كأن الوحدة المصرية ـــ السورية فصمت قبل سنة أو اثنتين، لا من ستين سنة كاملة.التجربة ما زالت ماثلة في الذاكرة العامة بأحلامها وانكساراتها رغم أن الأغلبية الساحقة من شهود الحدث التاريخي غادروا الحياة.
كانت التجربة ملهمة لمجايليها ولمن أتوا بعدهم بأن بناء دولة عربية قوية ومنيعة ممكن، وأن مراجعة الأخطاء والخطايا التي أفضت إلى فصم عراها بالدرس والتعلم واجب.
من مفارقات التواريخ أن جمال عبد الناصر رحل في 28 سبتمبر 1970، وهو نفس يوم الانفصال قبل تسع سنوات 1961.
عند إعلان الوحدة المصرية ـــ السورية في فبراير 1958 تدفقت المشاعر كطوفان والأحلام لامست السماء في بناء دولة قوية وموحدة «تصون ولا تهدّد تحمي ولا تبدّد تصادق من يصادقها وتعادي من يعاديها».
بين حلم الوحدة وكابوس الانكسار قصة طويلة وأليمة أُهدرت فيها كل القضايا، وارتُكبت كل الخطايا واستُبيحت كل المحرمات.
يقال عادة: «لا حرب بلا مصر ولا سلام بلا سوريا».
وقد ثبتت صحته في مسار وتعرجات الصراع العربي ـــ الإسرائيلي.
بحقائق الجغرافيا السياسية إذا ما سقطت سوريا تتقوّض مصر ويخسر العالم العربي كلّه أية مناعة تحول دون تفكيك دوله والتلاعب بمصائره.
هذه واحدة من بديهيات نظرية الأمن القومي.
بعد حرب السويس ١٩٥٦ وفشل إخضاع مصر وضعت خطة «استراجل» التي تقضي بأن إسقاط سوريا يفضي مباشرة إلى عزل مصر وبعثرة العالم العربي.
بحكم موقعها الجغرافي لم يكن ممكناً لسوريا أن تنغلق على نفسها تحت أي ادعاء، أو أن يكون لها مستقبل خارج عالمها العربي بأية ذريعة.
لم تكن مصادفة أن سوريا ـــ بالذات ـــ هي البلد الذي احتضن الفكرة العروبية في مواجهة «التتريك» ونشأت فيه ـــ قبل غيره ـــ الحركات ذات التوجه القومي العربي.
كما لم تكن بلاغة تعبير أن توصف بـ«قلب العروبة النابض».
بحكم موضعها في المشرق العربي فهي عاصمته الطبيعية.
وبحكم اتصال الأمن القومي المصري بها فهي توءمته.
وبحكم حدودها مع الدولة العبرية فهي طرف في صراع وجودي.
وبحكم امتداد ساحلها على البحر المتوسط فهي مركز استراتيجي.
وبحكم اتصالها بشبه الجزيرة العربية، حيث موارد النفط فهي تحت بصر المصالح الغربية.
أكدت الحقائق نفسها، لا عالم عربي بلا مصر التي تمثل ثلث كتلته السكانية، ولا نهضة عربية بلا سوريا ـــ مهما حسنت النوايا والتوجهات.
«انتصرت إرادة العرب... لا فراغ في الشرق الأوسط، ولا مناطق نفوذ».
هكذا تحدث عبد الناصر في لحظة الصعود.
السياق التاريخي ضروري لفهم ما جرى من تدافع للحوادث وصلت ذروتها بإعلان الوحدة المصرية ـــ السورية.
كان يخوض حرباً مفتوحة ضد سياسات ملء الفراغ والأحلاف العسكرية بعد تقويض مكانة إمبراطوريتين سابقتين هما البريطانية والفرنسية بأثر النتائج السياسية لحرب السويس.
وكان العصر الأميركي قد بدأ يطل على العالم العربي في ظروف حرب باردة أعقبت الحرب العالمية الثانية.
كانت الوحدة المصرية ـــ السورية خطوة متقدمة أكدت قدرة العالم العربي على ملء الفراغ بنفسه دون حاجة إلى أحلاف تخضع لحسابات استراتيجية ضد مصالحه ومستقبله.
كما كانت تطويراً لنتائج حرب السويس، التي ألهمت حركات التحرر الوطني في العالم الثالث ـــ كأن فوران غضب على الإرث الاستعماري اندلع فيه.
المعاني أهم من الرجال، والقضايا الكبرى تلهم الناس العاديين أنهم يمكن أن يصنعوا تاريخهم بأنفسهم، وأن يوقفوا أي امتداد جديد لقرون من الإذلال والتهميش.
عندما تشاهد على شرائط مسجلة مئات آلاف البشر تتدافع لرؤية عبد الناصر والاستماع إليه، عندما وصل لأول مرة في حياته إلى دمشق فلا بد أن تنصت لصوت التاريخ، وتدرك بالعمق أنها كانت تهتف للمعنى قبل الشخص، وأن هذه لم تكن «انفعالات عواطف» بل حقائق تاريخ.
في مثل هذا اليوم قبل ستين سنة جرى فصم الوحدة المصرية ـــ السورية بانقلاب عسكري رعته الاستخبارات الأميركية، ومولته المملكة العربية السعودية، وشاركت فيه الأردن، وآزرته تركيا، وهللت له إسرائيل.
