خلال عقدَي الثمانينيات والتسعينيات تعرّض ثلثا البلدان المنتسبة إلى صندوق النقد الدولي لأزمات مالية تفاوتت حدّتها بين بلد وآخر. أجمع الباحثون أن انتشار الأزمات المالية على هذا النحو كان له سبب واحد مشترك هو التحرير الاقتصادي، أي تحرير حركة دخول وخروج الرساميل.
1. الأزمات التوأم
وقد سمّاها الباحثان كامنسكي ورينهارت بـ «الأزمات التوأم» (crises jumelles) لأنها جمعت بين الأزمة المصرفية أو إفلاس المصارف وبين انهيار سعر صرف العملة الوطنية. والعلاقة السببية بين الاثنين ليست هي في نفس الاتجاه في كل الحالات. يكون انهيار سعر صرف العملة سبباً لانهيار المصارف حين يؤدي الطلب الكثيف على العملة الأجنبية بسبب هروب مفاجئ للرساميل، إلى ارتفاع سعر الدولار وانهيار المصارف التي لا تعود لديها سيولة. وتكون الأزمة المصرفية سبباً لانهيار سعر صرف العملة حين يتحوّل تدخّل المصرف المركزي لإنقاذ المصارف من خلال الخلق النقدي الكثيف إلى سبب لارتفاع سعر الدولار أو انهيار سعر صرف العملة.
وتكون الأسباب وراء إفلاس المصارف وانهيار سعر صرف العملة هي ذاتها حين يصار إلى تثبيت سعر الصرف الاسمي من دون الانتباه إلى الارتفاع المستمر لسعر الصرف الفعلي الحقيقي وتراجع القدرة الإنتاجية للاقتصاد وإلى ارتفاع مستوى الاستيراد وتفاقم عجز ميزان المدفوعات. الأمر الذي يؤدي إلى أزمات ثقة تعبّر عن نفسها بالهروب من العملة الوطنية. فينهار سعر الصرف وتنهار المصارف.

2. دور المصارف
تتفق المقاربتان النيو-كلاسيكية والما-بعد كينزية على الدور الرئيسي للمصارف في إشراع الأزمات المالية. تحصل الأزمات لأن المصارف تبالغ في التعرّض للمخاطر. لكنّ المدرستين تختلفان في شأن الأسباب. تُراكِم المصارف الديون الهالكة (non performing loans) إلى درجة خلق حالة ذعر لدى المودعين، والأجانب منهم على وجه الخصوص، ما يؤدي إلى هروب هؤلاء وانهيار سعر صرف العملة. أي أن الباحثين وضعوا انكشاف المصارف على المخاطر في أصل الانهيار. واعتمد النيو ـــ كلاسيكيون مفهوم «الحث على المخاطرة» (moral hazard) لإظهار أن تدخّل الدولة لحماية المصارف كان عاملاً مشجّعاً لهذه الأخيرة على المبالغة في المخاطرة. وهم ذهبوا إلى تفسير الأزمة الآسيوية عام 1997 على هذا النحو. ويكون الإصلاح بالنسبة إليهم بأن تكفّ الدولة عن تدخلاتها بالكامل. ورأى الما ــ بعد كينزيون أن المشكلة هي في إدارة المصارف لمواردها. وهي تعرّض مودعيها للخطر حين تخرج على أصول النشاط المصرفي الاعتيادي في التوسط بين المودع والمستثمر، وتعطي الأولوية لتحقيق الأرباح من خلال اللجوء إلى نشاطات المضاربة. ويظهر انكشافها على المخاطر من خلال حصة أنشطة المضاربة المالية في عملها. ويدل على هذه الحصة شراء السندات والأسهم وتداولها والحصة الكبيرة للنشاطات من خارج الموازنة (hors-bilan) في عملها. وقد اقترح النيو-كلاسيكيون «آليات للتحذير المبكر» من الأزمات، في حين اقترح الما-بعد كينزيون آليات لإبطاء حركة الرساميل.

3. الوضع قبل انتفاضة 17 تشرين 2019
كانت الحياة في لبنان قبل انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 قد باتت لا تُطاق. وكان كل واحد يسأل نفسه عن الجدوى من تربية عائلة في هكذا بلد. أظهر ألبر داغر كيف تحوّلت الدولة إلى «ميدان للممارسات الإجرامية»، وكيف أصبح الاقتصاد «قائماً على النهب». وقدّم صورة لانحلال مؤسسات الدولة عبّرت عنه هيمنة التعيينات الحزبية وخضوع القضاء للسياسيين وتسبّب هؤلاء بحالة فراغ إداري باتت معها مناداة الدولة لتحمّل مسؤولياتها مناداة لشيء غير موجود. وترافق ذلك مع ازدياد التسلّط الذي مارسه الفاشلون الذين ملأ السياسيون بهم الإدارة العامة. وقد بات السياسيون يعملون على التدمير المتعمّد لمؤسسات الدولة لضمان استمرارهم في الحكم كما يقول ويليام رينو.

