أثار انعقاد ما سمي بمؤتمر في فندق في مدينة أربيل، عاصمة إقليم كردستان- العراق يوم الجمعة الماضي (2021/09/24) أسئلة وجدلاً عن أهدافه وتوقيته ومموليه وشعاره وحضوره. ونُشر عنه كثير في وسائل الإعلام المختلفة، أبرزه الإنكار والتنكر له وما حدث فيه. المعلومات التي وُزّعت إعلامياً وانتشرت عبر وسائل الإعلام المختلفة أكدت عقده برعاية وتنظيم مؤسسة أميركية تحمل اسم «مركز اتصالات السلام» ومقره نيويورك ورئيسه جوزيف براودي (Joseph Braude)، وفي السيرة الذاتية لبراودي، هو أكاديمي أميركي يهودي من أم عراقية ويحمل الجنسية الإسرائيلية أيضاً، ويعمل كمستشار لدى مركز دراسات مموّل إماراتياً. ومستشار لـ«مركز المسبار للدراسات والبحوث» الذي أسسه سفير السعودية حالياً لدى أبو ظبي، تركي الدخيل. ولكن المخفي عنه أنه اعتُقل من قِبل السلطات الأميركية في مطار نيويورك عام 2003 بعد العثور على عدد من القطع الأثرية بحوزته مسروقة من المتحف العراقي وسجن إثرها، وتدافع وسائل الإعلام الخليجية، حسب مواقف حكامها ودرجات التقارب أو التفاهم مع السياسات الصهيوغربية، لتصويره ونقل تصريحات عنه ومهمّته أو محاولة الغمز منها. كل وسائل الإعلام التي ذكرت أخبار المؤتمر، أعادت نشر نص رئيس المركز جوزيف براودي، «إن المؤتمر نجح في استقطاب نحو 300 شخصية عراقية (أكراد وسنة وشيعة)، من ست محافظات هي بغداد والموصل وصلاح الدين والأنبار وديالى وبابل».
لكن لا أحد تمكن من إثبات صحة ما نُقل عن رئيس المركز الأميركي، كما ظهر في وسائل الإعلام، ولا يصدق ما تحدث عنه ولا سيما عن الأرقام وتشكيلة الحضور. بل إن هناك من سرب أخباراً عن غلق أبواب القاعة وسحب الهواتف ومنع الخروج، وكذلك نقل عن ما أعلنه بعضُ من حضر واختلف مع دعاته، وكشف تناقضات الدعوة ومحتوى المؤتمر المزعوم. وفضح الشعار المرفوع في القاعة «السلام والاسترداد»، بما حمله من خداع، في عنوانه ودلالاته، وساد القاعة التشويش والتضليل وعرى المشاركين فيها، رغبة أو استجابة لضغوط أو تمويه وتواطؤ وادّعاء مواقف ومقامات. فقد نُشرت أيضاً رسائل صوتية لعدد من الحضور يشتمون فيها كذب الشخص الداعي والمغرِّر بهم، وتهديده بالفضح والإدانة. كما سُربت أخبار عن تنكر أصحاب الدعوة العراقيين أنفسهم ورسائل اعتذار عن مشاركتهم في المؤتمر. ولم تكشف الجهات المسؤولة عن إعلام المؤتمر غير ستة فيديوات صوتية لخمسة مشاركين عراقيين وصورة صوتية بالعبرية لابن شيمون بيرز، الصهيوني المعروف، كما أشير إلى مداخلات لأسماء صهاينة أميركيين وغيرهم من دون نشر ما يثبت ذلك. وما نُشر إعلامياً عنه من صور سريعة لحضور الأغلب فيه يرتدي الزي العربي والأغلب بكمامات تغطي وجوهه، ولم يظهر رغم كل الهمروجة الإعلامية أي اسم وصورة لمثقف أو صحافي أو متحدث باسم ما نسب لتشكيلة الحضور العراقي، وفق ما صرح به ممول المؤتمر أو مؤيدوه في المنطقة.
