سرد المؤلف في الفصول اللّاحقة ما يُمكن تسميته بالحياة الداخلية للحزب، وتطورات مواقفه العملية، والأبرز فيها العداء المستفحل بين حزبه والشيوعيّين، الذين تقدّموا الصفوف السياسيّة بعد ثورة تموز/ يوليو 1958 في العراق. كما أشار إلى الصراعات داخل قيادات الحزب نفسه، بين خطّين أصبحا في ظروفهما تلك متوازيَين، بين خطّ مدني وخط عسكري، والتنافس بينهما من جانب، وداخل الخط المدني لتسنم أمانة سر الحزب من جانب آخر، وتطوّر الصراعات فيما بعد إلى انقسام أو انشطار حزبي، بين يمين ويسار، لكلّ خطابه وبرنامجه ومسمّياته. ممّا يعكس طبيعة «عربية» في إدارة الصراعات والأحزاب والسياسة والحركة الوطنية عموماً في العراق وأغلب البلدان العربية. تتّسم بحدّة الصراع وتناسي المصير المشترك والتّحديات الحاسمة، وتجاوز الأهداف والعقيدة السياسية والانتماء الحزبي، بل تصل إلى حدود التآمر والانقلاب والتصفيات الجسدية والنفسية. ولعله من موقعه كشف الغطاء عن «أسرار» حزبية داخلية، بين الأمين القطري ومؤسس الحزب، أمين القيادة القومية، وبين الأمين القطري الذي قاد الحزب والسابق له، أو بين أعضاء القيادة أنفسهم، والوصول إلى «مصالح شخصية ولعلها انتقامية سرعان ما اجتاحت وتسلّلت إلى القيادة القطرية» (ص 128). وذكر مع تساؤل، «هكذا لا يخلو رفاق الحزب والعقيدة الواحدة من صراع وانتقام فيما بينهم وهم على أبواب النضال، ولكن ما بالك حينما يوجّه الرفاق صراعهم نحو خصم يُخالفهم في السياسة والعقيدة؟!»(ص129). هذه اللقطات عن الحياة الحزبية والمشهد السياسي في العراق في ظروف صراعات دولية محيطة به، قدّمت للقوى الاستعمارية مدخلاً إلى الاختراق والتدخّل ورسم مخطّطات تخدم مصالحها على حساب مصالح الشعب والأمة.وهو ما حصل فعلاً بعد 8 شباط/ فبراير 1963 والمجازر الوحشيّة التي ارتُكبت في البلاد. وأشار المحرّر إلى مصادر عديدة تدلّ عليها، ومنها استنطق المؤلّف عنها، والتي كانت وما زالت وصمة ليس من السهل نسيانها، مهما كانت أحابيل السياسة ومتغيّراتها. حيث أن ما حصل كان «عهداً مأساوياً آخر سيغرق العراق فيه بحمّام من الدم، ويختلط فيه الحابل بالنابل» (ص 148). واختصر الوضع الجديد بما اصطُلح عليه بدور القطار الأميركي والسفارة البريطانية، وببيان رقم 13 لإبادة الشيوعيّين العراقيّين. وهو ما حصل من مجازر وقصص تعذيب تفضح سادية ووحشية لا مثيل لها عند البشر الطبيعيين. «ويبدو أن موافقة البعثيّين المدنيّين على بيان (13) لم تكن في الوقت المناسب، وكانت على جانب كبير من الخطأ السياسي القاتل، إذ لم تقدّر عواقبه الوخيمة على الحزب وعلى المجتمع العراقي، كلّنا نتحمّل نتائجه، أو أنهم لم يكونوا متوقّعين ما سيحصل من مجازر بحق الشيوعيّين العراقيّين (ص153). وشهادة المؤلّف هنا واستمراره في الاعتراف والاعتذار عمّا ارتكب وشاهده بنفسه، والإقرار بتحمّل المسؤولية عنه مع قيادة الحزب، شهادة إثبات ودليل صريح، على ما حدث وحصل وما وصم الحزب والفترة الزمنية وما أدى إلى النتائج التي خلطت الحابل بالنابل، حسب وصفه.
والمهم في سياق ما حملته الفصول التالية هو دفاعه الفردي وتوضيحه لدوره وموقعه من المجازر والجرائم التاريخية التي لا يتنكر لها، ولعلّه هنا أو في دوره يعرض شهادته للتاريخ ويرد على وجود اسمه فيها وربما وضع من أطراف داخلية عملت معه قبل أطراف الضحايا، من الشيوعيّين وكتابهم كما يحاول ذلك في تعقيباته وسرده. وكالعادة أيضاً يُحاول كسارد للذكريات طرح أراء متناقضة مع واقعها، أو تسريب معلومات غير متطابقة مع وقائع الأحداث المأساوية التي مرّت على الشعب العراقي. والمهم هو اعترافه بها، وليس بالضرورة الموافقة معه حولها، حيث تبقى شهادة له وعليه.
