تفاجأت الغالبية العظمى من سكان هذا العالم الواسع مساءً ــ أو نهاراً حسب المنطقة الزمنية ــ الاثنين الرابع من تشرين الأول بتوقّف جميع التطبيقات المملوكة لشركة فايسبوك عن العمل. ولفترة زادت عن الخمس ساعات دخلت الغالبية العظمى من مستخدمي هذه المواقع في حالة ارتباك وفوضى غير مسبوقة. الكثير من المستخدمين بدأوا بالنزوح نحو تطبيقات أخرى ــ كانت لا تزال تعمل ــ للتعويض عن الفراغ الذي خلقه غياب شركة فيسبوك ومنتجاتها من حياتهم. ما أدى إلى ظهور حالة من التوقف الفوري عن العمل للتطبيقات الجديدة بسبب الضغط، إذ لم يتوقع أحد حصول عطل بهذا الحجم. وما كان من شركة فايسبوك إلا استخدام المنصة المنافسة تويتر لتوضيح الأمر لمستخدميها. وفي الواقع، هذه الحالة من البلبلة التي أدى إليها هذا الغياب إنما تُثير الكثير من التساؤلات حول اعتمادنا على هذه المنصات، وحالة استبدال الواقع بالافتراضي السائدة بيننا، وبالمقابل أثر أفرضة (جعلها افتراضية) حيواتنا والتصاقنا غير القابل للإقلاع عنه بسهولة بأجهزة متصلة على الدوام بالشبكة.
كيفين لو (سنغافورة)

خلال العقدين الماضيين دخل عالمنا بشكل متسارع إلى فضاء افتراضي، حيث أصبحت العلاقات الاجتماعية، الأكاديمية، الترفيه، بل وحتى الرياضة، مجرد صور افتراضية تمارس عن طريق أجهزة متصلة على الدوام بشبكة الإنترنت، مما أدى إلى انسلاخ الجزء الأكبر من المجتمع عن واقعه وانتقاله إلى واقع مفترض جديد، حيث يستطيع حل مشاكله الاجتماعية بكبسة زر، قتل من يريد افتراضياً، الابتعاد عن كل الاختلافات التي يتناقض معها، وقد ساعد في ذلك آلية عمل الخوارزميات الخاصة بهذه المواقع التي تقوم باستخدام جميع المعلومات التي نوفّرها لها ـــ بإرادتنا المطلقة ومن دون إدراك منا ـــ لتصميم ما تقوم بتغذيتنا به من منشورات لضمان بقائنا على هذه المنصات لأطول وقت ممكن. تقوم هذه المنصات باستخدام العلوم الإنسانية لتقوم بالتأثير علينا والعمل على إشعارنا بسعادة وهمية، وبالتميّز، وغير ذلك من المشاعر التي نبحث عنها بطبيعتنا الإنسانية... ما يعمل على تعويضنا عن احتياجاتنا المستمرة من هذه المشاعر بطريقة أسهل بمراحل مما يحدث في العالم الواقعي، وينتج أجيالاً جديدة بمهارات اجتماعية متدنّية ومستويات منحدرة من الذكاء الاجتماعي.
تعمل غالبية أدوات التواصل الاجتماعي الحديثة على منهجية تعزيز الشعور بالتقدير والتفرد لدى المستخدمين، وذلك عن طريق زيادة احتمالات حصول المنشور الخاص بك على الإعجاب وهو ما يؤدي لحالة من الإدمان النابع من زيادة إفراز الدوبامين في الدماغ والذي يخلق حالة من السعادة المرتبطة باستخدامك لهذه الأدوات، وتقوم هذه الأدوات بزيادة نسب الإعجاب بالمنشور عن طريق عرضه للمستخدمين المتشابهين معك في الآراء وذلك حسب استخدامها للبيانات التي تقوم هذه الأدوات بجمعها عنك، والتي تعتبر مصدرها الأساسي للربح ـــ على غير الشائع عنها ـــ حيث أن الإعلانات المعروضة على هذه المنصات لا تشكل أكثر من عشرين في المئة من أرباحها الإجمالية، حيث تعتمد الشركات على بيع البيانات الضخمة التي تجمعها لشركات الدعاية والإعلان، الجهات الحكومية وغير الحكومية المهتمة بجمع البيانات أو المسؤولة عن التخطيط للسياسات، والجهات الموجهة للرأي العام وجماعات الضغط السياسي، وحيث أن هذه الشركات ــ الرأسمالية بالضرورة ــ تهدف إلى زيادة أرباحها على الدوام، فإنها تحاول إبقاء المستخدم في نطاق سيطرتها، أو مراقبتها الدائمة، لأطول وقت ممكن، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال مراقبة الخدمات المجانية المتزايدة التي تقدمها للمستخدمين واستحواذها على تطبيقات أخرى تمتلك شهرة أو نطاق استخدام متزايد لضمها تحت المجموعة نفسها. كل ذلك يجعل المستخدم لأي جزء من مجموعة التطبيقات الخاصة بها، على الرغم من شعوره بالتحرر من التطبيق الواحد، قابعاً على الدوام في مجال المراقبة المرتبط بالشركة الأم، ومتأثّراً ــ بعلم أو من دونه ــ بسياسات التوجيه المجتمعي التي تخدم مصالحها.
