يحتاج تاريخ العراق السياسي المعاصر إلى أكثر من بحث ودراسة ومذكرات، فرائحة الدم والموت كانت وما زالت هي الغالبة عليه، كما سماها عضو القيادتين القومية والقطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، محسن الشيخ راضي، في مذكراته التي صدر الجزء الأول منها تحت عنوان، «كنت بعثيا»، من ذروة النضال إلى دنو القطيعة، حرره وعلق عليه وقدمه الدكتور طارق مجيد تقي العقيلي، في طبعته الأولى من دار الكتب العلمية في بغداد عام 2021. ويجمع كثير من الباحثين العراقيين وغيرهم أن تاريخ العراق المعاصر خصوصاً يمكن اختصاره بصراعات سياسية دموية ومجازر وحشية صارخة، ولهذا يبقى سجلاً يحتاج باستمرار إلى عيون فاحصة وضمير إنساني مجرب يسلط الأضواء ويكشف الحقائق دون لفّ ودوران، لا سيما أن شواهده لما تزل ماثلة بأشكال مختلفة وآثاره لا تُمحى بكتاب أو خطاب، رغم عبور كثير منها بمساومات السياسة وضغوط داخلية وخارجية، لعبت دورها في صناعة المسار أو في دموية الأحداث والعنف الوحشي المناقض لطبيعة الإنسان. وصفحات التاريخ المكتوب منذ تأسيس الدولة العراقية وإلى يومنا الحاضر، وفي فترات مختلفة منه، تقدم انطباعات مؤلمة وصوراً قاسية وفظاعات مرعبة في حدّها الأدنى، ومدانة في كل الأحوال. أثار صدور الكتاب شجوناً في قراءة شؤون التاريخ والسياسة في العراق، وتناولته كتابات وقراءات، فيها ما يثير أسئلة عنها أكثر من ما ورد في الكتاب. كون صاحب المذكرات والفترة الزمنية التي شارك فيها وما وضعه في صفحات التاريخ من أحداث دموية تشير إلى ضرورة البحث الأوسع والاستقراء الأشمل والمساهمة في الإضاءة التاريخية، حيث إنها جزء من تاريخ سياسي معاصر، وإشكالية مستمرة، لا يكفي ما قيل وما كتب عنها إلى الآن. وتدفع في الوقت نفسه إلى الدروس والعبر من كل ما حصل، في الأسباب والنتائج، في الوقائع والمرويات، في الخبر والتجارب، في تحكيم العقل وتحشيد الإرادة، في إطار تغيير الواقع للمستقبل الأفضل.أبدى محرر المذكرات الدكتور طارق العقيلي في مقدمته آراء عن الكتاب والتحرير والدور والتاريخ. وكباحث فيه يدرك أن علم التاريخ يتطلب التوثيق والموضوعية والشهادات الحية والمقارنات بين ما هو مسجل ومروي وسرديات المشاركين في صفحاته، وتحليل زوايا النظر والمصداقية والشفافية والجرأة في طرح الوقائع والحقائق، وتحمل المسؤولية عنها بتجرد ونزاهة وأمانة للتاريخ وميزانه وحكمه ومكره أيضاً. وهذا عمل جدّي يحاصر من يدخله أو يجعله متوجّساً من الارتباك بتفاصيله أو جزيئاته.
