«سأكتب مقالاً ينهي ما تبقّى من حياتي الاجتماعية في بيروت».(عامر محسن لجمال غصن)

منذ فترة، كنت أستمع إلى حوارٍ بين إعلاميَّين. استمعت لأن أحدهما كان وسام سعادة، ووسام صديق قديم (كان رفيقي الحميم أيّام الجامعة، والطريف في الموضوع أنّه، يومها، كان هو اليساري الراديكالي وأنا كنت شبه ليبرالي. تخيّلوا أين أصبح وأين أصبحت). تكلّم الصحافيّان لفترة طويلة عن مفهوم «خروج المواطن من السياسة»، بمعنى أنّ «اللبناني»، منذ عامين، دخل السياسة حين أصابته آمال التغيير ونزل إلى الساحات وتظاهر، ثمّ عاد وانسحب حين خابت الآمال. وجدت نفسي هنا أفكّر: عمّن نتكلّم بالتحديد؟ عن «المواطن» أم عن أنفسنا؟ لأنك، إن ذهبت إلى القرى أو دخلت أحياء المدن، ستجد أنّ أكثر الناس في لبنان لم «ينسحبوا» من السياسة، بل أغلبهم لديه انتماءات وقناعات وولاءات، وعلاقات مع السياسي الذي يزورهم ويزورونه، وخدمات متبادلة. وهم غالباً يذهبون إلى التصويت في الانتخابات، وبحماسة. أنا ووسام قد لا ندخل في هذا المجال وهذه المسابقة لأنها ليست في صالحنا. نحن قادرون على تحقيق ذواتنا والتعبير عن أنفسنا بأشكال كثيرة، فيما السياسة «الفعلية» هي لعبة عدد لا تناسبنا. أمّا «المواطن» الحقيقي، فهو فيها يشعر بكيانه. أنّ له صوتاً ورأياً وعلاقة ما بالسلطة، وهناك فيها من يعرفه ويقدّره. هناك عمليّة سوسيولوجية كاملة تدور حول الموضوع ولا يمكن أن تفهم السياسة في لبنان من غير أن تفهمها. هناك من اعتبر أنّ الشباب «دخل في السياسة» عبر التظاهرات، كأن عشرات آلاف الشباب الذين انتظموا في المقاومة، مثلاً، ليسوا شباباً وهم «خارج السياسة».‬
Domestika ©

منذ سنتين، كنت أجد تناقضات بارزة في خطاب النخب، لكن لا أعرف أن أربطها ببعضها. ما معنى، مثلاً، أن تخوض «ثورة» ضدّ نظامٍ منتخب؟ في العقيدة الديمقراطية الليبرالية، أنت عادةً تخوض ثورة لكي تحصل على انتخابات. هنا تجد «ثوّاراً»، حين أقرأ برامجهم، أفهم منها شيئاً واحداً: أنهم يريدون، حرفياً، منع الشعب اللبناني عن التصويت. والمشكلة حين تنطلق من مقدّمات سيئة ليست فقط في أنك ستصل إلى خلاصات خاطئة، بل أنّك ستسجن نفسك فكريّاً، بمعنى أنك ستبني حججاً كلّ واحدة منها أسوأ من سابقتها التي بنيت عليها. وهنا نصل إلى مكان، أنا لا أمزح، يقول فيه إعلاميّ بكلّ جدّيّة (أو بـ«وجهٍ جالس» كما يقال بالإنكليزية) أنّ المعادلة في لبنان هي كالآتي: كلّ من في المجلس النيابي هو جزء من «النظام» وليست له شرعيّة ويجب أن يذهب، وأن يأتي مكانه أناس من خارج «المنظومة». بمعنى آخر، هو يقول، كل من تقدّم إلى الاقتراع الشعبي ونجح فيه وحصل على أصوات شعبية يجب أن «يجتثّ»، وكل من تقدّم إلى الانتخابات نفسها وخسر هو من يملك الشرعية ويجب أن يتسلّم الحكم.‬
ما وصلت إليه هو أن الرابط بين خطاب كل هذه المجموعات النخبوية، أو أيديولوجيتها الحقيقية، هو العداء للنّاس، بالمعنى العميق للكلمة، أي العداء للغالبية. «الغالبية» التي لا تشبهنا، الجموع «الجاهلة» التي تصوّت للحريري وبري وجنبلاط، يرونهم ككتلة واحدة. بل إنّ جزءاً من 17 تشرين، عند هؤلاء، كان بمثابة ثورة على هذه الغالبية، على الانتخابات ونتائجها، «لن نسمح لك بتقرير خياراتنا ومصيرنا أيتها الغالبية الجاهلة». وبعد «قلب النظام» تأتي الطروح من مختلف تيارات هذا الجو على النحو التالي: سلّموا الحكم لي ولرفاقي، اجلبوا حكومة تكنوقراط غير منتخبة، احضروا انتداباً أجنبياً، إلخ. الفكرة هي نفسها مع مختلف الخيارات، ألا نسمح للغالبية بالتقرير. وحين نتكلّم عن الغالبية، نستخدم تعابير كريهة راجت من نوع «محازبين» (كأنها شتيمة، وكأن التحزّب جريمة، وكأنّ كل الخيارات تشبه بعضها).‬
المشكلة هي أنني لم أصوّت في انتخابات في حياتي. وعند كل دورة انتخابية في لبنان كنت أكتب مقالاً أشرح فيه لماذا لا أصوّت، ولماذا أعتبر الانتخابات غير شرعية، وأدعو الناس لأن يحذوا حذوي. ولكن لم يستمع لي أحد، وكانت غالبية المقيمين في البلد تذهب إلى التصويت، وهو ما يجعل الانتخابات شرعية سواء أعجبني الأمر أم لم يعجبني (الطريف هو أنه، عند آخر دورة انتخابية، نشر ضدّي حزب «يساري» مقالاً من مليون كلمة - تخيّل أن يكون هناك مقال عنك ولا تكمله بقدر ما هو طويل وممل. ولكن هذه مسألة اعتدتها في لبنان: حين تهاجم اليميني بوضوح فلا يردّ عليك، بل يغضب حليفه «اليساري»، ويتولّى هو الرد). النظام في لبنان «تمثيلي»، بمعنى أنه لا توجد قوى سياسية كبيرة ممنوعة عن المشاركة أو لا تحصل على مقاعد حين تكون فوق حجم معيّن. بولا يعقوبيان أصبحت نائباً بـ 2500 صوت، وجمانة حداد كادت أن تصبح نائباً بـ 400.‬
موقفك من رأس المال هذا هو هويتك الحقيقية كناشط أو إعلامي أو مثقف. لا معنى لكلامك ضدّ «الأوليغارشية»، إن لم تأخذ موقفاً من رأس المال الغربي والخليجي الفاعل في صفوف النخب في لبنان


الفكرة هنا هي أنه لا مشكلة لديّ في أن تقول إنك لا تريد الديمقراطية، وأن الديمقراطية في لبنان لا تجلب سوى المحاصصة والفساد والكراهية الطائفية. أنك، ببساطة، معادٍ لليبرالية. سأستمع، أنا لستُ ليبرالياً بأي معنى من المعاني، لكن هنا يجب أن تشرح لي بوضوح ما تريده بديلاً. ما يحصل عند هؤلاء الناس في لبنان هو التالي: لا هم يريدون الليبرالية التمثيلية، ولا هم ولّدوا بديلاً معادٍ لليبرالية، فما يحصل هو أن خطابهم يعلق في المنزلة بين المنزلتين، أي الشعبوبة. «كلّهم فاسدون، كلّهم لصوص»، «الطبقة السياسية»، «المنظومة»، «يجب نزعهم كلّهم وتغيير كل شيء». هذا، بالمناسبة، ليس كلاماً سياسياً، وهو بالطبع ليس خطاباً ثورياً. بل هو ببساطة كلام شعبوي يُقال في كلّ مكان، وكلّ بلد، وفي كل زمن وظرف. سواء في إيطاليا أو في كينيا أو في الهند، ستجد دوماً جيراناً يجلسون تحت الدّرج ويقولون هذه الكلمات نفسها. ومن يستخدم هذا الخطاب الشعبوي في السياسة حول العالم؟ أناس مثل دونالد ترامب وحركة خمسة نجوم وأمثالهما. وهؤلاء اليمينيون يستخدمون الخطاب الشعبوي تحديداً لأن ليس فيه أي محتوى أيديولوجي، ويمكن توجيه البلهاء الذين يحملونه في أي اتجاه تريد. هذا ما قصده علي القادري حين كتب، مع بداية المظاهرات، أنه يسمع كلاماً عن الثورة ولكنه لا يرى أيديولوجيا ثوريّة.‬

عن السياسة «في مكانك»
هناك جملة أو لازمة تردّدت كثيراً منذ عام 2019، وتبنّاها العديد من الرفاق عن حُسن نيّة باعتبارها تبدو جذرية وثورية. الجملة تقول إن الأزمة الاقتصادية هي مجرّد «عارض» لمشكلة مركزية، هو النظام الفاسد الذي لا شرعية له. الحقيقة هي بعكس ذلك تماماً، النظام اللبناني تمثيلي و«شرعي» بالمعنى الديمقراطي، الأزمة الاقتصادية التي حلّت هي المشكلة، وهي ما يهدمه، ولو لم تكن هناك أزمة مالية لما كنا الآن هنا نتكلّم في هذا الموضوع من الأساس.‬
حين يقول بعض من شارك في التظاهرات إن الأحزاب التقليدية «ركبت على الثورة»، فهذا ليس تفسيراً. السؤال الحقيقي هنا هو «لماذا» تقرر هذه القوى أن «تركب الثورة»؟ لماذا يقرر رئيس حكومة ووليد جنبلاط وأركان النظام، أن يشاركوا في ثورة عليه؟ وماذا سيكسبون من ذلك؟ حين تدخل في السياسة وتحاول التأثير والتغيير، فإن من واجبك، حين يقوم خصمك بحركة ما، أن تفهم هدفه ونيته ومقاصده. وبالفعل، حين كنت أجول في الساحات عام 2019، لم أكن أرى «ثواراً» بقدر ما كنت أرى مستقبل وقوات وجنبلاطيين، فلماذا فعلوا ذلك؟ ألا يهمّك أن تفسّر أفعال الخصم وتبني عليها؟ أم أنّك «ثائر على باب الله» لا تعنيك هذه الأمور؟‬
حين تفكّر في الموضوع، أنت لن تجد إلا تفسيراً واحداً لما جرى (إلى جانب التنسيق الأميركي): ما يخيف الحريري وجنبلاط والمصرفيين والأثرياء هو ليس «ثورة» متلفزة، وكلام عن تغيير النظام ولبنان الجديد. ما يخيفهم حقاً هو أن يستيقظ الناس العاديون يوماً، ويذهبون إلى المصرف ليخبرهم بأن أموالهم ضاعت. صدمة من هذا النوع تولّد العنف الحقيقي، والعنف هنا لن يكون في الساحات وضدّ «النظام» بالمعنى النظري، بل سيكون موجهاً إلى قصور الأثرياء وأصحاب المصارف ومن حولهم. الجميع يعرف، منذ سنوات، أن هذه الأزمة قادمة، وهي ابتدأت فعلياً في صيف 2019. ولكن، حين تضع البلد في جوّ هيجان ومظاهرات وإقفال، وكلام على «إل بي سي» و«إم تي في» عن «الثورة» في كل يوم، تصبح الأزمة الاقتصادية حدثاً «جانبياً» مقابل الحدث المركزي. وحين تمّ «تبليغ» المواطن فكرة أن البلد أفلس وأمواله ضاعت وسط كل هذا الضجيج، ولم يحدث ردّ فعل، سحب هؤلاء ناسهم من الشارع ولم يعودوا يريدون ثورة.‬
أما عن النوادي النخبوية التي خرجت في تلك الفترة، فهي ليست حركات سياسية ولا يمكن أن تفهمها عبر دراستها كأحزاب، بل هي ـــ بتعبير الأمجد سلامة ـــ أقرب ما تكون إلى الفرق والطوائف الدينية الغريبة (cults) ومن هنا يمكن تحليلها: أناسٌ لديهم تعابير وطقوس مشتركة، يتمسكون بنظرية يعتبرونها حقيقة مطلقة لا يفهمها من هم خارج الدائرة، وباقي صفات الفرق التي من هذا النمط (حين درست في واشنطن، كان سكني يقع تماماً بجانب مركز ضخم لفرقة الـ scientology، ومنزل ملهم الفرقة ل. رون هبارد تحول إلى مزارٍ بجانبه، وجيراني هؤلاء كانوا غريبين لدرجة مخيفة، ولكن لطفاء للغاية).‬
هنا تجد ما هبّ ودبّ من أفكار سياسية. بعضهم يريد تغيير كامل الثقافة السياسية في لبنان، والبعض يريد تغيير المجتمع نفسه، والبعض الآخر يريد «إلغاء الطائفية». هذا البعض لا يفهم، على ما يبدو، أنه من المسائل التي لا يمكنك أن تتحكم بها هي كيفية تعريف الناس عن أنفسهم حين يدخلون المجال السياسي. هذه بديهية - إلا إن أردت أن تحكم على طريقة ستالين. ولا يوجد أيّ تناقض بين أن تكون هناك دولة ديمقراطية حقيقية وناجحة، ومواطنة وكل هذه الأمور، وبين أن تكون هناك هويات فئوية في المجتمع والسياسة. أميركا أقدم ديمقراطية في العالم وكلّ السياسة فيها تقوم على الهوية والطائفة واللون والإثنية. هولندا ديمقراطية عريقة مع تقليد قديم من العلمانية والتسامح. حتى أواسط القرن العشرين كانت ثلاثة أحزاب أساسية تتنافس في هولندا: حزب للكاثوليك وحزب للبروتستانت وحزب ليبرالي يؤيده أبناء المدن الساحلية (بعد ذلك اندمج الحزبان الأولان في حزب ديمقراطي مسيحي). أما حالة فرنسا من المواطنة العلمانية المعادية للدين والطوائف، فهي تتبع التطور التاريخي الخاص بها، ولا يمكن استنساخها ببساطة. وهذا التطور التاريخي، بالمناسبة، أساسه أن أوروبا الغربية مرت بمراحل تطهير ديني وحروب وفصل أنتج فرنسا كبلد كاثوليكي بالكامل. من هنا كان يمكن أن تعادي الكنيسة من غير أن يأخذ الأمر صيغةً طائفية أو حالة اضطهاد.

حتى لو كانت المعارضات زائفة أو سيئة أو عميلة، فهذا لا يغيّر واقع أن هناك أسباباً عميقة للاعتراض، وهي في دول مثل روسيا ولبنان ستزداد مع مرور الزّمن


علينا في لبنان أن نقتل غالبية الشعب أولاً قبل أن نتكلّم عن هذا الشكل من الـ Laïcité. هناك أيضاً من يريد تغيير البلد بالكامل، على طريقته ومن دون أيّ شرعية شعبية، و«إلغاء الطائفية»، ثم «يسمح» بعدها للشعب بالتصويت، حين يصبح شعباً جديداً. هذه، بالمناسبة، كانت نظرة الأنظمة العسكرية إلى الديمقراطية. النظام الناصري لم يعتبر أن الحكم العسكري سيستمر إلى الأبد، بل كان يقول بوضوح إنه، في النهاية، ستكون هناك ديمقراطية وانتخابات وأحزاب تتنافس، ولكن الشعب والمجتمع ليسا «جاهزين» بعد لهذه المرحلة.‬
كما يقول ميشال فوكو، فإن السياسة تبدأ من حولك، بمعنى أن موقفك في المكان الذي أنت فيه (مهنياً، شخصياً، عائلياً، إلخ) هو ما يحدّد «سياستك» وليس موقفك من فيتنام. والفاعل الأساسي في صفوف النخبة في لبنان ليس «النظام» بل رأس المال، رأس المال الغربي والخليجي تحديداً. موقفك من رأس المال هذا هو هويتك الحقيقية كناشط أو إعلامي أو مثقف، والباقي كلام. لا معنى ألّا تأخذ موقفاً واضحاً من هذه الأمور ثم تتكلم ضدّ «الأوليغارشيّة»... والأوليغارشيّة، تبيّن لاحقاً، هي ليست أميركا ولا السعودية ولا الإمارات ولا المنظمات المتموّلة ولا حتّى أثرياء محددين ولهم أسماء. المفارقة هنا هو أن العديد من هؤلاء الناشطين قد تحرّر من «المنظومة»، ويقدر على الثورة عليها تحديداً بفضل رأس المال هذا، الذي جعلهم بغير حاجة إليها - وإلا لرأينا الكثيرين منهم يقفون مع قوى الأمن ويضربون المعترضين في الشوارع. قطر حرّرتهم من المنظومة. لهذا السبب تجد العديد من النخبويين يتكلم طوال الوقت في السياسة من غير أن ينبس ببنت شفة عن رأس المال الغربي والخليجي، الذي اشتراه واشترى أغلب جوّه ورفاقه - ولكنه شديد الجرأة ضدّ أسعد أبو خليل.‬

لن يسرقوه مهما حصل