سأل عبد الناصر الملك سعود بن عبد العزيز، بعد أن جاء للقاهرة لاجئاً سياسياً عقب إطاحته: «هل صحيح أنك دفعت ٧ ملايين جنيه إسترليني حتى يتم الانفصال؟».
أجابه: «طال عمرك.. ١٢ مليون جنيه إسترليني».
رغم الخطط والمؤامرات على الوحدة المصرية ـــ السورية، وكلها ثابتة في وثائق وشهادات واعترافات، إلا أنها سقطت من داخلها قبل أي فعل خارجي، وتسببت أخطاء جوهرية في صميم التجربة بتسهيل الانقلاب.
على مدى عقود طويلة نشرت آلاف الدراسات عن الوحدة وأسباب الانفصال.
باليقين فإن عبد الناصر يتحمل جانباً من المسؤولية، لم يكن عبد الحكيم عامر مؤهلاً لإدارة دولة الوحدة من دمشق والانقلاب حدث من داخل مكتبه.
كما أن عدم تغييره بعد الانفصال كان خطأ جسيماً أفضى ـــ ضمن أسباب أخرى ـــ إلى الهزيمة العسكرية في يونيو بالحجم الذي حدثت به.
رغم ذلك تتبدى الوحدة في الذاكرة العامة كحلم يستعصي على محاولات الإجهاز عليه.
أجهزوا على تجربة عبد الناصر واصطادوها من ثغراتها، لكن للأحلام مناعة أكبر وعمراً أطول.
قالوا إن الوحدة «وهم ناصريّ»، وأن مصر فرعونية أو شرق أوسطية، أو أي شيء آخر غير أن تكون عربية، لكن الحقائق تغلب باستمرار.
فمصر ـــ بالثقافة والهوية والجغرافيا والتاريخ ـــ مشدودة إلى محيطها العربي، المصائر مشتركة، والقضايا واحدة وعندما تنّكرت مصر لأدوارها جرى ما جرى لها من تهميش وتراجع في المكانة.
يستلفت الانتباه في أداء عبد الناصر لحظة الانفصال مدى إدراكه للحقائق في سوريا وخشيته على مستقبلها.
بعد الانفصال بأسبوع قال في خطاب بثته الإذاعة المصرية، كأنه يقرأ طالع أيام لم تأتِ بعد: «إن الوحدة الوطنية في الوطن السوري تحتل المكانة الأولى.. إن قوة سوريا قوة للأمة العربية وعزة سوريا عزة للمستقبل العربي والوحدة الوطنية في سوريا دعامة للوحدة العربية وأسبابها الحقيقية».
«لست أريد أن أقيم حصاراً سياسياً أو دبلوماسياً من حول سوريا، فإن الشعب السوري في النهاية سوف يكون هو الذي يعاني من هذا الحصار القاسي».
وكان مما قال في ظروف الانفصال: «ليس مهمّاً أن تبقى الوحدة، المهم أن تبقى سوريا».
أوقف التدخل العسكري المصري بعد أن أرسلت قوات إلى اللاذقية خشية إراقة الدماء.
وكان ذلك إجراء سليماً، رغم صعوبته، فلا وحدة تتأسس على إراقة دماء.
كان للانفصال عواقب استراتيجية أوصلتنا إلى الكوابيس المقيمة.
تراجع زخم حركة التحرر الوطني في العالم العربي وقوة حضور المشروع القومي.
كان أسوأ ما جرى عند تفاقم الأزمة السورية تدويلها وإحالتها من الجامعة العربية إلى مجلس الأمن، وتجميد السفارة السورية بالقاهرة على عهد الرئيس الأسبق محمد مرسي وإخلاء مقعدها في الجامعة العربية.
كان ذلك داعياً إلى رفع درجة التدخلات الأجنبية، ووضع المصير السوري كدولة موحّدة في مهب النيران دون سعي حقيقي لإخمادها.
تلوح في الأفق الآن عودة سورية محتملة إلى عالمها العربي باستعادة مقعدها في الجامعة العربية.
هناك من يمانع، لكن العودة محتمة.
رغم ما تبدو عليه الجامعة العربية الآن من أوضاع انكشاف وضعف إلا أن الوجود السوري برمزيته وموقعه يساعد بصورة أو أخرى في قطع الطريق أمام إسرائيل أن تتطلع لملء الفراغ الاستراتيجي في منطقة الخليج بالذات إذا ما انسحبت القوات الأميركية من العراق كما هو متوقع من ضمن استراتيجية معلنة للتمركز في الشرق الآسيوي حيث الصراع على المستقبل مع الصين.
كان لقاء وزيرَي خارجية مصر وسوريا في نيويورك حدثاً لافتاً بتوقيته ورسائله أن عودة سوريا أصبحت قريبة بأكثر من أي تصور.
الجديد ـــ هذه المرة ـــ انتقال التفاهمات من الكواليس إلى العلن، من ما هو أمني إلى ما هو دبلوماسي.
بصورة أو أخرى فإن التحولات والانقلابات الإقليمية المحتملة إذا ما أعيد إحياء الاتفاق النووي الإيراني مترافقاً مع الانسحاب الأميركي من العراق تدعو للإسراع في عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وقد حان الوقت أن تقول مصر كلمتها.
* كاتب وصحافي مصري