أما عن المذكرات عموماً، فبالتأكيد لها أهميتها كونها سجل الواقع ومحكمة المشاركين في صناعة الحدث التاريخي، وشرف الضمير الفردي والشخصي وعواقبه التي تضع معايير الكتابة والنشر بأمانة ومصداقية وتسامٍ إنساني. ومع هذا فهناك الكثير من الملاحظات على ما نُشر من مذكرات سياسيين في العراق، خصوصاً وفي اللغة العربية عموماً. أبرز الملاحظات محاولات تبرئة الذات وإنكار الحقائق المجمع عليها من أكثر من مصدر أو من دلائل يصعب إغفالها والتهرب منها. وكذلك الابتعاد عن أحداث سياسية موثّقة بالأرقام والأسماء ومثيرة للاهتمام أو لصفحات التاريخ. وتجنّب كتابة رأي ودور وإسهام كاتب المذكرات في الأحداث ونشر ما يُقال ولا يعرف فقط، أي أنه لا يضيف جديداً لما هو منشور ومطبوع ومسجل في كتب أو مذكرات آخرين، وهناك طبعاً روح المبالغة وخداع الذات، قبل غيرها، في إعطاء صورة لصاحب المذكرات المنشورة أو المتحدث عن ذكريات، في وسائل الإعلام المختلفة، غير ما هي عليه في الواقع والعرف والشهادات المعروفة لآخرين ساهموا في صناعتها أو وضعها دون بهرجة مزخرفة وبتواضع خجول. وبالتأكيد هناك ملاحظات أخرى ليس المجال لها. وفي مقدمة المحرر لمذكرات محسن الشيخ راضي، ملاحظاته هو الآخر، وآراء ووجهات نظر، كما يمكن القول عنها، تحتاج إلى مناقشة هي الأخرى، لا سيما ما ظهر كأحكام مسبقة دون بحث وقراءة لها من مختلف الجوانب والأحوال. وبلا شك يسجل للمحرر جهده وجلده ومبادرته في تسجيل المذكرات والالتفات إلى موضوعها وشخصيتها ودورها في صفحات التاريخ السياسي في العراق خصوصاً. كما يشار إلى صاحبها للجرأة والكشف والاعتراف، وقول ما يريد قوله في قضايا لمّا تزل مثارَ جدل وصراع واختلاف في الرؤية والمسؤولية وحتى في تجاوزها زمنياً والبناء على الاستفادة من الدروس والعبر منها، والوعي النقدي لها والتمكّن من عدم تكرارها أو تدويرها أو إعادتها بأسماء أو صيغ أخرى. ومؤلف الكتاب كما يسميه محرره قيادي بعثي في العراق، وقام حزبه - البعث - منذ تأسيسه في العراق وعقد مؤتمره التأسيسي أواسط الخمسينات من القرن الماضي بأدوار مختلفة، من نشاطات وفعاليات قومية الشعارات والأهداف وتحالفات سياسية مع أحزاب الحركة الوطنية، خاصة مع الحزب الشيوعي العراقي، (الذي درب كادره على الطباعة في دار طباعته السري، بتوجيه أمينه العام سلام عادل، وأهداه آلة طابعة كان الحصول عليها صعباً جداً) إلى الانقلاب وتسلّم السلطة مرتين، وبروز ظاهرة الانتقام والمجازر الدموية في سياسته ضد الحلفاء، والأبرز مع الشيوعيين.
«كنت بعثياً» يعطي صورته الأولى باستخدام فعل كان (الماضي الناقص) ويوحي برفض مبطّن لماضٍ لا يسرّ، رغم تغنّيه بأيامه وحماسه الحزبي وانتمائه العقائدي


قدم المحرر الإشارة إلى الجهات السياسية الخارجية التي دفعت الحزب إلى ما قام به، في الانقلاب أو المجازر، مستعيناً بالوثائق والدراسات وبعض الاعترافات من قيادات الحزب ومساهمين في أحداث العراق التاريخية. وتلك قضية مهمة وأساسية في تناول الحديث عنها في صفحات المذكرات، وأهمية شهادة المؤلف فيها، ووضعها في سياقها وتداعياتها الكارثية ومسار الأحداث في تاريخ العراق الوطني. حيث وصمت مجريات الأحداث هذه تاريخ العمل السياسي والوطني برائحة الدم والموت، والخيانة والغدر السياسي والاستعانة بالعدو الخارجي (الإمبرياليتين الأميركية والبريطانية) على المصالح الوطنية والقومية. وهو ما أسهب المحرر فيه وصولاً إلى نصيحة تاريخية أيضاً لكل من يهمه التاريخ والحاضر والمستقبل للشعب والوطن، «لذلك، لا يحق لهذه القوى السياسية وقيادتها التذرع بمزاعم النوايا الحسنة والاكتفاء بها كمبرر لبرائتهم التاريخية، فقد حان الوقت، على جميع هؤلاء التكفير عن تاريخهم، وأن يبدأوا بمراجعة ذاتية وموضوعية لنقد تجاربهم وإدانتها، والاعتراف أمام الشعب بأخطائهم الجسيمة تجاه العراق، ويعلنوا اعتذارهم للوطن وللشعب العراقي» (ص 11).
ختم مقدمته برأيه في عمله التحريري ومحتوى المذكرات، مؤكداً «في هذه السيرة سيلتفت القارئ إلى أمر جدير بالاهتمام والنقد الموضوعي، بأن صاحبها من البعثيين القلائل الذين اعترفوا بجسامة الممارسات الدموية التي ارتكبها حزبه خلال مسيرته لا سيما أثناء سيطرته على السلطة في 8 شباط/ فبراير 1963 تجاه الشيوعيين وضد كل القوى السياسية والشعب العراقي عموماً، فقد قال له وما عليه بكل أمانة وتجرّد عن الانحياز. (ص 12).