4. الدور المحدود للسياسة المالية والضريبية في الأزمة
استعاد الباحث باسل صلوخ الأرقام حول ازدياد حجم الإدارة العامة. وقد ارتفعت أعداد المنتسبين إليها من 75 ألفاً عام 1975 إلى 175 ألفاً عام 2000 وإلى 300 ألف عام 2017. ولم يرفع تضاعف أعداد العاملين في القطاع العام كلفة الأجور والرواتب كنسبة من الناتج بسبب نمو هذا الأخير. لكن ما اعتبره الباحث جوهرياً هو إقرار سلسلة الرواتب الجديدة في القطاع العام في صيف 2017. وذلك تحضيراً للانتخابات النيابية التي كانت ستُجرى في ربيع 2018. وهي رفعت حصة الرواتب والمعاشات التقاعدية إلى 38% من الإنفاق في موازنة 2018.
وعرض تقريرا خبراء الصندوق لعامَي 2018 و 2019 موضوع السياسة المالية للحكومة. واعتبر تقرير 2018 أن الزيادة الشاملة في سلسلة الرواتب في تموز 2017، رافقتها زيادات ضرائب ورسوم خلال النصف الثاني من السنة، ما جعل الأثر الصافي على المالية العامة محايداً في عام 2018. لكنّ الأرقام أظهرت أن نسبة العجز إلى الناتج ارتفعت من 7% عام 2017 إلى 11.4% عام 2018. وأثيرت مسألة تجاوز كلفة زيادة الرواتب التقديرات الموضوعة لها. وكان الفرق 325 مليون دولار. واتخذت الحكومة في مناسبة إقرار موازنة 2019 مجموعة من الإجراءات جعلت نسبة عجز الموازنة إلى الناتج تنخفض إلى 7.5%. واقترحت لجنة المال والموازنة خفضاً إضافياً لها إلى 7%.
كانت الحياة في لبنان قبل انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 لا تُطاق... وقد بات السياسيون يعملون على التدمير المتعمّد لمؤسسات الدولة لضمان استمرارهم


5. هي أزمة مصرفية من جهة الودائع
وقد تنبثق الأزمة المصرفية من ودائع المصارف أو من تسليفاتها. تكون هناك أزمة مصرفية سببها التسليفات، حين تبدأ الفقاعة العقارية بالضمور، وحين تشهد المصارف تزايداً ملموساً في نسبة الديون المشكوك في تحصيلها أو الهالكة. وقد أشرع تدفق الرساميل بعد عام 2008 ارتفاعاً جنونياً لأسعار العقارات بلغ 500%. وكانت ثمة استحالة لتأمين طلب كافٍ على العقارات مع أسعار كهذه. وتدخّل المصرف المركزي. وأصبح ممكناً ابتداءً من عام 2012 الحصول على قروض من المصارف بفوائد تكون حصة المقترضين فيها 1% في حين يتولى المصرف المركزي دفع الباقي. وشمل ذلك الأفراد كما المطوّرين العقاريين.
وبعد عام 2011 باتت 90% من تسليفات المصارف مرتبطة بالقطاع العقاري. ومنعت الخطط التحفيزية للمصرف المركزي الأسعار من الانخفاض. وأشارت تقارير الصندوق إلى انخفاضها بنسبة 10% خلال عام 2017. وهو حذّر من ارتفاع حجم القروض المتعثّرة ومخاطر امتناع المقترضين عن سداد ديونهم (défaut des emprunteurs). وخلال الحقبة التي سبقت اندلاع الأزمة أصبح مصرف لبنان أكثر تشدّداً مع المصارف في الحصول على كل السيولة التي تريدها بالليرة مخافة تحويلها إلى دولار. وهذا ما جعل من يريدون افتعال أزمة مالية يركّزون على منع وصول الودائع وضرب سيولة المصارف بالعملة الصعبة.
وتكون هناك أزمة مصرفية سببها الودائع، حين يتراجع تدفّق هذه الأخيرة وتتراجع سيولة المصارف بالعملة الصعبة. وبيّنت المتابعات أنه لم يكن هناك ارتفاع في الودائع خلال عام 2018 ومطلع 2019، وأن نمو هذه الأخيرة كان سلبياً بمجرد حسم قيمة الفوائد عليها. وكانت ودائع القطاع الخاص شهدت خلال عام 2018 انخفاضات طفيفة ومتفرقة لكنها انخفضت بأكثر من مليارَي دولار خلال شهرين فقط في الفصل الأول من عام 2019. وانخفضت ودائع الزبائن من 175 مليار دولار في نهاية 2018 إلى 171.5 ملياراً في نهاية أيار 2019. بل «لم تسجّل ودائع الزبائن لدى المصارف في 20 شهراً أي زيادة فعلية. وارتفعت بنسبة 0.5% أي أقل من 900 مليون دولار».

