كأنّما تدفّق الأخبار التي «تتناتش» أرواحنا على مدار الساعة لا تكفي بما تفعله فينا، من غضب وتوتر وقلق وصداع، ومن تقلّص في قدراتنا لاستقراء الآتي لجهة مكافحة الفساد والفاسدين و«تمدين» وعصرنة نظامنا السياسي/ الطائفي المتخلّف، حتى بدأت أخبار هِبات الأغذية تتوالى لدعم جيشنا الوطني!هِبَات، ربما تكون الكلمة المُلطّفة لمفردة «الشحادة»، أو الاستجداء، أو أنها تُماثل لوي الأعناق ومدّ الأيادي، والتسربُل بـ«الشرشحة» استدراراً لعاطفة الجيوش في الدول الصديقة أوالحنونة.
آخر ما كان ليكون من أخبار نتوقعها، نتمالك أعصابنا كلّما حطّت طائرة، وعلى أجنحتها نبأ عن ما تحمله من أطنان مواد غذائية ــ أو أُعطيات ــ كهبات إلى جيشنا الوطني. نصمّ آذاننا كي لا نسمع النبأ، نكمّم أفواهنا منعاً لتقلّصات المعدة واسترجاع ما فيها. نغضّ الطّرف عن اسم الجهة المتبرّعة، أو الواهبة فلا نفلح...
ندقّق في تواريخ جيوش تلك البلدان، ونُقارن بينها وبين جيشنا الوطني الأبيّ، أصحاب الشرف والتضحية والوفاء. نغوص في حسابات الربح والخسارة، والمجاعة والصوم، لنتبيّن حقائق القدرة على التمنُّع عن قبول هذه الهبات/الأعطيات، ولوائح منتجاتها، ونهمس لأنفسنا بأن صوماً، أو حِمْية لربما تكون أمضى لكرامة جيشنا الباسل من وخزات تلك الهبات المتعددة البلدان والمعلّبات...
يتباهى عدد من المؤرّخين اللّبنانيّين بنقل أخبار المجاعة التي حلّت بالجيش العثماني إبّان الحرب العالمية الأولى، وما آلت إليه وجوههم الشاحبة وهم ينسحبون عوداً لديارهم... فهل نحن الآن في أيّام سفر برلك؟ في مجاعات شهدتها الدول التي عاشت الحروب وعانت ويلاتها، لم تكُن أولوية الشعوب ولا سيما جيوشها لقمة الطعام بديلاً من طعم العز ونكهة الصمود... كانت الأولوية في الحصول على أسلحة، وذخائر، ودعم لوجستي... أما الكرامة فتولد في الذات وتنمو ولا تؤخذ، أو تُعطى هِبات/ إكراميات...
نرجو، وفي حال كانت الأحوال أشد هولاً وبشاعة في عدم قدرة الدولة على إطعام جيشها، وتوفيراً لمنعته وعزته، نرجو أن يُصار إلى تطبيق «إذا بُليتم بالمعاصي فاستتروا».
فكيف لجيش أن يأكل ممّا لا يزرع ويُنتج وطنه؟ وكيف لعقيدة جيش أن تتعاظم وتتماسك وتقوى إذا لم تكن لوائح إمدادها الغذائي «صُنع في لبنان» ومجبول بتراب الوطن، وعرق الزنود المُتأهّبة... وكيف لمفردات النشيد الوطني أن يبقى لها معنى إذا بقي جيشنا الباسل يستجدي أطنان ــ تقل أو تكثر ــ حسب إمكانيات الدولة الواهبة؟! لنفترض أن أعاصير وعواصف أعاقت وصول الطائرات المحمّلة بهذه الشحنات للثكنات العسكرية؟! أو لنفترض أن إسرائيل العدو شنّت حرباً على السيادة الوطنية؟
نرجو ألا تترك هبات هذه الدول تأثيراتها على الولاءات والانتماءات... فلا تكون المواد التركية الصنع مخصّصة لأبناء منطقة معينة، ومثلها الأوروبية المصدر، أو العربية الخلطة... كما نرجو ألّا تُحدِث نقاشاً تفاضلياً بين أبناء المؤسسة الواحدة لدى استذواقهم منتجات هذه الدولة وتلك، فتذهب الآراء بعيداً!
أية مهزلة نعيش؟ وأيّة إهانات نبتلع مع وصول كل طائرة تحمل ــ الترويقة والغدا والعشا ــ لأفراد جيشنا الباسل؟! وأي تبرير لهذا الجوع، وهذا الخواء الروحي؟ أين السياديّين؟ وأين أصحاب المليارات؟، وأين المتفاخرين بالمؤونة اللبنانية؟ وأين الأدعياء من جماعات التغيير من الإن جي أوز، وأين الإحساس بالكرامة ولو على شفا أمعاء خاوية!
لترقدا بهناء أيها الأخوان رحباني، ولتجعل فيروز تلاوة فعل الندامة خبزها اليومي.
نحن خجلون بشدة ، وتعتصر الحرقة قلوبنا لهذا المسلسل من الإهانات...
زؤان بلادك ولا قمح الغريب! أم أن الغريب هو النازح واللاجئ والوافد لتأمين لقمة عياله بعرق جبينه وعنصرية بعض اللبنانيين؟!
* صحافية لبنانية