الأسماء العراقية التي وزعها الإعلام المتبني للمؤتمر، هي المقدمة وقارئة البيان الختامي سحر الطائي، الموظفة في وزارة الثقافة العراقية، (اختلف على عنوانها الوظيفي) ولها نشاطات سياسية غير معلنة أو معروفة قبل هذا الظهور. والشخص الثاني هو وسام الحردان، عسكري سابق وشيخ عشائري ومن قادة صحوات الأنبار، (المجموعات العشائرية التي دربتها القوات الأميركية وارتبطت بها في محاربة تنظيم «داعش» الإرهابي)، وله صلات مع قوائم انتخابية باسم مكونه ومنطقته. وقرأ الكلمة المكتوبة له ودعا إلى تطبيق اتفاقيات ابراهيم علي، (هكذا قرأها بصوته وصورته) من دون معرفة بمعناها وصياغة سطورها. والشخصية العشائرية كنعان الصديد وهو الآخر استثمر اسم عشيرته وموقعها السياسي في الإقليم والعراق. وقراءة الورقة المكتوبة له داعياً إلى «التطبيع» مع الكيان الصهيوني بدون خجل أو وجل. والآخر هو العسكري السابق (يقدم برتبة فريق) والمرشح للانتخابات القادمة عامر مخيف الجبوري، والذي قرأ أيضاً ورقته المكتوبة له، وأكد فيها على السلام بين الشعوب والاعتراف بدولها، وآخر من سُربت كلمته سعد العاني الذي ادّعى تمثيليه أمين عام حزب سياسي محظور، وكان محسوباً على النشاط الرياضي العراقي، وكشف في الكلمة التي قرأها عداءه والمؤتمر لإيران والصين، (فقط!) ودعوته إلى التطبيع بصلافة مع الكيان. حيث قرأ ما كتب له، «إن العدو الحقيقي هو الفارسي الصيني الممثل بولاية الفقيه، وإن استمرار الخصومة مع أشقائنا وأبناء عمومتنا اليهود الذين لهم كل الحق بالعيش في أرضهم التي ولدوا فيها وترعرعوا على أرضها وساهموا في نسج أفكارها ومعتقداتها وساهموا في بناء اقتصادها، وولادة الدولة العراقية الحديثة، المزدهرة...». (هكذا نصّاً!).
هذه الأسماء وما نُشر عنها لا تمثّل ما ادّعته اسماً ولا واقعاً إلا أنفسها الفردية. وقد أثار انعقاد المؤتمر في أربيل وتوقيته وغموض المشاركة والمكان والزمان لغطاً وتشويشاً لما رُبط بينه وبين ما يؤشّر لأحداث متتالية، مثل انتخابات برلمانية، وذكرى موعد استفتاء كردي للانفصال عن العراق، وفشل في التوافق الوطني وانقسامات واسعة في التيارات السياسية العراقية، كما هو الحال في الشؤون السياسية الخارجية، من الهروب الأميركي من أفغانستان، وإلى الانسحابات العسكرية من المنطقة وتوحش الاحتلال الإسرائيلي في قمع الشعب العربي في فلسطين.
مجرد الإعلان عن انعقاد المؤتمر وتمرير المواقف الرسمية منه كشف عن اختراق أمني وسياسي يضاعف المسؤولية على الجهات الرسمية في الإقليم والمركز، ويعرّي طبيعة الاتصالات والعلاقات بينهما، ولا تغطّي البيانات الرسمية الفضيحة التي حدثت. وكان لشكر القائمين على المؤتمر للجهات الرسمية على توفير فرصة الانعقاد وحمايته، في الإعلانات المنشورة، دليل على التأكيد على كذب مفضوح ومفتوح تتقاسمه الجهات المشاركة والممولة والداعمة والحاضرة والمصدّرة للبيانات الكوميدية للاستنكار اللفظي.
لعل أفضل ما حصل رغم الفضيحة هو ردّ الفعل الشعبي الواسع والإدانة الكاملة لكل متبنيات المؤتمر والأسماء التي أعلنت فيه، ما دفع الأحزاب والقوى السياسية في العراق وخارجه إلى إصدار بيانات إدانة وتوضيح موقف عن القضية الفلسطينية ونضال شعب فلسطين المحتلة. الأمر الذي فتح الباب أمام تعرية المواقف السابقة لانعقاد المؤتمر، لا سيما من جهات رسمية، سواء في أربيل أو بغداد، وصمتها أو مساومتها في فسح المجال لأصوات نشاز في وسائل الإعلام للحديث عن التطبيع والاعتراف بدولة الاحتلال والاستيطان الصهيوني، مخالفة الدستور والقوانين العراقية السارية والسياسة الرسمية المعلنة، وبعضها عضو في البرلمان، حالياً أو سابقاً، ومتحدثاً باسم رسمي أو حزب سياسي مشارك في العملية السياسية ومتحالف معه فيها.
انتهى المؤتمر زمنياً ولكن محاولته الاختراق وجسّ النبض والإمكانيات التي توفرت له باقية وستظلّ دوامتها ما لم يتقرر قانونياً تجريمه وتجريم كل الفاعلين في أهدافه ومسعاه، أفراداً وتنظيمات، ومحاكمة الناشطين في إطاره، شعبياً ورسمياً، وإعلان الرئاسات رسمياً موقفها الحاسم، المستند إلى قانون يقره مجلس الشعب، من قضية التطبيع والاعتراف، قبل أن تُمرّر كغيرها من الأمور التي يعاني منها العراق اليوم.

*كاتب عراقي