رست أخيراً باخرة حزب الله المحمّلة بالمشتقات النفطية في مرفأ بانياس على الشاطئ السوري. وفي بلد كلبنان يحمل هذا الخبر الكثير من الدلالات والمؤشرات. ففي وسط التعقيدات السياسية والانهيار الاقتصادي والأزمة الاجتماعية الحادة ينظر بعض اللبنانيين إلى الباخرة على أنها انفراجة مرتقبة في ظلّ الأوضاع التي يخيم عليها الإحباط، بينما يراها آخرون نذير شؤم يستدرج العقوبات الأميركية. هذه المرة لم يكن الحزب مجرّد ناصح للدولة اللبنانية للتوجه شرقاً، بل إنه فعلها بنفسه بعد أن أخفقت محاولاته مراراً في لعب دور الناصح، وبعد أن صُمّت آذان الساسة عن سماعه في هذا الشأن. ليس من السهولة بمكان أن يأخذ الحزب قرار البواخر هذا، لأنه بذلك يشرّع الساحة اللبنانية على مزيد من الاستقطاب الإقليمي والدولي، ويعقّد ديناميات الداخل المتشابكة في كلّ الأبعاد والاتجاهات. بيد أن ما بدا لافتاً خروج الحزب من توجسه الذي كان يؤخذ عليه دوماً، وهو المواجهة المباشرة مع المنظومة الأميركية المتوغلة بعمق في الاقتصاد السياسي اللبناني.
لا شك أن للحزب أولوياته المرتبطة بدوره في الصراع مع الكيان الإسرائيلي، وهو يدرك جيداً ماذا يعني أن يكون مستهدَفاً من أكبر القوى الدولية، إلّا أن ما آلت إليه الأمور من واقع اقتصادي واجتماعي متردٍّ جعل الحزب مثقلاً بأعباء المشكلات المتفاقمة التي تعاني منها حاضنته الاجتماعية. وبات من الصعب احتواء الموقف بمجرد الطروحات النظرية للحلول أو من خلال الخطاب الديني المشحون بأدبيات الصبر والتبصر أو عبر جهوده ومساعيه في المساعدات الاجتماعية، ولذا كانت مبادرة البواخر الإيرانية التي أعلنها أمينه العام السيد حسن نصر الله.
كسرَ الإعلان عن البواخر جمود الواقع السياسي اللبناني، وأعاد الحيوية للأدوار التي احترفت التعطيل طوال الفترة السابقة على الرغم من النزيف اللبناني اليومي على كل صعيد. وعلى أثر الإعلان مباشرة كانت السفيرة الأميركية دوروثي شيا تطلق مبادرتها لاستجرار الكهرباء من الأردن وغاز مصري يمر عبر الأراضي السورية. لم تكن لترتسم معالم هذه الخريطة الجيوسياسية والجيواقتصاية المحظورة أميركياً لو لم تنطلق البواخر من سواحل إيران مدفوعة برياح الشرق.
ويمكن إجمال ما تحمله بواخر حزب الله من دلالات كما يلي:
- توسعت دائرة الصراع بين المقاومة وإسرائيل لتشمل العامل الاقتصادي الذي أضحى في صلب قواعد الاشتباك. في هذه الجولة خرج حزب الله رابحاً بعد أن وصلت بواخره بسلام عابرة نقاطاً عديدة للنفوذ الأميركي والإسرائيلي في المياه الدولية والإقليمية، فضلاً عن مرورها بمأمن من الاستهداف الجوي. المأمن الذي ظلّلته معادلة السيد نصر الله عندما اعتبر أن البواخر أرض لبنانية، وبالتالي فإن أي اعتداء عليها هو بمثابة الاعتداء على لبنان.
لا يقود ذلك بالضرورة إلى معرفة ما ستكون عليه الجولات التالية، وإذا ما كانت الآلة الحربية الإسرائيلية ستوجّه ضربة إلى بواخر الحزب، خصوصاً أن المصلحة الإسرائيلية تكمن في الإبقاء على الواقع اللبناني المأزوم، وفي فرض قيود العزلة على ما تبقى له من شرايين تمدّه بأسباب الحياة. الأمر الذي من شأنه ـــ بحسب وجهة النظر الإسرائيلية ـــ إرباك حزب الله وإدخاله دوامة من الانهماك والاستنزاف في الداخل اللبناني، وإضعاف شبكة تحالفاته وتضاؤل رصيده الجماهيري.
كرست الباخرة حقائق التاريخ والجغرافيا التي لا يمكن تجاوزها، وأعادت لبنان إلى موقع التلاقي مع سوريا بعد قطيعة رسمية طويلة


على المقلب الآخر تعيش تل أبيب إرباكاً شديداً أيضاً حيال طريقة تعاملها مع البواخر، فضربها قد يعني تدحرج الأمور نحو الحرب التي لا تريدها أميركا في لحظة انسحاب قواتها من الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وكذلك يحذّر منها العديد من الدوائر المرتبطة بصنع القرار في إسرائيل، وفي هذا السياق يندرج تصريح وزير الأمن بني غنتس أخيراً بأن «الصواريخ الدقيقة التي يملكها حزب الله تشكل خطراً وجودياً على إسرائيل». في حين أن الإحجام عن التعرض للبواخر سيمنح حزب الله مزيداً من الفرص للخروج من المأزق الداخلي وقد يتحول إلى لعب دور المُنقذ بدلاً من كونه المتهم الأول من قِبل شرائح لبنانية مناوئة بأنه السبب الرئيسي للأزمة اللبنانية.