وتدل قضية الشهيد سلام عادل، (حسين أحمد الرضي الموسوي، سكرتير عام الحزب الشيوعي العراقي)، وإعدامه بالطريقة التي عرفها العالم، تعذيباً وتقطيعاً، على نهج القيادة أو المتنفّذين فيها، وما حدث في العراق من وراء حكمها، وهو ما أدانه المؤلف بعد أن وضّح موقعه المتهم به في القضية، ورد على «الاتهامات» و«الروايات الخيالية» التي سمّاها عنه. ولكنه كتب، ما يفضح أموراً خطيرة، لها دلالاتها السياسية، محمّلة بوقائع دامغة، وهو القيادي في الحزب والسلطة، و«شهادتي للتاريخ أقول، إني رأيت سلام عادل مرة واحدة في المعتقل ولمدة لا تزيد على خمس دقائق في ليلة 23 شباط، ولم تكن حالته تسمح بإجراء حديث معه، ولم أره غير هذه الدقائق المعدودة. لقد رأيته وهو جالس على كرسي في أحد ممرات قصر النهاية للقاء حازم جواد ليحقّق معه، ولا أنكر أنه كان في حالة يُرثى لها نتيجة التعذيب القاسي الذي لقيه، وأنه تحمّل بشجاعة فائقة شتى أنواع التعذيب، وفيما بعد سمعت أنه تمت تصفيته تحت التعذيب مساء يوم 23 شباط، ولم يُعدم (ص157 ). فهل هذه الصور التي عرضها روايات خيالية؟!. رغم أنه في الأخير يُقرّ بمسؤوليته وغيره من أعضاء القيادة بما حلّ في حكم العراق. «على أية حال، أنا عن نفسي أُدين وبشدة مرحلة 8 شباط 1963، وأعترف أن طيش الشباب ذهب بالبعثيّين إلى أقصى حد من التهور وانتهاك الحرمات وسلب الناس حرياتهم وأرواحهم ليس لشيء سوى أنهم عارضوا الحكم وسلطة البعث. واعترف أننا البعثيون لم نقدّم للعراق الخير والتقدم المنشود لبناء وطن مزدهر وحياة كريمة لأهله» (ص166 ). ولعلّ المؤلّف فيما اعترف به من مجازر وارتكابات لا إنسانية يبيّن فيها صحة الوقائع والحقائق التي وسمت تلك الفترة، بحيث بدأت حتى المفردات غير كافية عنده. «وأُكرر، مهما قلت من مفردات النقد والإدانة فإنها لا تكفي عما في داخلي. مع ذلك وبكل ثقة وقناعة أقول بأني أُدين بقوة كل السلوكيات الوحشية التي ألزمت أحداث 1963، وأستنكر بشدة العنف الذي رافقها، والدماء التي سالت، وأُريقت تحت عنوانات واهية لا قيمة لها إزاء حياة الإنسان وكرامته التي أعزه الله بها (ص181).
بالتأكيد تسجّل هذه الاعترافات والإدانات لتلك الفترة الصعبة في تاريخ العراق لشخصية المؤلف، يسجلها باسمه ويُعلنها بكتاب، وهو يخطو في عقده التاسع من العمر، ويُثبت فيها رأياً جريئاً وموقفاً خبرته التجربة ومسارات الحياة، ويُقدّم في الوقت نفسه دعوة لرفاقه (من بقي حياً أو من يسجّل عنهم ما لم يُنشر بعد) في تلك الفترة وما تلاها أن يشهدوا للتاريخ والأجيال، للشعب والوطن، بضمير حي ومسؤولية إنسانية، قبل فوات الأوان.
