اليوم، ونحن نستعد لعبور الضفة الأخرى من المئوية الأولى، نرى أن خطّي الهيمنة ومواجهتها لم ينتهيا بعد. لقد تكفلت إمبرياليات متناسلة بتعميق مأزق العالم وتثبيت قضايا الارتهان والبؤس والبلطجة
اليوم، ونحن نستعدّ لعبور الضفّة الأخرى من المئوية الأولى، نرى أن خطَّي الهيمنة ومواجهتها لم ينتهيا بعد. لقد تكفّلت إمبرياليّات متناسلة بتعميق مأزق العالم وتثبيت قضايا الارتهان والبؤس والبلطجة والسيطرة... وجعلها أمراً مستداماً. لقد وقعت الشعوب في مأزق التكوين المتكرّر وإعادة تدوير القضايا بحيث تضمن استمرارية الفقر والبطش والصراعات والتبعية والهيمنة. لقد ضاعت أحلام البشر بين منطق الفالت وسلوك المتفلّت، فتكاثرت الحروب وتنوّعت أشكالها فتنقّلت من القتل بالقنابل إلى القتل بالحصار والعقوبات والتجويع. لم تعد هناك حدود لسلطة رأس المال الذي حكم العالم بمنطقه، فازدادت معه الفروق الطبقيّة وتنوّعت أشكال التحكّم. فعالم اليوم مكلوم ببؤس القيم وانهيارها، ولن يقوى على المواجهة من دون خيارات واضحة ومشاريع سياسيّة نقيضة ومُنحازة إلى ضحايا الرأسمالية المتوحّشة. فحالة الاستباحة، التي خلّفتها انهيارات التسعينيّات من القرن الماضي، جعلت المنتصر يعتقد بأبدية انتصاره واستدامة مشروعه، وهذا ما حاول فرضه من خلال صوغ العالم وفق مصالحه وتوجّهاته، ما أشعر فقراء العالم بذلك اليُتم حين استفردت بهم إمبريالية غربيّة، أطاحت الحدود كاسرة حواجز البلدان وفارضة سلوكيات منحازة، جاعلة من نفسها الأفق الوحيد المتبقّي أمام البشرية. هو ذلك العالم الذي يمشي اليوم على رأسه بعكس منطق التاريخ وأبجديات الإنسانية المتهالكة قيمها، عالم يمشي على قدم واحدة ومن دون عكّاز؛ فالشعوب في مهب الجوع والفقر، مسيطر عليها من منظومة رأس المال المدعومة بأساطيلها وطائراتها وحروبها، ودول قيد التكوين بنُخب لا تعرف إلّا تسليم الأمر لصاحب الأمر المعروف السلوك والعنوان.
لقد سقطت البشرية في مأزق الفهم الملتبس لاتجاهات المصالح وتقاطعاتها، بين مركز وأطراف حيث أصبحت الهوّة بينهما سحيقة، وميادين الاشتباك متعدّدة ومتقاطعة. وعليه، فإن قضية التحرّر الوطني، سواء أكانت من رأسمالية متحكّمة أو تبعيّة أو هيمنة، يجب أن تكون أساساً في منطلقات النضال القائمة على كسر ذلك البؤس المتأتّي من نتائج أعمالهم، ولأنّ التحرير الوطني والمقاومة والمواجهة، مع أي احتلال أو نقيض طبقي أو اجتماعي، هي قضايا لا تحتمل الحلول الوسط فيها وهي لا تقبل التأويل أو المناورة. فالفقر والصراع الأبدي، بين من يملك ومن يحتاج، ليست حالة عابرة بل هي في جوهر الصراع الاجتماعي وأساس تكوين المقاربات الفكرية والنضالية التي يجب أن يرتكز عليها العمل اليومي، طالما أنّ الرؤية واضحة والمجال مفتوح. هي مسيرة قرن من الزمن، جاب الحزب من خلالها الساحات والميادين، منحازاً إلى فقراء العالم ولم يقف على الحياد؛ ناصب الاحتلال والهيمنة والتبعية كلّ العداء فكان مقاوماً، قاتل الفقر والحرمان فكان مواجهاً، رفض المذهبيّة والطائفية والمناطقية فكان وطنياً. لم يتعب ولم يهن. فالتموضع السياسي وخطابه المعلن يجب أن يبقيا الأرضية المناسبة لخوض معاركه السياسية والطبقية في وجه جشع رأس المال وعدوانية حامله، وأيضاً الممر الإلزامي لصوغ تحالفاته والنضال من أجل عالم مختلف عن السائد ونقيض له. فإعادة الاعتبار إلى الإنسان كقيمة أساسية في هذا العالم، ليست ضرورة فحسب، بل هي قناعة وهدف، يجب الذهاب باتجاههما بكل ما نملك من قوة؛ مهمة المواجهة، مع ذلك البؤس الرأسمالي التي تجسّده إمبريالية تزداد توحشاً وتوغلاً، ومع نظم سياسية تابعة، يجب أن تكون فعلاً واجباً لا لُبس فيه ولا التباس ولا حياد، وهكذا فقط، تتحدد الهوية النضالية وتعدو الرؤية أكثر وضوحاً.
سيبقى ذلك الحلم متواصلاً وإن كَثُر من حوله الحاقدون، ممن يرتزقون على فتات موائد الطوائف وزعاماتها. سيبقى شوكة جارحة في حلق من يعمل في العتمة متخفياً خدمة لأسياده لقاء حفنة من أموال، فيفتري ويكذب إرضاءً لصاحب السطوة والسلطان. كلُّ هؤلاء، الذين بكّروا في الفرار من المركب، حين لاحت لهم أموال الطوائف والمذاهب والسفارات، فانبروا لتمزيق التاريخ وتشويه الحاضر للتأثير على المستقبل الآتي؛ هؤلاء صبيان الزعامات المذهبية والأجهزة، وشهاداتهم معلّقة في رقابهم، يملؤون الشاشات ويتكاثرون كالفطر، فلا يصدر منهم وعنهم إلّا نعيق الغربان وهي تحوم على الفُتات. سيبقى ذلك الحلم عصياً عليهم، وسيكبر، وسيكون الحقيقة المستمرة التي تصدح نصرة للفقراء والمقهورين، مقاوماً وطنياً واضح الهوية والأهداف، أممياً لا تحدّه حدود مزارع الطوائف ولا مشاريعها، وسيبقى مناضلاً من أجل سعادة الشعوب الفقيرة قاطبة ومن أجل حريّة الأوطان، شاء من شاء وأبى من أبى؛ وفي السلام ختام لمن يعي القول ويفهم المآل، لعله يعود إلى الواقع، متخففاً من فوقية أعمت بصره وبصيرته، ومن فائض قوة وتنمّر لا لزوم لهما.
* عضو المكتب السياسي، مسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني