أبدأ من حكاية عادية...في مخيم درعا الذي ولدت فيه، كان كل شيء يبدو قريباً وصغيراً، كأسطح البيوت الطينية هناك حيث النباتات تطلع وحدها من دون حراسة وأبناء جيلي يكبرون بفعل الشمس والعصيان والحرمان والذاكرة واكتشاف الغرائب في الحكايات.
كان يقال لنا إن فلسطين وراء التلال فنشعر بالرهبة... المدينة المسحورة ذات البساتين التي تشبه الرسوم الملونة على دفاتر الرسم المدرسية وراء التلال. أجلس بعد الغروب على خزان الماء القريب من بيتنا.

انظر من هناك إلى مغامرة الطبيعة في إنهاء يوم آخر، وأتخيل أن كل شيء سيتغير، كل ألم سيزول، ما إن تقترب التلال... ربما يحدث ذلك في الصباح.
في أيام البؤس الحالم تلك قبل حوالى أربعين عاماً، عرفت الصورة الأخيرة للعجوز الفلسطيني الذي لم يفارق خيالي طيلة عقود، كلما استدعى شيء اسم فلسطين وحلم العودة إليها... فمن نافذة بيت الجيران الواطئة الغائصة في العشب رأيت جسداً قصيراً ميتاً ملفوفاً بشرشف موشم بمربعات زرقاء، وقد جلست حوله نسوة واجمات... ويومها زجرني صوت أخي: «لا تنظر إلى الميت، ستراه في حلمك شبحاً!».
كان وحيداً في أعوامه الأخيرة، مريضاً بشتات الزهايمر الذي توطن رأسه، وبوحشة ثمانين عاماً من العمر وبقرية قرب حيفا. آنذاك فقد الرجل كل الذكريات القريبة، لكن رأسه المثقلة التي لم تفارقها الكوفية البيضاء والعقال، ظلت تحتفظ بما اختزنته من وقائع حياته في فلسطين. ذابت كل صور الشتات والمنفى، انسلت من عالمه بهدوء، وبقيت كل الوجوه والأسماء والمشاهد والوقائع ما قبل الخروج من البلاد لكأنها آخر مشهد تخيطه اللفتة الأخيرة على عين القتيل.
لكن أقسى ما كان يحدث في الحكاية هو أن ذلك العجوز أصبح بفعل مرضه أسيراً لصوت همس ملون يناديه كل غروب، فيصيبه بحنين أكثر كلفة من حال أهل مخيمنا في تلك الأيام. عالمه الضبابي كان يشكل لخياله التعب وهماً أليفاً، يدعوه للعودة إلى قريته الكرملية قبل أن يحل الظلام، فيندفع كل مساء راكضاً باتجاه الغرب حيث فلسطين التي تُحَس ولا ترى. وحين يستوقفه شخص ما محاولاً انتشاله من وهمه، كان يقول له مستعطفاً: أنا ذاهب إلى هناك... إلى البلاد. الليل يقلق الأهل على غيابي.

***


تلك هي الصورة الأصل في الرواية الفلسطينية منذ النكبة: لا شيء في الشتات يمكنه أن يمحو حلم العودة. لكن الفكرة في المقابل، ستبدو بائسة إلى حد بعيد لو كان هناك من سيستخدم صورة ذلك العجوز الفلسطيني لمزيد من زراعة الوهم أو بكلمة أخرى إخفاء الصورة الأوسع الآن على حائط الذكرى السادسة والستين للنكبة الفلسطينية... نعم، ليس جديراً بالذكرى السادسة والستين للنكبة الفلسطينية اليوم، أن تكون مساحة لدموع الحنين إلى الأرض واستعادة ذكريات البرتقال والزيتون والبيوت الفلسطينية التي هدمها الاحتلال أو المجازر التي ارتكبها على تلك الأرض وفي جنباتها. لقد سئمنا ذلك إن كان سيخفي عورات وخيانات في الوجدان والسياسة. ما تستحقه ذاكرة النكبة الآن هو أن نرفع الأوراق الأخرى عن الجرح، عن النكبات الكثيرة التي تأتي ذكرى النكبة لتصادفها في الحال الفلسطيني والعربي في سنوات عربية عجاف يتمنى المرء لو أنه لم يشهدها.
بعد ستة وستين عاماً على نكبة فلسطين، يتسع في الهباء العربي اليوم تيار من يعتقدون أن النهايات السعيدة لدرب الآلام العربي تقتضي استبعاد فلسطين من لوحة المستقبل السعيد والتسليم بأنها كانت الصخرة العاتية التي طالما دفعها العرب إلى أعلى الجبل من دون جدوى، فكانت كل أحزانهم وخرائبهم جراء لعنتها. فاستحضروا للفلسطيني لعنة دائمة تعامل قضيته كعبء وتعامله شخصياً كوباء... تقفل الحدود في وجهه وتعلن نفير الطوارئ الوطني ما إن يتم العثور على ظله في المطارات او المرافئ العربية.

أضحت الواقعية
السياسية الجديدة تفاخراً باعتمار القبعة اليهودية فعلاً أو موقفاً


في عرف الكثرة العربية هذه الأيام، لم يعد الصهيوني عدواً. لم يعد الاحتلال مشكلة. وأضحت الواقعية السياسية الجديدة تفاخراً باعتمار القبعة اليهودية فعلاً أو موقفاً. ثمة هباء عربي بواقع يسخر مما كان يوماً ثوابت محورها فلسطين. ثم إن التآمر على فلسطين معلن صريح هذه المرة كما لم يكن من قبل. أما العلاقات مع الصهاينة فلم تعد تحرج أحداً. وقد ابتدعت السياسات العربية أهدافاً جديدة وأعداء جدداً وجامعة دول عربية ومؤسسات مثيلة تتلاءم مع التحول الكبير. وبات من اللزوميات في عرف الانتلجنسيا العربية الجديدة، المسارعة للظهور على شاشات الخليج والغرب للحديث عن العلاقات الممتازة والمصالح المشتركة مع الكيان الصهيوني ورموزه في العالم... فتلك ثقافة المرحلة العربية الراهنة... ثقافة الألمعية السياسية وقدرة الأجساد على الرقص في العري السياسي الماثل.
بعد ستة وستين عاماً على النكبة، هناك ركام عملاق من النكبات، ففي اليباب العربي مئات النسخ من «البسوس» و«داحس والغبراء»... غساسنة ومناذرة، وممالك الطوائف التي تستطيب استقدام الأجنبي والاستقواء به في الشقاق العربي بل واستخذاء (أو قل استحذاء) نفسها أداةً لمشاريعه وحساباته الاستراتيجية و«أمن إسرائيل المقدس». وفوق ذلك لم يعد إخفاء العفن السياسي العربي ضرورياً ولم يعد مخجلاً لأصحابه. انتهت لعبة الأقنعة.
وفي اليباب العربي لا تُسقط فلسطين فقط، وإنما الفلسطيني أيضاً. فالقصة الفلسطينية في المخيمات وعلى الحدود العربية هي ميراث يتراكم. صفات المواطن أو المقيم في أدنى الأحوال، يمكن أن تنطبق على الكلاب والدجاج والنمل والنحل والطيور والذباب إلا أنها لا تلائم الفلسطيني. (سوريا في هذا هي الاستثناء الوحيد)... تشعر على الحدود العربية أن هناك نوعاً من الحقد المستدام على مسبب الخطيئة العربية الأولى، وأن القرارات التي تتخذ في المطارات والحدود والمجتمعات العربية الطاردة تحاول أن تصرخ في وجه الفلسطيني قائلة: لقد أدمينا بسبب نكبتك فارحل أو مت أو تلاشى.
لكن تهشيم القضية الفلسطينية والمشروع الوطني الفلسطيني هو الأخطر على جداري اليباب العربي الآن... فتح لهيب «ربيع» الشرق وعلى امتداد أكثر من ثلاثة أعوام، يتواصل دفع الفلسطيني – بقوة اليأس أو الحصار أو الايهام - إلى اتجاهات أخرى كلها تبتعد عن فلسطين. يصل الأمر إلى أن تنظم تظاهرات في مخيمات لبنان تطالب بالسماح للفلسطينيين بالهجرة بعيداً، تستباح المخيمات في سوريا. ثمة من فطنوا إلى أن كتلة اللاجئين الفلسطينيين الأكثر تماسكاً وأثراً في البقاء على خط حق العودة في لبنان وسوريا أضحت في متناول مخطط التفتيت في هذه اللحظة الذهبية من الخراب العربي. وفي سوريا تحديداً تتجسد صورة مماثلة لما حدث لفلسطينيي العراق بعد الاحتلال الأميركي، ومشهد مصغر عن تغريبة النكبة عام 1948... ومن أسفٍ أن كثيرين ومن بينهم قوى فلسطينية شاركوا في إخفاء معالم الجريمة وإطلاق المواقف والتصريحات وتدعيم التغطيات الإعلامية التي زورت حقائق أساسية ومجدت الفاعلين بدلاً من أن ترجمهم.