إن حالة الاعتماد أو الإدمان السائد على هذه الوسائل حولت العلاقات الإنسانية المعقدة بالطبيعة إلى حالة مبسطة، أو مسخفة، من هذه العلاقات. وهو ما قام بتعزيز الفردانية وزيادة انعزال الأفراد عن مجتمعاتهم الموسعة أو الضيقة، وخلق حالة من القلق الاجتماعي لديهم. ويمكننا ملاحظة زيادة مستوياته لدى الأجيال الجديدة مقارنة بالأجيال التي سبقتها، وهو ما يمكن إرجاعه لقلة ممارساتهم الاجتماعية في الحياة الواقعية. إذ يؤدي انعدام التجارب الإنسانية في الحياة الواقعية لدى الأفراد إلى زيادة نسب التوتر وانخفاض الذكاء الاجتماعي الخاص بهم، وهو ما يقوم بتحويل المجتمع إلى مجموعة من الأفراد المنفصلين عن واقعهم الخاص، الشاعرين بالانعزال والاغتراب الدائم عن الجماعة، الباحثين على الدوام عن قطيع متشابه معهم ينتمون إليه... ما يؤدي في النهاية إلى إنهاء الحالة الجمعية، وتحويل كل فرد إلى مجتمع من شخص واحد مصاب بحالة من الضعف والقلق الوجودي. وهذا الفرد مرشّح للتحول إلى آلة في ترس المنظومة الرأسمالية، حبيساً لمشاكله الخاصة (التي لم تكن لتكون خاصة في حالة أخرى)، ومخاوفه الدائمة الناجمة عن مسؤوليته الفردية عن حياته بشكل كامل.
وبالعودة إلى حادثة الانهيار الموقت لتلك الأنظمة الإلكترونية، أمكننا ملاحظة حالة الرعب الجماعي التي أصابت أفراد المجتمع، وملاحظة زيادة اعتمادها وارتكازها على أدوات التواصل الاجتماعي للتعويض عن حالة النقص والفراغ الاجتماعي التي يعانون منها. قد يكون مثيراً للسخرية أن هذه الأدوات هي المسبب الرئيس لحالة الفراغ. فاللاوعي الجمعي يدرك كون هذه الوسائل غير حقيقية وغير دائمة. وخلل بسيط في خطوط الإنترنت أو شبكة الكهرباء قد يؤدي إلى انقطاع الفرد عن الشبكة. عندها سيجد نفسه وحيداً وغريباً في عالم مجهول بالنسبة إليه.
إن حالة التأرجح الدائم بين الحياة الافتراضية كمصدر وحيد أو أساسي للتواصل الاجتماعي الذي يُشكلنا كبشر، وانعدام أو تدني مستويات هذا التواصل في الحياة الواقعية... إضافة إلى ادراك المتأرجحين على الدوام بإمكانية انقطاع مستندهم الهش (الافتراضي) في أي لحظة، كل ذلك سيؤدي بالضرورة إلى زيادة عمق الفجوة بين الفرد والمجتمع. النتيجة هي تقلص نافذة الرجوع نحو الحياة الاجتماعية بصورتها الطبيعية، واقترابنا بشكل مطّرد من نقطة اللاعودة التي لا يمكننا بعد وصولها إعادة تكوين مجتمعات سويّة، يعمل فيها الأفراد بتناغم ما من أجل مصلحة المجتمع ككل. فلا يكون أي منّا وحيداً في مواجهة
العالم.

* باحث فلسطيني