تشكّل معاهدة «أوكوس» الأميركية ــ البريطانية ــ الأسترالية في عام 2021، التجسيد العملي لتوجّهات بريطانيا كما عبّر عنه استفتاء «البريكزيت» في عام 2016 للخروج من الاتحاد الأوروبي. وعلى الأرجح أن «أوكوس» هي التعبير الأول للسياسة البريطانية الخارجية الجديدة في مرحلة «ما بعد البريكزيت». الإنكليز الذين بنوا ذات يوم إمبراطورية ضخمة ما وراء البحار، بعد انتصارهم على الإسبان في معركة الأرمادا (1588)، وتسيّدهم البحار، يتجهون اليوم نحو سياسة بريطانية عالمية جديدة، بالتشارك أساساً مع الولايات المتحدة، بعيداً عن البر الأوروبي.من يقرأ التاريخ والأدب الإنكليزيين، يلاحظ أن هناك وعياً جزيرياً، ممزوجاً بكثير من الانعزالية والحساسية الكارهة للأوروبيين ــ الفرنسيين خصوصاً. وهذا موجود منذ الغزو النورماندي عام 1066 من البر الفرنسي لإنكلترا، وقد كان الغزو البحري الوحيد الناجح من البر الأوروبي، وهو ما فكّر في تكراره كل من نابليون بونابرت وأدولف هتلر، ثم عدلا عنه قبل تنفيذه بسبب احتمالات كبيرة للفشل. ربما كان غزو النورماندي من الجزيرة البريطانية ونزول الحلفاء في بر فرنسا المحتلة من الألمان عام 1944، رداً من ونستون تشرشل، المهووس بالتاريخ، على غزو 1066، وربما لتبيان دور إنكلترا المتحالفة مع الولايات المتحدة، كمنقذ للأوروبيين.
ربما، لم تكن الكراهية بين تشرشل وديغول التي ظهرت أثناء لجوء الجنرال الفرنسي إلى لندن بين عامَي 1940 و1944، حساسية شخصية. بل نجد كراهية البريطانيين عند خصوم ديغول، من أتباع جمهورية فيشي بقيادة الماريشال بيتان الذين تعاونوا مع الألمان زمن الاحتلال. كما أن هذه الكراهية الديغولية قد ظهرت ضد تشرشل والجنرال سبيرز في مذكرات ديغول، أثناء تناوله للدور البريطاني في حوادث لبنان 1943، والحوادث السورية 1945. وقد كان معادياً لاستمرار السيطرة الفرنسية في لبنان وسوريا. ولم يكن ممكناً دخول بريطانيا في السوق الأوروبية المشتركة إلا بعد تنحي الجنرال عن السلطة عام 1969. وقد كان في الستينيات يقول أثناء معارضته لدخول بريطانيا «السوق الأوروبية المشتركة» (أصبحت «الاتحاد الأوروبي» بعد ميثاق ماستريخت عام 1993)، بأن بريطانيا ليست دولة أوروبية. وهذا ما أكده البريطانيون في استفتاء البريكزيت. ربما كان تاريخ 1066، ومعه حرب السنوات السبع الفرنسية ـــ البريطانية (1756 ــ 1763)، والحروب النابليونية (1803 ــ 1815) التي لعبت فيها لندن دوراً رئيسياً في انكسار وهزيمة نابليون بونابرت، هي ينابيع هذه الكراهية الفرنسية ـــ البريطانية. لكنّ استمرارها إلى الآن، وتفجّرها بشكل عنيف كما جرى مع «أوكوس» في أيلول/ سبتمبر 2021، يدفعان للتساؤل عن عمق الحساسية بين ضفتَي بحر المانش.
كان بسمارك يقول : «ألمانيا وحش بري، وبريطانيا وحش بحري ويجب ألا يتصادما»، وبالتأكيد كان التوافق بينهما مبنياً على إبقاء فرنسا ضعيفة بعد هزيمتها أمام البروسيين في معركة سيدان (1870)، وتدشين الوحدة الألمانية في السنة التالية. ولم يحصل التوافق البريطاني ــ الفرنسي إلا كردّ فعل على محاولة امتداد خلفاء بسمارك في برلين إلى المشرق، ما أثار فزع لندن، خصوصاً بعد زيارة الإمبراطور الألماني لدمشق عام 1898. كانت محاولة هتلر الاتفاق مع تشرشل عقب هزيمة فرنسا واحتلالها، في نفس سياق رؤية بسمارك، ما رفضه رئيس الوزراء البريطاني ــ الذي ظل وحيداً بين صيفَي 1940 و1941 حتى الغزو الألماني للاتحاد السوفياتي ــ في وجه هتلر الذي سيطر على معظم البر الأوروبي. وكان الأخير يراهن على أن توريط واشنطن في الحرب سيقلب الموازين، ما حصل في الشهر الأخير من عام 1941 بعد الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربور.
يمكن للسياق التاريخي المعروض في هذا النص أن يبين أن وجود لندن في الإطار الأوروبي، يمثل استثناءً وخروجاً على القاعدة التي حكمت تاريخ الجزيرة على الشاطئ الغربي لبحر المانش في علاقتها بالبر الأوروبي،. كما يبيّن أن البريكزيت هو إجراء متساوق مع المجرى العام التاريخي للجزيرة. صحيح أن العلاقات الاقتصادية للجزيرة البريطانية مع البر الأوروبي متينة، لكنّ البريطانيين يقرأون جيداً موازين القوى العالمية. إنّهم يعرفون أن أوروبا لم تعد مهمة في التوازن العالمي الراهن، مع انتقال الثقل الاقتصادي العالمي في القرن الحادي والعشرين إلى «منطقة المحيط الهادئ «الباسفيك ــ المحيط الهندي» الذي يعتبر نص معاهدة «أوكوس» أنها منطقة واحدة. لهذا وضع البريطانيون بيضهم في السلة الأميركية، من أجل مواجهة العملاق الصيني النامي، واستثمروا العلاقة الاجتماعية ــ الثقافية ــ التاريخية البريطانية مع أستراليا، من أجل جعلها رأس حربة، مدرّعة بغواصات تشتغل ضد الصينيين بالطاقة النووية الأميركية ــ البريطانية. وعلى ما يبدو، سيستثمر الحلف الثلاثي الجديد علاقة مماثلة من أجل جذب الهند إلى «أوكوس»، وهي على خصومة قديمة مع الصين تعود إلى عام 1962... كما سيستثمر الأميركيون روابطهم الخاصة مع اليابانيين من أجل جعل «أوكوس» خماسياً.
*كاتب سوري