‬هناك كاتب روسي اسمه ألكسي سخنين. هو يساري وينتقد، في آن، الحكومات في بلاده ومحيطها ومعارضاتها الليبرالية. يعطي سخنين مثالاً عن روسيا البيضاء يشبه في وجهٍ من أوجهه ما جرى في لبنان. في بيلاروسيا كانت كلّ الظروف مثالية لثورة: لديك نظام سلطوي، لديك أزمة اقتصادية عميقة، لديك دولة رعاية بدأت بالانسحاب من المجتمع، وحكومة تعاملت مع الاعتراض بغباءٍ وقسوة، جعلت العديد من مؤيدي الدولة يتعاطفون مع المتظاهرين ويشاركون في التظاهرات. رغم ذلك كلّه، خفتت وتيرة التظاهرات بعد أشهر، ومع أن فئات اجتماعية جديدة انضمت إلى حركة المعارضة، فإن الكتل الأكبر والأصلب (كالعمال الصناعيين) لم يشدّها خطاب النخب المدينية وظلّت مع الدولة أو على الحياد. لماذا انطفأت التظاهرات؟ وإن لم تسمح كل تلك الظروف بحركة شعبية لها زخمٌ ناجح، فمتى يحصل ذلك؟ على عكس العديد من المنظّرين اللبنانيين، سخنين لا يضع اللوم على «الناس»، بل يعتبر أن الخلل هو في المعارضة وخطابها. هذه المعارضات، يقول الكاتب الروسي، قد تقف في وجه دولةٍ ظالمة بحقّ، وقد يجد خطابها الشعبوي صدى عند العديد من الناس، ولكنها لن تتمكّن من جذب الطبقات الشعبية وخلق حركة جماهيرية تدوم. السبب هنا بسيط، هو أنّ هذه المعارضات، سواء في روسيا أو في بيلاروسيا أو في لبنان، لا تقدّم لهؤلاء النّاس أي مشروع اجتماعي حقيقي. جلّ مشروعهم هو أن يحكموا هم.‬
ولكن، من الجانب الآخر، وحتى لو كانت المعارضات زائفة أو سيئة أو عميلة، فإن هذا لا يغيّر واقع أن هناك أسباباً عميقة للاعتراض، وهي في دول مثل روسيا ولبنان ستزداد مع مرور الزّمن. هنا، يمكنك التفكير في عدّة حلول، يكتب سخنين، ولكن ما لا يمكنك فعله، على المدى البعيد، هو أن تطلب من الناس تأييد هذه الدولة ونظامها، فأنت بذلك تطلب من الإنسان أن يقف مع كيانٍ يحكم عليه بالإفقار.‬
في هذه الأثناء، فإن قوى الحلف الأميركي في لبنان، التي «ركبت على الثورة»، لا يهمّها إلا موضوع وحيد وعملي: أن تحصل الانتخابات القادمة ويحصدوا نوّاباً إضافيين ويقلبوا الغالبية لصالحهم؛ وهنا تبتدئ المرحلة الثانية - السياسية - من الحرب على المقاومة. هذا كلّ ما يهمهم من كلّ ما جرى في الفترة الماضية. وصديقي الذي جلس بجانبي في ساحة صيدا أول أيام تشرين، وهو مصرفي، ومناصر للحريري، ويقف مع أناس يهتفون ضدّ «حكم المصرف»، قال لي ببساطة: «كل ما يهمني أن يخسر عون قليلاً»، وهو كان أبعد نظراً وأكثر فهماً للسياسة من الكثير من الناشطين المحترفين.‬
‬هذه ليست المرّة الأولى التي يحاولون فيها سرقة لبنان. وبقيادة أناسٍ مثل جعجع، يمكنك أن تفترض أنّ الأسوأ سيحصل. صغت قواعد قليلة، أعتبرها جوهريّة، منذ جئت وعملت في لبنان. القاعدة الثانية بينها تقول ما معناه أن تفترض دائماً أسوأ النيّات، إيّاك أن تفترض حسن النيّة. البارانويا هنا ضرورية. حين تكون في شكٍّ اذهب دائماً إلى أسوأ تفسير ممكن. المشكلة هي أنّ هؤلاء المساكين، أي الحلف الأميركي ومن يحيط به ويغطّيه، سواء عن قصدٍ أو غير قصد، لا يعرفون ما سيحصل لهم. البلد ليس لنا، لكنهم لن يسرقوه في غفلة. مهما حصل، ولو نزلت السماء على الأرض، هم لن يسرقوه. ومعنا سلاح المقاومة، ومعنا إيران، وأبناء قاسم سليماني. كلّ هذه الأمور التي يمقتونها باقية ولن تذهب إلى مكان، ونحن لن نذهب إلى مكان.‬

‬* كاتب لبناني من أسرة «الأخبار»‬