في الأسابيع الأخيرة تحوّل الانهيار من مسار وشيك تُحذّر القوى المختلفة من وقوعه إلى حقيقية معاشة أصبحت معالمها واضحة وجليّة. فكل ما يمكن أن يصيب المجتمع اللبناني من أزمات تحقّق توالياً، من ناحية النوع على الأقل - بينما مستوى الأزمات قد يحتمل التمدّد والتوسّع. وعليه أصبح لزاماً نقل النقاش من مرحلة التداول في الإجراءات والمسارات المانعة للوقوع في الانهيار، إلى مرحلة نقاش الانهيار وما بعده. وهذا يعني التركيز على مسارين: المسار الأول هو مسار البحث في الإجراءات التي تحدّ من تبعات الانهيار على اللبنانيين بشكل عام، وعلى الفئات الأضعف بالأخص. والمسار الثاني هو مسار البحث في كيفية الخروج من الانهيار وما بعده، وهذا المسار يكتسب أهمية كبرى، كونه سيكون تأسيسياً يؤثّر على حياة اللبنانيين لعقود قادمة. ولكن نقاش إدارة الانهيار والخروج منه، لا يستقيم من دون تشخيص أسبابه. فالانطلاق من أن جذور الانهيار هي مشاكل حوكمة وسوء إدارة وفساد حصراً، يعني أن الاقتراحات والإجراءات التي ستخرج من هكذا نقاش ستصب في إنتاج نسخة جديدة من منظومة الاقتصاد السياسي اللبنانية - وبالتأكيد لن تساهم الاقتراحات في التخفيف من تبعات الانهيار. لأن هكذا نقاش سيتجاهل سوء تركيب منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني، وعلاقتها العضوية برأس المال الغربي. البداية الحقيقية لأي نقاش فعّال هي البحث في كيفية عكس تأثير رأس المال الغربي على الاقتصاد اللبناني، وعزل المنظومة - التي يُفترض بناؤها على أسس جديدة - عن هذا التأثير.

إيران: ثورة وإعادة توزيع
في الحقيقة، العلاقة العضوية بين رأس المال الغربي والاقتصاد السياسي ليست حكراً على لبنان. فكل اقتصادات غرب آسيا عانت، أو لا زالت تعاني، بشكل أو بآخر من آثار ارتباطها بمنظومة الاقتصاد العالمي بالأخص منذ اختراق رؤوس الأموال الفرنسية والبريطانية لأسواق المنطقة، بداية من نهايات القرن الثامن عشر. ونادرة هي محاولات فك هذه العلاقة العضوية أو على الأقل إدارتها والحد من تأثيرها. والبحث عن هذه المحاولات، في التاريخ الحديث لغرب آسيا، سيكون محصوراً في الدول التي شهدت أحداثاً ثورية حقيقيّة، خلخلت البنى السياسية والاقتصادية التي أرستها ثلاثة قرون من الانخراط في منظومة الاقتصاد العالمي. وتحديداً يجب البحث في التجربة الإيرانية، بعد الثورة الإسلامية في عام 1979.
بداية، وقبل الحديث عن الإجراءات التي اتخذت في إيران بعد الثورة، لا بد من الإيضاح بأن رأس المال الإيراني أيّام الشاه، كان كما هو رأس المال الخليجي، رأس مال غربي من فوائض بيع النفط، مما يسمح مركزُ منظومة الاقتصاد العالمي بإعادة تدويره، من خلال أطر «الدولة الوطنية». وكل ارتباطات البنى والفعاليات الاقتصادية برأس المال هذا، إنما كانت ارتباطات بمنظومة الاقتصاد العالمي . وبالرغم من أهمية تأميم الكثير من المؤسسات والشركات الخاصة التي تعمل في مجالات التعدين والثروات الوطنية، إلاّ أن قرار إنشاء المؤسسات الخيرية («بنياد» وجمعها بالفارسي «بنيادها») كان أهم من التأميم. فتأسيس هذه المنظمات الخيرية ــ وهي شبه حكومية ــ كان نتيجة مصادرة الشركات التي كانت مملوكة أصلاً للشاه والنخبة الحاكمة والرأسماليين الإيرانيين الآخرين، الذين فروا من البلاد بعد الثورة. علماً أن هذه الشركات كانت تُعدّ بالمئات، وتعمل في مختلف قطاعات الاقتصاد الإيراني. وكان إنشاء هذه المؤسسات شبه الحكومية من أولى مبادرات النظام الثوري الجديد، بداية بمرسوم من الإمام الخميني في شهر شباط/ فبراير 1979، حيث تم تأسيس واحدة من أكبر «البنيادها» في إيران - مؤسسة المستضعفين.

