هل يمكن الادّعاء أنّ الولايات المتّحدة منذ ثلاثة عقود تغيب عنها الفكرة والرؤية والإدراك الصحيح للعالم من حولها، هل هي بسّطت أو سطّحت مقاربتها للعالم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي – الحارس اللاواعي لتماسك سياساتها ورؤيتها الخارجية! وهل اكتشفت أنّها في عالم معقّد وأنّ الأحادية التي نشدتها وهم، وأنّ مقاربتها العالمية حتى حينه اقتصرت على العمل على القشرة التكتونية الظاهرية؟ وسرعان ما اصطدمت بالوقائع العميقة الكامنة تحت القشرة، ووجدت أنّها غير قادرة على اجتراح حلول لها وإدارة العالم كما توّقعت، فلجأت إلى إدارة الأزمات بدل حلّها. مع العلم أنّ إدارة الأزمات واللاحل ليست حلاً. حتّى غدت سمة سياستها العامة «التردد» كما أصّر على توصيفها كيسنجر في كتابه النظام العالمي طلائع الأمم ومسار التاريخ.وإذا كانت ولا تزال تمتلك كل الدوافع للهيمنة بحسب طبيعتها، فهل هي تمتلك العقيدة المتماسكة والأسس النظرية الوافية التي يتبناها المجتمع لإنفاذ هيمنتها أم باتت تفتقد لعقيدة هيمنة تتبناها الإدارة والمؤسسة وكذلك الشعب على السواء!
ونسأل:
- هل كان ينقصها المال، في أفغانستان أو العراق أو سوريا أو اليمن؟ هل كان تحتاج أجهزة الاستخبار والاستعلام؟ أم أنّ المشكلة كانت في تحويل هذه المعلومات الهائلة إلى معرفة وفكرة، والانتقال بالمعرفة والفكرة إلى قرار حصيف حين الفعل؟
- قبل انهيار الاتحاد السوفياتي وخلاله، سجّل لهيمنتها تنظيرات كبرى وشمول تراوحت بين حدّي فوكوياما وهنتغتون ولويس وعُرِف عند العديد من رؤسائها «عقيدة ريغن» وعقيدة فلان.
ماذا كانت تعوز القوة العظمى؟
- هل كانت الدوافع لحروبها وسياساتها واضحة ومحددّة خصوصاً في منطقتنا؟ أم كانت ملتبسة ومتأرجحة بين الأجنحة المتباعدة في الولايات المتّحدة الأميركية ذاتها؟ هل يستطيع أحد أنّ يجيب إذا ما كانت تريد الطاقة أم تريد بناء دول وديمقراطيات وتحرير للشعوب؟ أم الحرب على الإرهاب؟ أم تريد إظهار عظمتها وهيبتها من بوابة حربَي أفغانستان والعراق كمدخل لإحلال القرن الأميركي الجديد المرتجى عالمياً؟
- هل امتلكت رؤية دقيقة لإحداث التغيير الاجتماعي المدّعى؟ وإلى أي مدى أثبتت نظرية التغيير الذي جنحت إليه نخبها وتحمّست للتنظير له صوابيتها، فهل إذا أزحنا الأنظمة الديكتاتورية يتحقّق التغيير وتندفع الجماعة الإنسانية نحو الديمقراطية؟ هل كان البديل هو الانتقال إلى إدارة الأزمات ومحاولة البحث عن بدائل فانشغلت بتكاذب بيّن ومتبادل مع أدواتها (آخر نماذجهم جماعات السفارات من منظمات غير حكومية NGO) بعيداً عن الوقائع الصلبة والحقائق العميقة، ولم تصل إلى لبّ المجتمع وتؤثر في قواه وتجتذبها لتصوراتها.