أما المنهج الذي اتّبعه المحرر في تحرير السيرة، التي أخذت منه وقتاً طويلاً نسبياً في التعرف إلى مؤلفها وإقناعه بسردها له، مع تأسفه عن الإهمال في الحفاظ على الوثائق التاريخية، ومشروع كتابة مذكرات له، هو في تدوينها وفق ما يمليه عليه مؤلفها شفوياً ثم كتابتها ومراجعتها. ونقلها كما سماها دون تلاعب حتى بالمصطلحات الحزبية التي تتكرر في أدبيات الحزب الذي شرح المؤلف له بدايات انتمائه له والصراعات التي خاضها داخله، واختياره العناوين لفصولها وحسب تسلسلها كما رآها بأمانة تاريخية لباحث في تاريخ العراق المعاصر. فجاء تسلسل فصولها تقليدياً، في التعريف بالبدايات الأولى، الولادة والعائلة ومن ثم الانتماء الحزبي والنشاطات الأولى، والخوض بعدها في السيرة والمسيرة الحزبية والسياسية، في التسلسل الزمني، وما احتوت عليه من صراعات القيادات والأحزاب وتداعياتها وما جرته على تاريخ العراق السياسي المعاصر من أحداث وارتباطات ورهانات تركت بصماتها عليه حتى يومنا الحاضر.
أكد ما سبق صاحب المذكرات، في مقدمته هو أيضاً «لقد تعرفت على د. طارق مجيد تقي، بعد أن قرأت كتابه الموسوم (بريطانيا ولعبة السلطة في العراق، التيار القومي والطائفية)، والذي شمل مرحلة سياسية عشت ومارست أحداثها وقد أعجبت كثيراً بما تضمن من معلومات وتحليل، جلها معتمد على ما جاء في الوثائق البريطانية، بالرغم مما لديّ من ملاحظات. ولهذا قد جرت بيننا حوارات سياسية لتلك المرحلة والتي كانت قاسية علينا وعلى الشعب العراقي والمنطقة استمرت آثارها المؤلمة حتى يومنا هذا»... «وقد تطلب منه هذا العمل الشاق مدة تزيد على ثلاث سنوات، سجل فيها كل ما أمليته عليه من أحداث سياسية واجتماعية شملت الفترة منذ ولادتي 1932 (؟) وحتى ما بعد الاحتلال عام 2003». وبتواضع سجل أن ما أملاه فيه معلومات «وإن كانت بسيطة ولكنها قد تكون مفيدة لمن تابع المسيرة السياسية منذ الخمسينيات وحتى الاحتلال الأخير». والواقع أن هذه المعلومات الواردة لها أهميتها في صفحات التاريخ لما فيها من إقرار لوقائع واعتراف بخطاياها وشجاعة الاعتراف والاعتذار منها، للتاريخ الشخصي والوطني. ولا سيما خاتمة مذكراته. وفي سياق التفاصيل، حملت الفصول تاريخاً شخصياً مرتبطاً بالتاريخ السياسي في العراق، وقد تكون مع ما سبقها من مذكرات لشخصيات حزبية، ومنها بعثية، تكشف رائحة الدم والموت التي غطت سماء الوطن عقوداً طويلة، ولم تتمكن الأحزاب والشخصيات والقوى الوطنية من التخلص من آثارها وتداعياتها وجراحها، رغم مداهنات السياسة وتقلبات أوضاعها في عراق لم تنتهِ فصول المأساة فيه، من احتلال إلى آخر، بأشكال متعددة، طغت عليها لعنة الدم والعنف والدمار والاحتراب والحقد والانتقام والكراهية والفتنة ومترادفاتها اللغوية والمؤلمة فعلياً.
الكتاب يُقرأ من عنوانه، كما يقال، كنت بعثياً، يعطي صورته الأولى باستخدام فعل كان (الماضي الناقص) الموحي برفض مبطّن لماضٍ لا يسرّ، رغم تغنّيه بأيامه وحماسه الحزبي وانتمائه العقائدي، وهذه مقدمة، إما في المتن، فاسم المؤلف محسن الشيخ راضي، اسم إشكالي مرتبط بفظائع وطنية أساساً، تطلبت منه نشر دفاعه الشخصي عن دوره وفعله وموقعه ومن ثم المكاشفة السياسية التي ينبغي أن تتم بلا تردّد أو إغفال أو تجاوز أو إقصاء أو تهرب، بعنوان المراجعة التاريخية لكل الشخصيات والأحزاب والقوى السياسية في العراق، وهو أمر يكاد أن يكون مُتّفقاً عليه وبحاجة إلى روح تسامٍ عالية وشرارة انطلاق جماعية وموضوعية وبإشراف مؤسسات قضائية وأكاديمية مستقلة وحريصة على الشعب والوطن، ومستقبل الأجيال المتطلعة إلى حياة كريمة وعدالة اجتماعية ونظام ديمقراطي ومؤسسات وطنية تقدّمية.