أهمية «البنيادها» في السياق
يشرح إنجين سونِه، أن هذه المؤسسات مكلّفة بمهمة إعادة توزيع الثروة، المنوطة عادة بالدولة. لذا لا تدفع هذه المؤسسات الضرائب، وتحصل على القروض المدعومة وتُعفى من الرسوم، بالإضافة إلى أنّها تحصل على مساهمات مباشرة من المرشد الأعلى للثورة. وفي المقابل لا تخضع «البنيادها» للرقابة الحكومية المسبقة أو اللاحقة، بالإضافة إلى أن مسؤوليها غير منتخبين أو معيّنين من سلطات منتخبة. هذه المؤسسات لا تخضع إلا إلى رقابة وسلطة المرشد الأعلى، لذا يمكن القول بأنها تقع بين الحقلين الخاص والعام.
ولكن هذا الطابع المؤسسي «للبنيادها» هو الذي مكّنها من توسيع أنشطتها، نوعاً وكماً. فإلى جانب وظائفها الرعائية الاجتماعية - مثل تحسين المستوى المادي والروحي والثقافي والمعيشي للفئات الأضعف في المجتمع - توسّع دور هذه المؤسسات ليشتمل على واجبات اقتصادية معينة إضافية. ومن هذه الواجبات مثلاً تطوير الإمكانات الاقتصادية للمؤسسات، وكذلك أداء أنشطة الإنتاج والخدمات من أجل زيادة الإنتاج الوطني وخلق الدخل وتوسيع المناخ التنافسي والمساعدة في تنفيذ أهداف وسياسات حكومة الجمهورية الإسلامية. فخلال عقد الثمانينيات، بدأ دور «البنيادها» يتطور ويتوسع تدريجياً في المجال الاقتصادي، بالأخص مع هروب رؤوس الأموال المتزايد منذ الثورة. فعملت «البنيادها» على ملء الفراغ الذي تركته رؤوس الأموال الهاربة.

النيوليبرالية ورفسنجاني وخاتمي
يعيب كل المحلّلين والأكاديميين الغربيين على هذه المؤسسات عدم شفافيتها، بالإضافة إلى حفاظها على هياكل مستقلة عن أطر الدولة - وبالأخص تلك المنتخبة. ولكن هذه المواصفات «العيوب» بالذات هي التي سمحت «للبنيادها» بالحفاظ على دورها الرعائي وتوسيعه لمجابهة امتداد تأثير رأس المال الغربي (أو هروبه). وأصبح هذا الدور غاية في الأهمية، بالأخص بعد الحرب الإيرانية ــ العراقية.