6. الخفض المتوقّع لسعر الصرف ودور الصندوق
لم تكن الإدارة الاقتصادية للبنان في أي يوم بعد عام 1990 بمعزل عن أنظار ورقابة المؤسسات الدولية. تمثّل ذلك بالبعثات السنوية التي كان ينتدبها صندوق النقد الدولي لإعداد تقرير دوري عن لبنان. وانضاف إلى ذلك التقارير التي بات يعدّها البنك الدولي. يمكن اختصار ما جاء في التقارير السنوية للصندوق على مدى حقبة ما بعد الحرب تحت أربعة عناوين هي سعر صرف الليرة والإنفاق العام وخفض عديد الإدارة العامة وخصخصة المؤسسات الحكومية. وكانت بعثات الصندوق تطالب السلطات اللبنانية تكراراً بتطبيق إجراءات تتيح ضبط الإنفاق العام وتؤمن الاستمرارية المالية (financial viability) للدولة. وكانت آراؤه بصدد خفض الإنفاق العام وخفض عديد الإدارة الحكومية وخصخصة المؤسسات العامة مجال أخذ ورد. ولم تكن الحكومات المتعاقبة تأخذ بها بالضرورة.
وعلى مدى حقبة 1993-2018 ثابر الصندوق على إبداء موافقته على تثبيت سعر صرف الليرة. وكان اللافت في مناسبة بعثة صندوق النقد الدولي الدورية إلى لبنان في شباط 2018 إعلانه للمرّة الأولى عدم موافقته على استمرار هذا التثبيت. وفي تقرير 2018 جاء أنه «حتى بعد تحقيق الضبط المالي، فسوف يظل هناك عجز كبير في الميزان الجاري، ما لم يتم تعديل سعر الصرف و/ أو إجراء إصلاحات هيكلية كبيرة». أي أن لا حلّ لعجز الميزان الجاري إلا بخفض سعر صرف الليرة. وسيمثّل رأيه هذا نقطة انطلاق للأزمة المالية.
وتفيدنا دراسات ما يسمّى بـ «الجيل الأول» من الأبحاث حول انهيار سعر الصرف بأنه لا يمكن إغفال دور المتغيّرات الأساسية (fundamentals) وأهمها عجز الميزان الجاري، خصوصاً إذا أصبح متمادياً. وتفيدنا دراسات «الجيل الثاني» بتركيزها على الدور المباشر لتوقّعات المتعاملين في اندلاع الأزمة. وقد استندت دراسات «الجيل الثاني» هذه إلى دور التنبّؤات أو «التوقعات التي تنتج مسلكيات تؤدي إلى تحقّقها» (anticipations auto-réalisantes). وهو ما يحصل حين يتصرّف المتعاملون الذين يتوقعون خفض سعر الصرف بطريقة تعزّز حصول هذا الخفض. ودمجت دراسات «الجيل الثالث» بين دور المتغيّرات الاقتصادية الكليّة في الأزمة وبين عناصر الضعف الكامنة في هيكلية المصارف وعملها. وأظهرت السهولة الشديدة التي يغيّر فيها المتعاملون توقّعاتهم بشأن دولة ما وعملتها والآثار الفادحة لذلك.
واستعاد الباحث ماريو ديهوف عشرات المتغيّرات التي تستخدمها الدراسات لتعيين أسباب الأزمات التوأم. وأشار إلى غياب سبب رئيسي في هذه الدراسات يمكن أن يكون أصل الأزمة، ألا وهو دور صندوق النقد. وهو الدور الذي أشار إليه ستغليتز في قراءته للأزمة الآسيوية عام 1997. ويعزّز موقف الصندوق المعارض لاستمرار ثبات سعر الصرف التوجّس (défiance) لدى المودعين تجاه العملة الوطنية ويتسبّب بانقلاب التوقّعات لديهم. وهو ما تنأى عن ذكره كل الدراسات كسبب.

