبناني المعاصر وأبعدهم عن الاعتبارات الطائفيّة البغيضة. عمل على تغيير واستبدلَ عقيدة الجيش الانعزاليّة الرجعيّة والفئوية والطائفيّة والمتحالفة سرّاً مع إسرائيل، بعقيدة وطنيّة عروبيّة علمانيّة جامعة معادية لإسرائيل. وبقيت عقيدة الجيش على ما زرعها لحّود، حتى بعد رحيل الجيش السوري عن لبنان. وميشال سليمان لم يتحوّل (مجاناً طبعاً، لأن القانون يمنعنا حتى من التفكير في الاشتباه بأن رئيساً لبنانياً معظّماً يتلقّى رشاوى سعوديّة) من المحور الممانع إلى المحور السعودي إلا بعد أن أصبح رئيساً (بتزكية من محور الممانعة نفسه ـــ هذا المحور الذي يعرف كيف يضع أعداء له في موقع الحكم والنفوذ). أما القائد السابق جان قهوجي، فقد حافظ على الخطاب الذي كرّسه لحّود وإن كان قد تعرّض للتوبيخ من قِبل الكونغرس والبنتاغون عندما أطلق ضابط لبناني النار على موقع إسرائيلي في دفاع بديهي عن النفس في العديسة (واستُدعي قهوجي إلى واشنطن وتبلّغ رسميّاً أن أي إطلاق نار على موقع إسرائيلي سيُقابل بوقف المساعدات الأميركيّة الكشفيّة للجيش اللبناني). أما جوزيف عون فقد غيّرَ قواعد اللعبة كليّاً، كما غيَّرَ الخطاب.
جوزيف عون كان مرشّح ميشال عون شخصيّاً، وهو كان محسوباً عليه (كان لباسيل والحزب مرشحان آخران، على ما قيل، لكن ميشال عون أصرّ). صحيح أنه من الصعوبة الثبات في المواقف لأن الإغراءات لجذب أشخاص في صف المقاومة نحو صف أعدائها كبيرة وكبيرة جداً، وتُقاس بالدولار والدراهم والدنانير. كما أن الأثرياء يسهل جذبهم ليس بالرشوة وإنما ـــ مثل حالة برّي وميقاتي وغيرهم ـــ بالتهديد بتجميد الأموال وحرمان الذريّة من ثروات طائلة. لكن جوزف عون كان سريعاً في قطع علاقته مع رؤسائه. وهو استغلّ حراك 17 تشرين لهذه الغاية أيضاً. وعلى الأرجح، لم يعُد جوزيف عون يخضع لسلطة خارج سلطة السفارتَين الأميركيّة والبريطانيّة (كانت علاقة جوزيف عون بآخر وزيرَي دفاع شبه منعدمة).
زار جوزيف عون واشنطن ثلاث مرّات وهو يستعدّ لزيارة رابعة بعد أيّام. هذا التكريم نادر في تاريخ قادة الجيش اللبناني. لا أذكر أن إميل لحّود تلقّى دعوة واحدة لزيارة واشنطن وكانت قيادته الوطنيّة للجيش تُقابل بمنع المساعدات عن الجيش إلا القليل والقليل جداً. إميل لحّود قد يكون المسؤول اللبناني الوحيد في تاريخه الذي أقفلَ الهاتف بوجه مسؤول أميركي (مادلين أولبرايت). وعندما تقرأ ما أُفرجَ عنه من وثائق أميركيّة يُدهشك مدى التعاون والودّ الذي يصيب من يلتقي بالمسؤولين الأميركيّين من زعماء لبنانيّين، بما فيهم كمال جنبلاط ورشيد كرامي وموسى الصدر. جوزيف عون بات محظيّاً وهو يتلقّى المديح الأميركي، وهو يستحقّه. لماذا يستحقّه؟