حاول الكاتب في مذكراته «التطهر» مما ارتكبه حزبه، وتحمل المسؤولية بحكم موقعه عما حل بالشعب والبلاد، وعمّا حصل في تاريخ الحزب والعراق أيضاً


توسّع المؤلّف محمود الشيخ راضي، في سرده لتجربة الحزب في الحكم، وفشلها في الاستمرار وطرح أرائه في طبيعتها وأسباب ما آلت إليه، كاشفاً، ربّما أكثر من غيره، أو من البعثيّين القلائل، كما وصفه المحرّر الأسباب والنتائج. فرأى بان فشل التجربة في سياق ظروفها التاريخية، تعود إلى العمر الزمني للحزبيّين، «فقد كنّا شباباً نفتقر إلى ركائز فكرية عميقة في شؤون الحكم والإدارة، فوضعنا جهدنا في مسك السلطة على قوانا الجسدية وتمتين تنظيماتنا الحزبية الخاوية من أفكار بناء الدولة، ولم نعتمد على ملكاتنا العقلية» (ص188). وإضافة إلى نهج مُدان في القمع والتعذيب والتنكيل والتصفيات الجسدية، اتّسعت رقعة الخلافات الداخلية، وسط القيادة الحزبية، المدنيّة والعسكرية، كما سماه، الصراع البعثي - البعثي، وفي أجوائه فُتحت «جبهة صراع أخرى من أَجل البقاء وإثبات وجودنا عندما استدرنا بقوة باتجاه الحلفاء القوميّين النّاصريّين ومع عبد الناصر نفسه، ومع الأكراد حلفاء الأمس. وهكذا تراكمت العلاقات السلبية مع بقية القوى الأخرى، وتفاقمت الأوضاع حتى صار الحزب يمرّ في وسط رياح عاتية مزّقته شرّ ممزّق، ممّا عكس حالة من الفوضى لم يُشهد لها مثيل في تاريخ العراق السياسي(ص188-189) ووضع تقييمه الذي أثاره داخل القيادة لتلك المرحلة مشيراً فيه إلى ضعف مستوى القيادة في مواجهة التحديات السياسية، وزاد الأمر تحول نصف قيادة الحزب إلى رجال سلطة وهم غير مؤهّلين لقيادة وإدارة الحكم، وأضاف نقطتين مهمتين، وفق تقديره، حذّر منهما الحزب، الأولى خطورة التحالف مع العسكريين، والثانية كنت أعتقد أن الحزب بحجم أعضائه الشباب من طلاب الثانويات والكليات غير قادر على تحمل أعباء حكم الدولة ومؤسساتها. (ص193-192) مع الاقتناع بتصور أن «هناك دعماً ما، وظرفاً دولياً وقف وراء صعود البعث وعجل باستلامه للسلطة. ففي ليلة وضحاها تحول البعث بقيادة مجموعة من الشباب، وبإمكانيات عسكرية تسليحية محدودة، من حزب سرّي مطارد إلى تجاوز عدد المنتمين إليه، بتقدير إحصائي متحيّز، عشرة آلاف عضو أو أكثر مع مؤيّديه وأصدقائه، إلى حزب علني يحكم دولة حديثة مضى على تأسيسها الحديث اثنان وأربعون عاماً حتى يوم قيام حركة شباط (ص193).وهذا اعتراف داخلي بكل ما كان عليه الحزب، من ضعف وصراعات وارتباطات مشبوهة، أدت كلها لفترة صعبة وقاسية على الشعب وفي التاريخ السياسي. وظلّت طيلة الأشهر السبعة تمارس الحكم بوحشية لم يجد نفسه الآن إلا أمام إدانتها، ويُريد أن يُبيّن للتاريخ مواقف لرفاقه في تلك الفترة، كعلي صالح السعدي أو هاني الفكيكي أو أبو طالب الهاشمي... و«شهادتي للتاريخ أقول، لا أريد أن أُدين الحزب وقيادته، فحسب، بوصفها تتحمل مسؤولية الجرائم المرتكبة بحق الشيوعيّين وغير الشيوعيّين، إنما أُدين نفسي لأني كنت جزءاً من قيادة الحزب والنظام، ولم أستطع وقف حمّامات الدم، رغم أني وبعض القادة المدنيّين في الحزب لم نكن قادرين على كبح جماح الثأر والانتقام التي مارسها المتحزّبون في البعث والجناح العسكري المسيطر على الأجهزة الأمنية واللجان التحقيقية.