7. خروج الودائع
وتطرح مسألة تعيين تاريخ لانطلاق الأزمات المالية خصوصاً المصرفية منها مشكلة للباحثين. ولم يعوّلوا على التغيير في الأرقام لمعرفة ذلك بل اعتبروا أن الأجدى هو التعرّف إلى آراء المتابعين وإعادة رسم صورة الأحداث التي جرت. وقد أظهرت أرقام صندوق النقد الدولي أن فائض ميزان المدفوعات بين عامَي 1991 و2010 تحوّل إلى عجز بلغ 1.6 مليار سنوياً خلال فترة 2011 ــ 2018. وأورد الكاتب إبراهيم الأمين موقفاً لأحد كبار المصرفيين ربط فيه بين بدء انخراط حزب الله في المعارك في سوريا وانقلاب الوضع في لبنان لجهة التدفقات المالية. وذكر حاكم مصرف لبنان تكراراً أن اعتقال الرئيس الحريري في السعودية في خريف 2017 تبعه انسحاب للودائع من دون تقديم تفاصيل. وذكر الأمين العام لحزب الله أن الولايات المتحدة أوعزت إلى أصدقائها من اللبنانيين بسحب ودائعهم وأن الكثيرين تجاوبوا مع طلبها.
وقد بدأ موقف الصندوق ضد استمرار تثبيت سعر صرف العملة في لبنان يعطي مفعوله منذ خريف 2018. وبدأت المصارف منذ ذلك التاريخ بعدم الاستجابة لطلبات المودعين لتحويل ودائعهم من الليرة إلى الدولار ورفضت إخراج ودائعهم منها إلا بالليرة. ووصف المصرفي فريدي باز الأزمة بأنها أزمة سيولة لدى المصارف نتجت عن «التوقف الفجائي لتدفقات الرساميل إلى لبنان مقابل زيادة خروجها منه». وحتى حزيران 2019 كانت الودائع من فئة ما فوق الثلاثة ملايين دولار قد انخفضت بقيمة 5.6 مليارات دولار. وارتفعت مبيعات مصرف لبنان للدولار إلى المصارف بنحو 3 مليارات دولار خلال أشهر حزيران وتموز وآب من السنة ذاتها. وأظهر التواصل مع أصحاب العلاقة في المصارف أن عام 2019 كان بالفعل عام هروب الرساميل. وبلغ حجم الودائع المحوّلة إلى الخارج خلال ذلك العام 16 مليار دولار تنتمي إلى فئة حسابات الزبائن التي تتجاوز المليون دولار.
وأظهرت التحقيقات لاحقاً أن هناك «شبكة مؤلفة من صرافين ومديري مصارف وشركات تحويل أموال متورطين في سحب الدولار من السوق لشحنه إلى خارج لبنان، برعاية من داخل مصرف لبنان». وادّعت النيابة العامة المالية على مصرف «سوسيتيه جنرال» والصحناوي بصفته الشخصية وعلى المدير العام المساعد في المصرف. وأظهر التقرير التقني حول البيانات المأخوذة من شركة مكتّف لنقل الأموال، أن مصرف «سوسيتيه جنرال» حوّل مليار دولار مستخدماً لشرائها ليرات تزوّد بها من مصرف لبنان، وأن شركة مكتّف حوّلت 4 مليارات دولار خلال فترة زمنية محدودة.
وكان شهر آب 2019 قد شهد إجماع وكالات التصنيف على خفض تصنيف لبنان ووضعه في فئة «التعثّر عن الدفع». وهي استخدمت مؤشراً واحداً لتبرير ذلك هو نسبة الدين الخارجي القصير الأجل إلى حجم الاحتياطي بالعملة الصعبة. وجاء في نهاية ذلك الشهر وضع بنك جمّال على قائمة المصارف المتهمة بدعم الإرهاب ووضعه على قائمة المصارف قيد التصفية.
وبدءاً من مطلع أيلول 2019 أخذت أزمة السيولة بالعملة الصعبة تظهر في السوق. وكانت باكورتها رفض المصارف الاستمرار بتمويل مشتريات مستوردي المحروقات بالدولار كما في السابق. ثم توسّع رفض المصارف تمويل الاستيراد ليطاول أكثر من سلعة. وارتفع سعر الدولار في محالّ الصرّافة في منتصف أيلول إلى 1570 ل.ل./د. ورفض بيلنغسلي، مساعد وزير الخزانة الأميركي المتواجد آنذاك في بيروت أن تُتهم حكومته بأنها وراء خلق أزمة سيولة بالدولار. وفي أول تشرين الأول 2019، أصدر مصرف لبنان بياناً أوضح فيه أن سعر الصرف سيبقى ثابتاً بالنسبة إلى سلع ثلاث هي الأدوية والقمح والمحروقات، وأنه سيموّل استيرادها على هذا السعر. وانطلقت مذّاك سيرورة خفض سعر صرف الليرة. وقبل انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، كان سعر الدولار قد وصل في محالّ الصرّافة إلى 1600 ل.ل./د.

* أستاذ جامعي