- استعاد حزب الله موقع المبادرة في ميدان المواجهة الاقتصادية، بعد أن طغى على دوره أسلوب رد الفعل وامتصاص الصدمات. سوّغ الحزب غير مرة تبنّيه لهذا الأسلوب بعدم قدرته على تحمل تبعات المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة وإمبراطوريتها الخفية في البنى الاقتصادية اللبنانية، فهو لا يستطيع أن يحمل وزر تحول لبنان إلى قطاع غزة آخر أو فنزويلا ثانية.
راهنت أميركا وحلفاؤها في لبنان على هذه المبررات، ما صعب عملياً التوقع بأن يذهب الحزب إلى خطوات تمسّ بالخطوط الحمراء المحدّدة أميركياً على المستوى الاقتصادي. كان من المفاجئ للجميع وحتى لحزب الله أن تسارع الولايات المتحدة إلى محاولة تجويف إعلان الحزب عن البواخر عبر إعلان شيا استجرار الكهرباء من الأردن وعن طريق سوريا التي يحاصرها قانون قيصر للعقوبات الأميركية.
تبيّن أن ما كان يخشاه البعض من انعكاسات تجاسر الحزب على قيود أميركا الاقتصادية هو أقل من الحجم المتوقع. وعوضاً عن أن تنحو واشنطن لسياسة العصا الغليظة عبر العقوبات، وضعت نفسها في سباق مع حزب الله في محاولة لتفويت الفرصة من أمامه لمنعه من صناعة أي إنجاز. يثير ما حصل نقاشاً يرتبط بعمقٍ بعنصر مهم من عناصر التأثير في لعبة توازن القوى وهو المكانة والهيبة الأميركية. صحيح أن أميركا ما زالت تحافظ على العديد من نقاط القوة في الساحة اللبنانية، إلا أن مكانتها قد دخلت مراراً دائرة الانحدار، وقد لا يكون آخر المكامن هو بواخر المحروقات الإيرانية.
ليس من المبالغة القول بأن مقاليد الهيمنة الأميركية في حالة تراجع، فهو أمر تتبناه مجموعة من النخب الأميركية، أحدهم فرنسيس فوكوياما صاحب نظرية نهاية التاريخ المستوحاة من تربع الولايات المتحدة على قمة النظام الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. في مقاله حول «مستقبل القوة الأميركية» انتهى فوكوياما إلى القول بأن «على الأغلب لن تسترجع أميركا هيمنتها، ولا ينبغي لها أن تطمح لذلك، ما يمكن أن تطمح إليه هو الحفاظ على نظام عالمي يحترم القيم الديمقراطية، واستعادة شعورها بالهوية الوطنية».
- كرست الباخرة حقائق التاريخ والجغرافيا التي لا يمكن تجاوزها بسهولة، وأعادت لبنان إلى موقع التلاقي مع سوريا بعد أن كانت القطيعة الرسمية سيدة الموقف بين البلدين بضغط أميركي. لقد نقضت واشنطن موجبات ومفاعيل قانونها قيصر الذي فرضته لحصار سوريا وإضعاف الأسد، وأدخلت دمشق إلى خريطة التأثير مجدّداً في المسرح اللبناني ولو بحدود ضيقة. وللمفارقة أدخل الحزب إيران إلى خط الأزمة اللبنانية عبر البحر ولم تلبث أميركا أن جاءت بسوريا أيضاً من خلال معابر البر، التقت حلقات محور الممانعة في الساحة اللبنانية مجدداً وبمساهمة أميركية. يحرج ذلك حلفاء واشنطن في لبنان، ويجعل حججهم في التصويب على حزب الله أقرب إلى ممارسة دور روتيني منه إلى إضافة قيمة وازنة يمكن أن تُلحق الأذى بصورة الحزب تهشيماً وشيطنة وتقزيماً.
في المحصلة، يدرك حزب الله جيداً أن منطق الأمن وحده مجرداً من أيّ رؤية اجتماعية واقتصادية قادرة على اختراق تعقيدات الواقع اللبناني وأزماته البنيوية، ليس بالأمر المجدي، وهو يعي تماماً أن ركائز القوة لا يمكن أن تُختزل بمعادلات السلاح وحسب. يبدو أن الحزب بات أقرب إلى تبني مقاربات أكثر جرأة في حلبة الاشتباك الاقتصادي مع أميركا. وبما أن هذا المسار ما زال في بداياته فإنه من المبكر الحديث عن انكسار أميركي حتمي في معركة الاقتصاد داخل حدود المسرح اللبناني، فأميركا ما زالت تمسك بمفاتيح اللعبة الاقتصادية في الساحة الدولية.
ثمة من ذهب إلى القول بأن بواخر حزب الله ستشكل نقطة تحوّل يمكن أن يبني عليها الحزب معادلات جديدة تكتنف منطق المبادرة الجريئة في ميدان الاقتصاد لاستدراج المبادرات الأميركية والمساعدات الدولية والإقليمية للبنان وإخراج الدور الأميركي من طور التعطيل، فهل ستكون فعلاً انعطافة بأبعاد استراتيجية، أم أنها ستكون فرصة ضائعة على أرض الفرص الضائعة «لبنان»؟
* باحث لبناني