(ص203) وبعد كل ما ذكره، «ينتقد» «اهتمامات كيدية وحقداً موجهاً ضده»، من ضحايا ما اعترف به وأدانه (ص 208). هو ومجموعته المحسوبة على، علي صالح السعدي كانوا يعيشون تحت ضغوط داخلية، تدخلت فيها القيادة القومية وأمينها ميشيل عفلق، الذي اصطف مع البعثيّين العسكر بالضدّ منهم، وطرح أو ترقب انقلاب العسكر عليهم، حزباً وسلطة، «حتى أيلول 1963 وصلت الخلافات الشخصية بين أعضاء القيادة القطرية مرحلة لم يعد البعث فيها حزباً متماسكاً. ومثلما أشرت في مكان سابق، بوصفنا أنا والمرحوم هاني الفكيكي متفرّغين للعمل الحزبي، لكن لم تعد جهودنا واتصالاتنا الفردية بين بعض تنظيمات الحزب، قادرة على انتشال الحزب من حالة التفكك والتشتت التي بدأت معطياتها مع الوضع السياسي العام تدق نواقيس الخطر» (ص250). وفي غمرة هذه الأحداث وما صاحبها من مشاعر خيبة وإخفاق عقد المؤتمر القطري الخامس ليخرج بنتائج «ومسارات انحراف خطيرة ستظهر لاحقاً في تاريخ مسيرة الحزب، إذ بدت فيه الانعطافة الكبرى نحو الهاوية وتمزيق الحزب وصعود أشخاص إلى قيادة الحزب لا يملكون تاريخاً نضالياً مشرّفاً، فكانت لهم الصولة بدعمٍ من عفلق وزمرته بذبح الحزب، وسرقت تاريخه في المؤتمر الاستثنائي» (ص257-256). ولحق ذلك الإعلان عن مؤامرة لحركة القوميّين العرب، وتأييدها من دول وقوى إقليمية ومحلية، وخطاب الرئيس جمال عبد الناصر الهجومي على حزب البعث وعلى علي صالح السعدي شخصياً. و«في تلك الظروف والأجواء السياسية الدقيقة المعقّدة والمتشابكة، جاء انعقاد المؤتمر القومي السادس لحزب البعث في دمشق بتاريخ 23 – 25 تشرين الأول 1963 وكان الأمل يحدونا بتجديد فكر البعث، وانتشاله من صنمية عفلق وركود فكره بعد أن استنفد جميع طروحاته التي بقيت تراوح في مكانها، على ما هي عليه منذ تأسيس الحزب، وأصبحت لا تلائم عقد الستينيات من القرن العشرين، والمدّ الثوري الذي رافق حركات التحرر في العالم ومنه العالم العربي، والمناداة بتطبيق الاشتراكية الثورية الملائمة للواقع العربي، إذ أصاب الحزب الجمود والانكسارات السياسية وفشل تجربته وهو في أعلى سلطة حكم يقود بها بلدَين عربيين»(ص 262).
بعد هذا الإنجاز حضر المؤلف مؤتمراً قطرياً استثنائياً في بغداد جرى فيه الانقلاب على مجموعة السعدي، وهو أحدهم، «لقد ختم الانقلابيون مسرحيتهم بنفينا إلى مدريد، وكان من أبطال هذه المسرحية أحمد حسن البكر، حازم جواد، طالب شبيب، عبد الستار عبد اللطيف، صالح مهدي عماش، محمد حسين المهداوي، علي عريم، فقد نفّذ هؤلاء إرادة عفلق تحت حراب بنادقهم، ولم يتحقّق لهم ذلك إلاّ بفضلٍ من قوى خارجية غربية قدّمت لهم الخبرة الأمنية والاستخبارية، ومن قوى إقليمية يتقدّمها جمال عبد الناصر وأنصاره في العراق. فقد اختطفوا الحزب منذ ذلك التاريخ، وسيتحوّل البعث على أيديهم إلى حزب العشيرة والقرية»(ص 285). وكما يبدو لم ينته الصراع الداخلي، لا بتسفيرهم ولا بعودتهم وتجربتهم في العودة والتخطيط للانقلاب من جديد، وباسم حزب البعث اليساري، لا العفلقي، كما كتب.
وفي الخلاصة حاول محمود الشيخ راضي في مذكراته «التطهر» مما ارتكبه حزبه الذي انتمى إليه، وتحمل المسؤولية بحكم موقعه الحزبي وما حل في الشعب والبلاد، وما حصل في تاريخ الحزب والعراق أيضاً. ليصل في ختام الجزء الأول بما يفيده شخصياً من اعتراف واعتذار، يتضمن سؤالاً مفتوحاً لكل القوى والشخصيات العراقية خصوصاً. «وبعد هذه السلسلة من الأحداث اعترف بأني قد أسأت بحق العراق والشعب العراقي الكريم، ولعلّ نوايانا الحسنة لا تنفع ولا ينفع معها الاعتذار لأنّنا أدخلنا العراق في دوامات من الفوضى والضياع، وأهدرنا مستقبل أجيال من شبابه. وبصدر رحب أتقبّل كل نقد أو إدانة توجّه لي، فأنا أُدين نفسي قبل أن أُدان، وأطلب العفو من كل مواطن عراقي يعتقد بأنني كنت وراء اضطهاده أو سجنه أو حتى إساءة صدرت مني بحقه، والله على ما أقول شهيد»(ص 310). تبقى مذكرات محسن الشيخ راضي، والمعلومات التي نشرها، اتُّفق أو اختُلف معها، شهادة تاريخية تُقرأ في إطار صفحات تاريخ العراق السياسي المعاصر.
* كاتب عراقي