شهد عقد التسعينيات تطورات، دفعت «البنيادها»، إضافة إلى المؤسسات الإنتاجية والصناعية التابعة للحرس الثوري، نحو عملية «التسويق»، كما يصفها سونِه. وفي الواقع هذه العملية كانت عبارة عن دخول هذه المؤسسات شبه الحكومية إلى الأسواق الإيرانية بشكل موسّع، بالأخص بعد وصول الرئيس رفسنجاني إلى الحكم، وبدء تنفيذه لمخططاته النيوليبرالية. ويشرح كيفان هاريس أن برنامج الخصخصة، الذي فرضه رفسنجاني، كان قد تحوّل إلى آلية تضع الأموال والمؤسسات العامة في أيدي كبار الرأسماليين في البلاد، من كبار تجار بازار طهران. ولم تكن هذه العملية إلا نسخة عن كل المسارات النيوليبرالية في منطقة غرب آسيا، حيث تحكّمت البنى الاقتصادية والسياسية بعملية إعادة التوزيع العكسي للثروة. ولكن ما حصل في إيران هو أن المؤسسات شبه الحكومية تدخلت - عبر القوة السياسية للولي الفقيه - لفرض نمط خصخصة معاكس للمسار النيوليبرالي، تشارك هي فيه. في المحصّلة، اشترت هذه المؤسسات نصف أسهم الشركات البالغ عددها 331 شركة، والتي تمت خصخصتها، كلياً أو جزئياً، خلال الفترة بين عامي 1989 ـــ 1994.
في إيران أدت المؤسسات شبه الحكومية وظيفة ضبط إيقاع الانخراط في الاقتصاد العالمي، واستبدال رأس المال الغربي حين ينسحب من الأسواق


ومع توسع إدارة الرئيس خاتمي في استجلاب استثمارات خارجية، عبر رؤوس الأموال الغربية، تطور دور «البنيادها» والحرس الثوري. فقد أصبحت المؤسسات شبه الحكومية تلعب دور ضابط تدفق رأس المال الغربي على الأسواق الإيرانية، سواء من خلال فرض استبدال شركات أجنبية بشركات تابعة لمؤسسات الحرس الثوري، في قطاعات حيوية وذات طابع أمني حساس، أو من خلال فرض مشاركة «البنيادها» والحرس في استثمارات الشركات الأجنبية في إيران. وهذه الأخيرة تمت بفضل إعادة تفسير المادة 44 من الدستور، من قبل الإمام الخامنئي، وهي المادة التي تحدد الحدود بين قطاعات العام والخاص والتعاوني. ويشرح كافيه إحساني، أن من بين الأهداف من إعادة التفسير هذه كان توسيع الملكية بين السكان بهدف ضمان العدالة الاجتماعية المحلية وتعزيز المنافسة الاقتصادية. وتُرجمت هذه الأهداف، في بداية عهد الرئيس أحمدي نجاد، حيث خفّضت الحكومة حصتها من القطاعات غير الأساسية بنسبة 20 في المئة، وخصخصت 80 في المئة من أصولها في القطاعات الأساسية، مثل التعدين والصناعات الثقيلة والطاقة والمصارف. ولكن ما حصل هو أن الأسهم المخصخصة ذهبت بنسبة 68 في المئة على شكل «أسهم العدالة»، كما يشرح هاريس. وهذه الأسهم ذهبت إلى الإيرانيين الأكثر فقراً، توزع أرباحها عليهم «البنيادها». بينما ذهبت 12.5 في المئة من الأسهم لسداد ديون الحكومة إلى المؤسسات شبه الحكومية. فيما تم بيع 19 في المئة فقط من الأسهم في بورصة طهران. وحتى في حالة بيع الأسهم في بورصة طهران، لم يكن المستثمرون في القطاع الخاص قادرين على التنافس مع القوة الاقتصادية للمؤسسات شبه الحكومية.
وفي المحصلة كان رأس المال الغربي يجد نفسه مضطراً لمشاركة المؤسسات شبه الحكومية في الاستثمارات، بسبب القوانين التي تفرض وجود شريك إيراني في الاستثمارات الأجنبية. فالمؤسسات شبه الحكومية تحولت إلى تكتّلات اقتصادية ضخمة، تمتلك الشركات الأهم في كل القطاعات الحيوية، ولكن من دون أن تظهر على أنّها كيان واحد متصل، كما يشرح سونِه. كل هذا يعني أن حركة رأس المال (غربي أو وطني) في القطاعات وما بينها ستكون محدودة ومشروطة بإدارة المؤسسات شبه الحكومية. فأصبح انخراط الأسواق الإيرانية في الاقتصاد العالمي يتم تحت إدارة هذه المؤسسات وبشروطها. وفيما شكّلت ضابطاً لتدفق وتحرك رأس المال الغربي في إيران، لعبت دوراً أهم في مراحل العقوبات، حيث أنّها كانت الأداة الأساسية للالتفاف عليها. فتنظيم هذه المؤسسات كتكتّلات اقتصادية مقسّمة إلى عشرات الكيانات الأصغر، داخل وخارج إيران، مكّنها من تحويل الأموال من كيان إلى آخر من دون القدرة على اكتشاف المصدر الحقيقي للأموال. وبالإضافة إلى ذلك استبدلت الشركات التابعة للحرس الثوري الشركات المنسحبة من إيران بعد العقوبات.