لقد غيّر جوزيف عون الخطاب الوطني للجيش. باتت خطبه لا تتحدّث إلّا عن خطر «الإرهاب» بالتعريف الأميركي - الإسرائيلي. هو في ثلاث زيارات لم يُشِر إلى خطر إسرائيل مرة واحدة. جوزيف عون لا يجرؤ على النطق عن خطر إسرائيل واحتلالاتها في زيارات واشنطن ـــ هذا لو كان هو يؤمن بخطر إسرائيل. جوزيف عون يشير إلى إسرائيل في موسم عيد المقاومة حيث يشيد بدور الجيش كأنه خاض معارك ضروساً ضد جيش الاحتلال، أو هو يوحي أنه كان مشاركاً في معارك المقاومة ضد إسرائيل. كيف يمكن أن يكون جيش لبنان معتنقاً العقيدة الوطنيّة فيما كان كل جنرالاته الحاليّون متفجرّجين عندما سطّر متطوّعون جنوبيّون ملاحم في المقاومة على أرض الجنوب. لم يطلق أحد من جنرالات الجيش اللبناني طلقة على جيش الاحتلال الإسرائيلي. هذا خلل فظيع في بناء جيش وطني. أميركا تشرف منذ اغتيال رفيق الحريري على الجيش وعلى «بنائه»، أي تحويله إلى فرقة كشّافة. والغريب أن من يدقّق في الخطاب السياسي لجوزيف عون، لا يجد اختلافات كبيرة عن الأجندة الغربية (بما فيها اللوبي الإسرائيلي) والتي تقول بأن على الجميع في المشرق العربي التحذير من خطر «الإرهاب» ـــ بالتعريف الإسرائيلي ـــ وأن يمتنعوا كليّاً عن التحذير من الخطر الإسرائيلي. الذي يتابع مجلّة «الجيش» مثلي يدرك كم أن جوزيف عون يأخذ الجيش إلى مرحلة ما قبل الحرب ـــ أي المرحلة التي تسبّبت بنشوب الحرب.
وخطر الإرهاب لا يشمل فقط «القاعدة» أو «داعش» بل يشمل كل حركات مقاومة إسرائيل. ويجب علينا سؤال الجيش عمّا فعله فعلياً عندما وصل خطر منظمات الإرهاب مثل «داعش» و«النصرة» إلى حدود لبنان (أنبذ استعمال كلمة إرهاب لأن المصطلح ضد الشعوب الفقيرة وهو من اجتراح الاستعمار الغربي والصهيونيّة ـــ لا يمكن استعمال المصطلح حتى عن «القاعدة» من دون الانجرار في السياق الفكري والسياسي لأعداء العرب). وماذا فعل الجيش عندما خُطف العسكريّون من قبل هذه المجموعات داخل الأراضي اللبنانيّة؟ ثم إن معركة الجرود لم تكن معركة بقدر ما كانت مسرحيّة سارعت السفارة الأميركيّة إلى إخراجها لنزع الأفضليّة والرصيد عن الذين طردوا بالفعل الخطر الداهم عن لبنان. ثم ما هي معالم المعركة؟ أن تطلق مدفعيّة الجيش قذائفها بعد أن ألحق غيرهم الهزيمة بتلك المنظمّات؟ وكما أن السفارة الأميركية سارعت إلى دعم صفقة الغاز المصري عبر الأردن فقط لتفويت الفرصة على الحزب من الاستفادة من سفن المحروقات الإيرانية، فإنّ هذه السفارة، هي نفسها من ساهم في صناعة مسرحيّة معركة الجرود للغاية نفسها. الخطاب السياسي الأميركي بات صريحاً للغاية عمّا يعنيه بخطر الإرهاب. كل التصريحات الأميركيّة الرسميّة تتحدّث عن إعداد وتدريب الجيش من أجل مواجهة الإرهاب خصوصاً حزب الله ـــ بالحرف. وهذا الكلام ورد في مشروع قرار من لجنة الشؤون الخارجيّة في مجلس النواب الأميركي هذا الأسبوع تحديداً. وعندما يرد هذا الكلام، يعمل الأميركيون على جعله أمراً مُلزِماً لقيادة الجيش وأساس عقيدته. ويزيد الشك عندما لا يصدر أي نفي من قِبل قيادة الجيش، فيما لا يفوّت جوزيف عون فرصة إلا ويشيد فيها برعاية الحكومة الأميركيّة للجيش. جوزيف عون المُعيَّن لا يعترض على وصف داعميه في الكونغرس الأميركي لأكبر حزب لبناني بالحزب الإرهابي. هذا ليس أمراً هامشياً لا يُسمع هنا أو هناك. هذا الوصف يشكّل إهانة لأكبر كتلة اقتراعيّة حسب آخر انتخابات (محمد رعد نال أكبر عدد من الأصوات والحزب نال أكبر عدد من الأصوات بين الأحزاب). هل هذا يشير إلى أن جوزيف عون يسير ـــ من دون أن يدري طبعاً ـــ في مشروع (نظري طبعاً وغير قابل للتطبيق) لاستخدام الجيش لأهداف أميركية وإسرائيليّة وعربية أيضاً ضد المقاومة؟ من المُستبعد أن يكون منخرطاً في مشروع كهذا، وهو أيضاً، يعلم جيداً حجم موازين القوى وأخطار المشروع. وواشنطن خاضت هذا المضمار من قبل في الحرب الأهليّة عندما رعت تسليح الجيش اللبناني ـــ على الخفيف طبعاً لكن ليس بنفس الدرجة الهزليّة التي تبني واشنطن عليها الجيش اليوم. في العقود السابقة كانت أميركا تسمح بتزويد الجيش بطائرات مقاتلة. لكنها منعت الجيش من استخدامها للدفاع عن لبنان، ولم تكن بحاجة لإقناع قيادة الجيش بذلك، لأن هذه القيادة كانت بالكامل انعزاليّة وفئويّة وطائفيّة ومتصالحة مع إسرائيل وتنسّق معها بالسرّ ـــ أي وفق عقيدة فؤاد الشهاب العسكريّة بالتمام والكمال.
هل بات جوزيف عون خارج المحاسبة في المرفأ وفي غيرها من المفاصل؟ من يحاسب الجيش على إطلاق النار على متظاهرين، ليس فقط في الطيّونة؟


الذي يقرأ الوثائق الأميركيّة المُفرَج عنها يُدرك كم أن قيادة الجيش كانت قبل الحرب متآمرة ضد لبنان. الكتاب الذي سيصدر قريباً بناء على أطروحة نيت جورج في جامعة رايس عن الحرب الأهليّة سيكشف الكثير. يوسف شميط، رئيس الأركان قبل الحرب، كان يلعب نفس دور سعد حدّاد قبل أن نسمع جميعاً بسعد حداد. كان شديد الحماس للقضاء على المقاومة الفلسطينيّة. هكذا أرادت واشنطن دورَ الجيش. الجيش لم يكن عاجزاً عن ردّ عدوان إسرائيل قبل الحرب. هو كان رافضاً لذلك ولم يكن حتى يعترض على عدوان إسرائيل. اليوم، الجيش عاجز عن ردّ عدوان إسرائيل ولو أراد. أميركا لا تثق به وأجندة أميركا الطائفيّة للجيش تظهر في تشكيل فريق قائد الجيش. لم يكن فريق قائد الجيش فاقداً للتنوّع الطائفي منذ عهد إميل لحوّد كما هو اليوم، وهو ما قاله لي العارفون في لبنان. أميركا لديها منظار طائفي في لبنان وهي تطلب حتى من متلقّي مساعدات وكالتها للتنمية إثبات عدم قربه من حزب الله لو كانوا من الشيعة. هي تمحّص حتى في طوائف وانتماءات متلّقي المنح الأميركيّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت.
من جهة ثانية، ليس من الصدف أن تنحصر كل تدريبات الجيش بمهام حماية الحدود الشرقيّة والشمالية ومحاربة «الإرهاب». ليس ذلك صدفة أبداً. ممنوع على الجيش اللبناني التدرّب على مواجهة إسرائيل. هذا جيش غير مُدرَّب على قتال إسرائيل، لو أراد قتالها. أي أن كل مطالبة بحصريّة السلاح بالجيش أو القول ـــ كما بات جوزيف عون يقول مؤخراً ـــ أن الجيش هو الحامي الوحيد للبنان هي مطالبة تفرّط بأمن الشعب اللبناني. عندما تقول إن الجيش هو الحامي الوحيد للبنان، أنت تقول لأهل الجنوب أنكم وحدكم، لأن قدرة الجيش على مواجهة إسرائيل اليوم هي أقل بكثير من قدرات الجيش قبل الحرب، أو من قدرات الحركة الوطنيّة قبل اجتياح ١٩٨٢. الجيش بات يتدرّب على الاستعراض في المدارس والكرنفالات وليس على قتال من أجل الدفاع عن الوطن. يكفي أن كل خرق إسرائيلي لسيادة لبنان يقابله جوزيف عون بلازمة وحيدة: تجري متابعة الموضوع مع قوات اليونيفيل.