- هل تنبّهت إلى أنّ قيمها لا يسهل تعميمها بل يستحيل، وبالتالي من هي؟ هل هي التجربة الاستثنائية التي لا يمكن تقليدها أم هي نموذج عالميّ يفترض تعميمه وهو وصفة سحرية لكل الأمم والمجتمعات كما تدّعي؟
- دلّونا على ساحة من الساحات تدخلت فيها الولايات المتّحدة الأميركية في العقود الثلاثة الأخيرة إلا خرجت بنتيجة أسوأ ممّا كانت فيه. فهل يمكن القول إنّها «للتدمير أقدر منها للبناء»؟
- هل يمكن القول إنّ مقارباتها تردّدت دوماً بين رؤيتين، أو لنقُل حدّين غير متّصلين، وتباعد الحدّين أيّما تباعد في ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي؟ حتّى غدوا بين حدّي إفراط وتفريط: إفراط الواقعية وتفريط المثالية؟ أو إفراط تنظيرات هنتغتون وجماعته وتفريط فوكوياما وأتباعه؟ وبين هذين الحدّين المتقابلين لم تنفرج عن سياساتها فلسفة ورؤية متكاملة إنّما مجموعة سياسات وتكتيكات نلحظ كيف يتزايد التضارب والتهافت فيها.
- أخيراً وليس آخراً يأتي السؤال عن تناقض القيم والمصالح. فمع توسّعها العسكري واندفاعتها دونما فرامل، وجدت أولاً أنّ لقوّتها حدوداً في زمن تتغيّر فيه أبعاد وسياقات القوّة، وأنّ الهوّة بين قيمها المدّعاة وبين مصالحها تزداد اتساعاً... فإمّا يتم تغليب القيم فتتقوى داخلياً وتهتمّ بتعزيز نموذجها وتتخفّف من بعض تحالفاتها الوثقى – من قبيل إسرائيل وبعض الأنظمة الخليجية – وإمّا تركّز على مصالحها وتترك جانباً دعاية الديمقراطية وحماية الحرّية، لكن التخّلي عن القيم يضرب في نهاية المطاف طبيعة الاجتماع الأمريكي الذي بُنيت سرديته على أساس أنّه المعني بالديمقراطية والحرّية، إلخ. وتؤكّد مدارسها تنامي الاتجاهات الكوزموبوليتانية (بمعزل عن الخلفية)، أي إنّ قوى مثل روسيا والصين ستكون أكثر ارتياحاً في التعاطي مع نموذج مصلحي واقعي فحسب. وإن قدّمت نفسها على أنّها معنيّة بتصدير قيمها، ستقع في صدام متعدّد الأوجه مع عالم دخل يقظة غير مسبوقة وعداءً مستحكماً معها.
بالعودة إلى النصف الأوّل من القرن الماضي، بعيد الحرب العالمية الثانية، أدركت أميركا العالم إدراكاً لافتاً، فأنتجت بدمج القوّة مع الفكرة صيغة جديدة ــــ النظام الدولي ومؤسساته ــــ استمرّ تأثيرها حتّى نهاية الألفية، لكنّها من بعد ذلك بدت مربكة بتحديد التصوّر وكيف يمرّ! هل عبر المؤسسات نفسها أم عبر إصلاحها أم من دونها – أي بالعودة عن النظام الدولي والتخلّي عنه، وبين هذا وذاك يبدو أنّ الرؤى والانقسامات بين قوى المجتمع الأميركي أكبر من أن تتوحّد، كما ويبدو أنّ تشابك الداخل الأميركي مع الخارج وتشابك المصالح وتوزّعها سيزيد من تباعدها.
ضربنا هذه الأمثلة وغيرها الكثير لما لا يتّسع له المقال لنخلص إلى القول إنّ أخطر ما تعاني منه أميركا اليوم هو غياب الفكرة، نعم الفكرة التي ترى من خلالها وتقدّم حلولاً عبرها. فالعالم اليوم يحتاج إلى من يقدّم حلولاً لا لمن يدير أزمات. واقترب زمن العبث بالتاريخ من نهاياته، فبات مكلفاً جداً، كما إنّ أكبر تحدّيات الزمان هو اكتساب المقبولية والمشروعية وليس امتلاك مزيد من التقنيات العسكرية والقوّة المضطربة، وهو ما تخسره أميركا مع كل عقد ينبلج وجيل يصعد.
الفكرة في هذا الزمن بالذات تتقدّم على العمل... ربّما أكثر من كلّ زمن.

* باحث لبناني