وهكذا ومن بوابات اليباب العربي ذاته يعاد تجسيد حكاية «رجال في الشمس» للراحل غسان كنفاني، بوسائل أخرى، عائلات في البحر، لا في الشمس هذه المرة، ترحل الى ابعد مهاجر العالم، على قوارب من جليد، وكثيراً ما تنتهي الى حتفها مع أطفالها وأحلامها بملاذ آمن، في قعر المتوسط.
يحدث كل ذلك متقابلاً مع صور لليباب الفلسطيني المتعاظم في البيت المتداعي ما بين رام الله وغزة والشتات.
في الصورة الأولى، رام الله الرسمية ما زالت تعتقد أن السياسة الواقعية تتطلب نحر الحلم والذاكرة، ولا بد من رحيل غجري سعيد بلا هوية إلى المفاوضات ولو تعثرت الآن. فالذاكرة والحلم مفردتان تتكرران في القصائد (حديث شعر لا سياسة)، تلك هي الإجابة الألمعية التي تُستدرج لامتداح «بطولة» التنازلات والسخرية من الحق التاريخي الفلسطيني الكامل بوصفه أضغاث شعر أو حماقة للمخيلة.
وما زال السياسي الفلسطيني ذاك غير قادر على أن يفهم معنى إبقاء قوة المثال ولو بلا انتصارات، على النحو المعروف عن تسمية الانتصار. ومن حسن طالع الرئيس الفلسطيني أنه وجنرالاته لا يحبون الشعر، وهم كسياسيين حديثين جداً وواقعيين جداً يحلمون بطريقتهم، بحساباتهم الواقعية التي لا تستميلها فتنة العاطفة وحنين العودة إلى فلسطين 48، اللهم إلا كسياح في أفضل الأحوال، وفق تصور الاحلام المعقولة والواقعية للسيد محمود عباس.
على الضفة الاخرى في اليباب الفلسطيني، في ذكرى النكبة 66، لا شيء تغير في صورة الفصائل الفلسطينية. وباستثناءات محدودة، هناك مشهد كارثي: فصائل تعيش بالباقي من ظلال ماضيها، فصائل اسمية بتعداد موظفي مكتب صغير مع إشارة مفخمة في نشرة الأخبار، فصائل مهرجانات، فصائل مناسبات، وأخرى حرفت بوصلتها إذ اعتقدت أن الرياح السياسية مواتية فلم يكن لديها مانع من تغيير جبهة الأصدقاء والأعداء وتغيير التعريفات وامتداح النفط... «فصائل تحرير» لا تبدو قادرة على تحرير حارة من مخيم صغير. فصائل «تاريخية» أخرى تبحث عن ثغرات وفوائد تنظيمية في الحريق الناشب وتجد فيه فرصة قبس من النار يكفي لطهو مزايدات ومواقف متعفنة.
في ذكرى النكبة الفلسطينية اليوم أيضاً توابع للمأساة منها قصة المصالحة الفلسطينية. ففي هذه المهزلة ثمة فصيلان فلسطينيان يمنحان لنفسيهما احتكار الحاضر والمستقبل الفلسطيني، مع أن المقاومة مستثناة من أعرافهما. بيد أن الكارثة تتواصل أمام أنظار الفلسطينيين المحاصرين بكل أنواع الغزاة والتشريد، ويستمر الطرفان ما بين غزة والضفة بتقاسم الجيفة المتعفنة التي تركها وأوسلو في دكان السياسة الفلسطينية وديعةً للافتراق ولعنة مستمرة لإبقاء وجه النهاية صهيونياً.
لا شيء سوى الشعار، ومهارات التنافس على تمثيل فلسطين الذبيحة... ضاعت الطريق وضاعت البلاد وضاعت المعركة وليس ثمة من يجيب على مرارة التساؤل أو أسباب استمرار دورة العبث الجهنمية هذه... بم نحتفل اذن في الذكرى 66 للنكبة؟ حتى الآن لنا على الأقل صورة واحدة نظيفة تليق بالاحتفال. صورة لأمثال ذلك العجوز الفلسطيني الذي لم يستطع شتات ذهنه المتقدم في العمر أن ينتزع فلسطين وسحر المخيلة من أيامه الأخيرة.
قيل لنا حين كنا صغاراً لا تنظروا إليه ميتاً كي لا تروه في أحلامكم شبحاً... لكننا لم نمتثل. والآن رغم كل هذا الحصار، نود أن نراه ولو شبحاً.
* كاتب وشاعر فلسطيني