ومن الواضح أن أميركا وبريطانيا تعدّان الجيش لمهام مختلفة بعد انتفاضة تشرين. أميركا تمسك بمعظم مفاصل الدولة وهي تمنح مساعدات نقديّة (خارج الميزانية وخارج ما يُدوَّن ويُعلن من مساعدات) لقادة الأجهزة والمرضيّين عنهم في الدولة. بينما تتجاهل عمداً وكليّاً معاناة الشعب اللبناني (عبد الله أبو حبيب قال مؤخراً إن أميركا متحمسة لمساعدة لبنان. أين تتجلّى هذه الحماسة؟ في موضوع الغاز المصري الذي لم نكن نسمع به لولا وصول سفن المحروقات الإيرانيّة؟ إن منع المساعدة عن لبنان لا تزال سياسة أميركيّة وإماراتيّة وسعوديّة رسميّة والثلاثي يفرض هذا المنع على كل الحلفاء من دون استثناء). إن تحويل الجيش إلى حرس حدود على الحدود الشرقيّة والشمالية، ورصد شوالات البطاطا وأكياس مساحيق الغسيل، كل هذا ليس إلا خدعة مفضوحة لحماية ظهر إسرائيل ومنع تهريب السلاح إلى مقاومة إسرائيل. والسفارتان البريطانية والأميركيّة ترافقان قائد الجيش في مهمات لمراقبة الحدود فيما يُفترض أن تكون المواقع الحدودية سريّة. لكن ليس من أسرار أمام السفارتَين. هل لا يزال قائد الجيش ملتزماً بالتراتبية الدستوريّة في تنفيذ مهامه، أم أن الراعي الأميركي غيّر هذه التراتبية وجعل من الملحق العسكري الأميركي الآمر الناهي؟ لا يمكن للجواب أن يكون بالإيجاب لأن ذلك يمكن أن يخرق دستور البلاد. وخرق الدستور لا يمكن أن يدخل في صلاحيات قائد الجيش.
أميركا تعدّ العدّة للتغيير في لبنان. هي تحكم الخناق على لبنان: هي لم تتسبّب في الانهيار بصورة مباشرة ولا هي تشفّت فقط بعد أن انهار لبنان. لا، هي ركلت لبنان كي يقع أرضاً عندما انهار، بل هي منعت أي عون عن لبنان وأمعنت فيه ضرباً وأذى بعد أن وقع أرضاً. لكن أميركا استغلت الأزمة لتزيد الحصار على مقاومة إسرائيل. هي لا تزال ترعى معظم الطبقة السياسية الفاسدة وترعى أيضاً الهيئات الاقتصاديّة وترعى كل أجهزة الأمن والاستخبارات بالإضافة إلى قيادة الجيش وكل الإعلام مع استثناءات قليلة. محطات الثاو الثاو الثلاث، باتت أدوات أميركيّة وإماراتيّة ليس أكثر. ونستطيع أن نستشفّ من خلال بث أو ضخّ المحطات الثلاث الأجندة الأميركيّة من خلال التركيز على الهجوم على ميشال عون وجبران باسيل وحزب الله في الأزمة. محطة «الجديد» التي كان لها ثأر تاريخي مع حركة «أمل» نسيت ذلك وركزت على حزب الله والتيار بعد أن كانت قد ضخّت ساعات من البثّ في مديح حسن نصر الله بمناسبة وبغير مناسبة.
هناك مَن يقطع الطريق على جوزيف عون ويقول: لن تصبح رئيساً للجمهوريّة، كما أن هناك على المواقع من يخاطب فؤاد مخزومي (الذي ينسى أنه كان عنصراً فاعلاً من خلال حزبه في ٨ آذار) بالقول إنه لن يصبح رئيساً للحكومة. لكن الأداء السياسي المتعثّر لحزب الله لا يسمح بالجزم. الحزب سعى لإعادة سعد الحريري، وعندما تعثر الأمر، دعم وصول نجيب ميقاتي إلى رئاسة الحكومة. والحزب ساهم في تنصيب ميشال سليمان رئيساً. والحزب الهارب من فتنة داخلية، يتجنّب توجيه أي انتقاد لقائد الجيش أو للجيش برغم الدلائل الحسيّة لتورّط الجيش في إطلاق النار على متظاهر أعزل في الطيّونة (كما أن قتل لاجئين سوريّين لم يتركبوا جرماً غير محاولة الدخول إلى لبنان عبر الحدود الشمالية كان من «العنف المفرط» على قول وزارة الخارجية الأميركية عندما يقوم حليف لها بارتكاب مجزرة لا يمكن إنكارها). جريدة «الشرق الأوسط» (في مقالة كارولين عاكوم) نشرت مقالة زعمت فيها أن حزب الله يشنّ حملة شنيعة ضد الجيش فيما كان أمين عام الحزب يحذّر من حملات ضد الجيش.