حماية كل اللبنانيين
في المحصلة لعبت المؤسسات شبه الحكومية دوراً رئيسياً في إعادة توزيع الثروة، وهو الدور الذي لا تزال تلعبه من خلال استمرارها في تأدية دورها الرعائي الاجتماعي وتوسيعه. وفي مواجهة الموجات النيوليبرالية، كانت هذه المؤسسات الآلية الأساسية لحفظ المال العام، وضمان عدم تحويله إلى القطاع الخاص سابقاً وآنياً ومستقبلاً، بالأخص وأن سياقات السياسة الداخلية الإيرانية أثبتت وجود احتمال دائم لتأثير الفئات الرأسمالية المرتبطة برأس المال الغربي على الحكومات المتعاقبة. وهذا الدور الأخير كان المقدمة لمنع رأس المال الغربي من التسلل والتوسع أكثر في الأسواق الإيرانية، حيث أدت المؤسسات شبه الحكومية وظيفة ضبط إيقاع الانخراط في الاقتصاد العالمي، واستبدال رأس المال الغربي حين ينسحب من الأسواق الإيرانية.
لا يمكننا إسقاط نموذج المؤسسات شبه الحكومية الإيرانية على لبنان اليوم. فلبنان ليس في حالة ثورية تشبه إيران 1979، يمكن من خلالها تأميم قطاعات أساسية من الاقتصاد، أو وضع اليد على المؤسسات الخيرية وتغيير وظيفتها على غرار ما حصل مع «البنيادها». ولكن الحدث الحقيقي اليوم، ليس تأليف حكومة جديدة، بل استيراد المشتقات النفطية من إيران من خارج أطر الدولة اللبنانية، وتسويقه بأسعار أدنى من أسعار السوق اللبنانية والعالمية. فما يمكن استلهامه هو مبدأ الرعاية الاجتماعية الموازية للدولة؛ لأن الدولة في لبنان - بما هي ممثلة لمصالح النخب الاقتصادية والاجتماعية - لم ولن تعترف بهذا المبدأ، وستبقى في خدمة النخب وارتباطاتها برأس المال الغربي. ولكن نجاح مؤسسات تخدم هذا المبدأ - وهي بالضرورة تعمل على هوامش مؤسسات الدولة وبالموازاة لها - يحتاج إلى أطراف لبنانية قوية تحمي المؤسّسات وتعزّز بيئة عملها، حتى تؤدّي دورها الموازن لتأثيرات رأس المال الغربي على منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني، حتى قبل أن نتمكن من الحديث عن استبداله. النموذج البديل يبدأ من الرعاية الاجتماعية، كمبدأ يشمل حماية كل اللبنانيين من تأثيرات رأس المال الغربي على البنية الاقتصادية اللبنانية.
* كاتب لبناني

المصادر:
- «دور المنظمات شبه الحكومية وشبه العسكرية في الاقتصاد السياسي الدولي لإيران»، انجين سونِه
- «نواقل الرأسمالية الإيرانية: سياسة الخصخصة في الجمهورية الإسلامية»، كيفان هاريس في كتاب «الأعمال والسياسة في الشرق الأوسط».
- «البقاء على قيد الحياة من خلال نزع الملكية: خصخصة السلع العامة في الجمهورية الإسلامية»، كافيه إحساني
- «الملالي والحرس والبنياد»، دايفيد ثالر وعلي رضا نادر