استبق المؤلف وهو يسرد بدايات قناعاته وانتماءاته الحزبية بالحديث عن تغيير قناعات المرء وتحولاته الفكرية. (ص 36) «في كل مرحلة من عمر الإنسان وتاريخه، له من القناعات والآراء والمعتقدات ما يؤمن بها ويناضل من أجلها لإرضاء ذاته وتحقيق طموحاته العقائدية في محيطه وبيئته. ومع تقدم العمر، ربما تتغير قناعات الشباب وتتبدل مع تطور ثقافته وطول تحاربه التي تضعه على محك مراجعة ذاتية، وواقع موضوعي جديد يمر به. وربما يبقى متمسكاً بتلك القناعات حتى مماته تبعاً لبقاء ذاته التي تأبى أن تتطور حسب اعتقادي وفهمي المتواضع في هذا الاتجاه». وواصل «سيجد القارئ الكريم في ثنايا هذه المذكرات، أن محسن الشيخ راضي في عام 1955 حتى عام 1963 ليس كما هو في عام 1965 وما بعدها، وكذلك ليس هو في عام 1970 وما تلاها. وبذلك، لا يمكن لأي مقاربة منصفة عن فترات تحول القناعات عند المرء أو توجيه النقد له إلّا بالتركيز على خصوصية كل حالة وظروفها التاريخية». ومن خلال هذه العبارات كما يبدو تمكن المحرر من الحصول على ما نشره، ومن المؤلف ما دفعه إلى «البوح» بما سماه كتاب مذكرات.
من ما يمكن تسميته بالسائد في بلداننا العربية، وتاريخها السياسي، أن يواجه المناضل الحزبي، المتحمس والمقتنع بأفكار حزبه وسياساته، قمع السلطات، وأن يعرف المواجهات العنيفة، وصولاً إلى قناعة أن السلطات الحاكمة لا تنفذ ما تعلن عن نفسها، وتمارس خلافه مع المعارضة السياسية لها، حتى ولو بالكلام. وفيها محطات ومشاهد، أخطاء وخطايا، «لكن أريد أن أقول وأكرر أن أخطاء النظام الملكي في السياسة الداخلية والخارجية، وممارسته للعنف تجاه الحركة الوطنية لا يوازي ما ارتكبناه نحن عندما تسلمنا السلطة. (ص 41) وهذا الحكم تعبير عن تحول في القناعات والأفكار، وأكده عندما حصل من تصادم بين أعضاء التيارات السياسية العراقية حتى خارج العراق، كما حصل، بين تيار القوى القومية، والبعث منها، والشيوعيين العراقيين، الموجودين في دمشق». «هذه كانت البداية الخطيرة التي جرتنا جميعاً دون وعي وإدراك بمصلحة العراق، إلى هاوية الانقسام والتناحر والتقاتل، وشدتنا إلى الاختلاء بأوكارنا نمعن بتخطيط المؤامرات والتآمر بعضنا ضد البعض الآخر» (ص61). وتطور فهمه لكتابات مؤسس الحزب وقياداته، من الإيمانية شبه الدينية إلى النقد الجارح، و«الكفر» بعباراته الإنشائية العاطفية الخالية من العمق الفلسفي العلمي (ص 64) وما تلاها من صراعات داخلية حول الوحدة، شعار الحزب الأول، وحل الحزب أمامها، سواء داخل العراق أو خارجه، وما سبب ذلك من صراع داخل الحزب نفسه، وانقسام تنظيمي وفكري وسياسي، وداخل التيار القومي، (الناصريين والبعث)، وانعكاساته على المشهد السياسي ومجريات العمل السياسي عموماً. وصارت أول تجربة للوحدة العربية بين القاهرة ودمشق محكاً كافياً لاختبار الحزبيين البعثيين، خصوصاً لقناعاتهم بالشعارات التي رددوها. وترك ما حصل بعد قيام الوحدة والانفصال وموقف قيادات في الحزب فيها ومنها أثره على المؤتمرات الحزبية للبعث وعلى المؤلف فيها.
الجمعة حلقة ثانية
* كاتب عراقي