أميركا تعمل مع النظام الإماراتي لتشكيل جبهة متراصّة من قوى ودكاكين المجتمع المدني والثاو الثاو، وضمّهم إلى قوى تقليديّة مرضي عنها، مثل خرّيجي المدرسة الحريرية والكتائب وفوج ميشال معوّض. يقومون بـ«تكسير رؤوس» كما يُقال من أجل توحيد المجموعات المتنافرة والمتناحرة في جبهة واحدة للفوز بالانتخابات. وهناك دور مرسوم لجوزيف عون من أجل أن يظهر بمظهر المُنقذ: أليست «معركة فجر وليل الجرود» مذكورة في سيرته الذاتيّة؟ لكن أمام عون مهمّة مستحيلة. هو موثوق من قبل الإدارة الأميركيّة على أساس أنه سيشنّ حرباً لا هوادة فيها ضد حزب الله. أميركا كانت تعوّل على إسكندر غانم في ١٩٧٣ من أجل أن يقضي على المقاومة الفلسطينيّة، وفشل في ذلك أيّما فشل في أيام ١٩٧٣. أما قوّة حزب الله مقابل قوّة المقاومة الفلسطينيّة فهي مثل مقارنة قوّة الصين العسكريّة بقوّة الجيش الأفغاني (بعد تدريبه لعقدين من قبل القوات المسلّحة الأميركيّة). يعلم جوزيف عون أن مهمته مستحيلة لكنّه لا يستطيع أن يعترف بذلك أمام رعاته في واشنطن لأن ذلك كفيل بإنهاء خدماته. والجيش كما هو معروف تعرّض للانشقاق في ١٩٧٥ وهو لن يصل إلى مرحلة أن يمكن لأميركا أن تقحمه فيها في صراع أهلي.
أميركا تستثمر في لبنان وفي إنشاء قاعدة أميركيّة (عسكريّة واستخباراتيّة) تزيد أهميّتها بعد انسحابها من أفغانستان والعراق. هذا سيخفّف من غلوائها في نيّة نشوب الصراع. لكن التركيز على دور الجيش وتعظيم أهليّته يضرّ بالجيش ويلهب الخيال على حساب السلم الأهلي. هل بات جوزيف عون خارج المحاسبة في المرفأ وفي غيرها من المفاصل؟ أين طلبات المحاسبة لدور الجيش في إطلاق النار على متظاهرين، ليس فقط في الطيّونة؟ لماذا لا يُسأل قائد الجيش عن دوره في تخزين النيترات في المرفأ؟ كيف يمكن للمسؤول الأوّل عن الأمن في المرفا ألا يكون عالماً بها؟ هذا يعني أنه مقصّر في الحالتَين، على عكس ما يرى القاضي طارق البيطار الذي لا يستدعي أيّاً كان إلا إذا كانت هناك قصاصة ورقيّة تثبت أنه قرأ مذكرة عن وجود النيترات. وتعامل بيطار مع قائد الجيش (هو زاره شخصيّة مخافة استدعائه) يدلّل على حظوته عند السفارة الأميركيّة (لو كان جوزيف عون مرعيّاً من قبل السفارة النيجيريّة لكان مخفر حمّانا قد استدعاه للتحقيق). الدولة ليست كما يصفها البعض، أنها ممسوكة من قبل حزب. الدولة تعاني من صراع محتدم: بين أميركا التي تسيطر على معظم مفاصل الحكم والمجتمع وبين معارضيها الذين يسايرون أعداءهم في داخل الدولة لأسباب لا يفقهها إلا الراسخون في علم التحالفات الطائفيّة.

* كاتب عربي ــ حسابه على تويتر
asadabukhalil@