الآن، تحصل في المنطقة الممتدة بين الصين وتركيا، وبفعل تفكّك الاتحاد السوفياتي عام 1991، عملية تشكل لإقليم جغرافي ــ سياسي جديد في الخريطة العالمية. يضمّ هذا الإقليم الدول التالية: كازاكستان، قرغيزيا، طاجكستان، أوزبكستان، تركمانستان، أذربيجان، أرمينيا. هذه الدول جغرافياً تضمّ الحيز الأكبر لآسيا الوسطى، مع أفغانستان الذي تكمل جغرافياً هذا الإقليم. توجد فيه ثروات نفطية كبيرة (كازاكستان هي الرقم الثاني عشر في ترتيب الاحتياطي العالمي وأذربيجان هي العشرون) وفي الغاز الطبيعي (تركمانستان هي السادسة في ترتيب الاحتياطي العالمي وكازاكستان الخامسة عشرة وأوزبكستان التاسعة عشرة وأذربيجان الخامسة والعشرون)، كما تتميز منطقة آسيا الوسطى بوجود معادن نادرة بوفرة هي المواد الأولية للصناعات الإلكترونية والطبية (وخاصة البصريات) والمواد المعدنية الخاصة للري، وفي المنطقة توجد طاقات معرفيّة وتقنية بشرية توازي أو تقترب ممّا هو موجود في الدول المتقدّمة. وهناك حديث منذ الآن عن أن العاصمة الكازاخية (الأستانة) ستحلّ محلّ دبي كمركز تجاري – بنكيّ وسيط بين الغرب الأميركي - الأوروبي وآسيا، وهو ما يتوازى مع اضمحلال الأهمية الاقتصادية للشرق الأوسط ومع الصعود الاقتصادي الآسيوي.تأتي أهمية هذا الإقليم الجديد ليس فقط من ثرواته الطبيعية والبشرية بل من موقعه الجغرافي الذي يشكّل صلة الوصل بين القارتين الآسيوية والأوروبية (منطقة أوراسيا)، وكذلك من الدول المجاورة له، أي الصين وروسيا وباكستان وإيران وتركيا وأيضاً من الدول التي تسعى لتشكيل نفوذ فيه مثل الولايات المتحدة وإسرائيل. هناك كثير من الأحداث العالمية لا يمكن تفسيرها من دون عملية تشكّل هذا الإقليم الجديد، مثل تشكيل باكستان لحركة طالبان في عام 1994 لتكون ذراعاً باكستانية إلى آسيا الوسطى السوفياتية السابقة، حيث ارتبطت سيطرة حركة طالبان على كابول في عام 1996 مع مفاوضات بين الحركة وشركة (يونوكال) الأميركية لمدّ أنبوب غاز من تركمانستان إلى الساحل الباكستاني عبر أفغانستان قبل أن تفشل تفجيرات آب/ أغسطس 1998 للسفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا التي قام بها تنظيم القاعدة هذه المفاوضات، كما أنه من خلال هذا الإقليم يمكن تفسير الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001 ولو اتّخذت أحداث (11 سبتمبر) ذريعة ظاهرية له، وعبر هذا يمكن تفسير النزعة الطورانية القومية الجديدة في تركيا والحديث عن «عالم تركي يمتدّ من بحر إيجة إلى تركستان الصينية (منطقة الإيغور)» وهو ما يفسّر الانخراط الكثيف التركي في التحالف مع أذربيجان في حرب 2020 ضدّ أرمينيا التي انتزع الأذربيجانيون منها بعد هزيمتها ممرّاً حرّاً في الأراضي الأرمينية يصل بين تركيا وأذربيجان من خلال منطقة (ناختشيفان)، ليكون ممراً لتركيا إلى «العالم التركي» الذي يضمّ دول معظم هذا الإقليم والتي تربطها روابط لغوية - ثقافية تركية ماعدا ثلاث دول هي أرمينيا وأفغانستان (بها أقلية من الأوزبك) وطاجكستان، كما أن الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان عام 2021 وتسليم واشنطن السلطة لحركة طالبان في كابول يدلّ على اتّجاه انسحابي أميركي من الشرق الأوسط (الذي تشكل أفغانستان جداره الشرقي) ويدل على ترك واشنطن لقنبلة إسلامية سنية يمكن أن تنفجر بوجه الصينيين والروس والإيرانيين، ومن المحتمل أن تشعل الإقليم الجديد وتمنع بكين وموسكو وطهران من السيطرة عليه، وهذا الشيء الأخير ربما يفسر المداراة الشديدة من العواصم الثلاث لحركة طالبان في الشهرين الأخيرين ومحاولة كسبها.
تأتي أهمية هذا الإقليم الجديد في اللوحة الدولية المتشكلة في مرحلة ما بعد السوفيات من مجاورته للعملاق الصيني الاقتصادي الجديد الذي يشكل التحدي الوحيد القائم للقطب الأميركي الواحد للعالم، وهو يوازي بأهميته للصينيين منطقة المحيطين الهادئ ـــ الهندي التي يحاول الأميركان من خلال اتفاقية (أوكوس) الأخيرة وعبر ضم اليابان والهند لتلك الاتفاقية استخدام تلك المنطقة ضد الصين. يمكن للأميركان أن يستخدموا هذا الإقليم الجديد ضد الصين وضد الروس ومن أجل اللعب بالمكونات الإسلامية في الصين وروسيا، كما يمكن لواشنطن عبر هذا الإقليم الجديد أن تقوّض المحاولات لإنشاء تحالف صيني - روسي سيشكل الخطر الأكبر على بناء القطبية الأحادية الأميركية للعالم.
وهذا الإقليم الجديد يمكن أن يكون ميداناً لتشكيل خماسي صيني ـــ روسي ـــ باكستاني ــ إيراني ـــ تركي ستنهار القطبية الأميركية الأحادية للعالم في حال تكونه، وخاصة إن اختارت طهران عدم الاتفاق مع واشنطن في الملف النووي، وإن أدارت باكستان الظهر للأميركان في رد فعل على التحالف الأميركي- الهندي الوثيق بمرحلة ما بعد السوفيات، وإن اختار أردوغان الطلاق مع واشنطن بعد عملية رقصه على الحبال الروسية ـــ الأميركية البادئة منذ قمته مع بوتين في 9 آب/ أغسطس 2016.
يقول زبغنيو بريجنسكي في مقدمة كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى» (1997): «أوراسيا هي رقعة الشطرنج التي تدور عليها المعركة المستمرة من أجل الحصول على الزعامة السياسية العالمية».
إقليم آسيا الوسطى هو قلب أوراسيا وهو الجسر بين طرفيها.

*كاتب سوري