... وهو ينظر في الأحوال المصرية قبل ثورة «يناير» بخمس سنوات استعاد تشبيهاً شهيراً لرئيس الوزراء الفرنسي «بول رينو»: «عربة فرنسا تندفع بأقصى سرعة على الطريق لكن يا إلهي نحن لا نعرف إلى أين؟!».«إلى أين نحن ذاهبون؟»، هكذا كان السؤال ملحّاً وحائراً.
«ذاهبون إلى داهية»، وهكذا جاءت إجابة الأستاذ «محمد حسنين هيكل» حاسمة ومعلنة.
كغيره فوجئ بمشاهد «يناير» الأولى. فقد «خرج الشعب كله، بأجياله وبطبقاته وبطوائفه، بل بالصبا فيه والطفولة – ملايين بعد ملايين، وكذلك فهي لأول مرة في التاريخ الحديث خروج كامل، وبالثورة الكاملة، وللشعب المصري بكامله».
استولت المشاهد الأولى بجلالها على كامل مشاعره، ورأى أن القدر أكرمه أن يعيش حتى يرى بعينيه تلك اللحظة.
رأى أمامه ما يستدعي التفاؤل في «استكمال مسيرة طويلة للشعب المصري وتتويجها من حركة أحمد عرابي –التي كانت أول تمرّد وطني على السيطرة البريطانية، إلى ثورة 1919– التي طلبت الجلاء بالمفاوضات وطالبت بدستور قبلته حتى منحه من الملك آملين في تطويره بالحوار مع القصر والإنكليز، وثورة 1952 – التي كانت ثورة قامت بها طلائع من الجيش المصري أحاطت بها وساندتها جماهير شعبه، خاضت معه تجربة ضخمة في مصر، وفي محيطها، وفي عالمها، لكنها لم تستطع تحقيق ديمقراطية كل الشعب... وظروفها عاقتها عند ثلاثة أرباع الطريق».
الحصاد لم يوافق الرهانات على «يناير» فلا هي استكملت ما قبله ولا تجاوزته ولا قدرت على منع اختطافها.
قبل أن تتكشّف الحقائق على المسرح السياسي المضطرب نظر في المستقبل وتوقّع صراعاً ضارياً عليه.
«من الطبيعي أن يكون هناك هجوم مضاد للثورة – فعلى الأرض وأمام الشباب قوى لها مطالبها، وهناك مصالح لديها ما تريده، وهناك خطايا لا يصح أن تنكشف، وتلك كلها دواعٍ تشد كثيرين إلى حلف غير مقدّس يريد أن يقمع حلماً مقدساً تتبدّى ملامحه».
بدت الصورة أمامه في الأيام الأولى لـ«يناير»، فرصة هائلة في التاريخ ومخاطر مائلة باحتمالات الإجهاض.
كانت قضيته الأولى إزاحة ركام الماضي من الطريق قبل أي قضية أخرى.
«الشرعية في هذا المنعطف التاريخي لم تعد في موقع الحكم، لأن الشعب بملايينه نزع عن الحكم مقوّمات شرعيته».
و«المأزق أن جماهير الملايين التي أمسكت بالشرعية في يدها لم تجد حتى هذه اللحظة تعبيراً سياسياً عنها يستطيع أن يتحدث من موضع ثقة».
هكذا عرض قضية «الثورة والشرعية» صباح الأربعاء (2) فبراير (2011).
كان ذلك أول مقال مباشر يكتبه منذ نحو ثماني سنوات عندما استأذن في الانصراف.
وكان أخطر ما فيه: «إن القوات المسلحة بظاهر الشكل تتلقّى الأمر من الحكم، وتلك ليست عقدة سياسية، ولكنها قضية وطن بأسره: ضميره ومصيره!!».
في صباح نفس اليوم دعا قائد عسكري بارز من الدائرة المقربة من المشير «محمد حسين طنطاوي» إلى حسم الموقف.
لم يكن المشير حتى هذه اللحظة مهيّأً لاتخاذ تلك الخطوة بإزاحة نظام «حسني مبارك»... ردّ قائلاً: «إن أحداً في العالم لن يعترف بنا».
الأهمية القصوى لما خطّه «هيكل» بقلمه صباح ذلك اليوم أنه أسّس لشرعية إطاحة نظام ثار عليه شعبه، موجهاً خطابه بصورة مباشرة إلى القوات المسلحة التي أصبح «ميزان المستقبل في يدها»، وربما أراد أن يكون صوته واصلاً إلى قائدها العام، أن يحسم أمره بالانضمام إلى شعبه مصدر الشرعية الوحيد.
«النظام انتهى وما يجري الآن يشير إلى جهالات الادعاء بما فيها استخدام الأحصنة والجمال!!»
توقّع «سؤال المشير» دون اتصال – وأجاب عليه أمام الرأي العام: «إن العالم يريد أن يلمس الحقيقة في مصر، فهو يرى حركتها، ويسمع صوتها، لكن حتى هذه اللحظة لم يستطع أن يترجم ما تطلبه، وهو في الحقيقة مع شرعية ما تمثله، ومشروعية ما تطالب به».
في البناء العام لأول مقال كتبه بعد سنوات من التوقف الاختياري أسّس لشرعية إطاحة «مبارك» بأربع نقلات.
الأولى، إسباغ صفة الثورة على أحداث «يناير»... وهذه مسألة لها ما بعدها.
والثانية، وضع الثورة الجديدة في سياق التاريخ المصري، تستكمل وتصحح لا أن تنكر ما قبلها... وكانت تلك إشارة مبكرة إلى إحدى الثغرات السياسية التي ساعدت على اختطاف «يناير».
الثالثة، التحذير المبكر من الثورة المضادة... وكانت تلك إشارة مبكرة أخرى إلى ما حدث.
الرابعة، الدخول مباشرة إلى «ما بعد مبارك» أو المستقبل وطبيعة المرحلة الجديدة... وكان ذلك جوهر اهتمام رجل يدرك بخبرته الطويلة معنى السلطة وضرورة الانتقال بوضوح في الخيارات الرئيسية.
لم يكن مقتنعاً بالفكرة التي شاعت وقتها في المجال السياسي عن «المجلس الرئاسي» كبديل ممكن واقعي.
وكان تفكيره –كرجل اقترب من صناعة القرار في عهدَي «جمال عبد الناصر» و«أنور السادات» حتى عام (1974)– أن ما تحتاج إليه مصر فترة انتقالية بضمان الجيش، وتحت حراسته دون أن يحكم أو يتحكّم في مسارها.
استبعاد الجيش وهم وحكمه رجوع إلى الخلف.
بعد تنحية «مبارك» بتسعة أيام خاض أولى معاركه لإزاحة ركام الماضي.
على شاشات التلفزيون المصري حذّر من بقاء الرئيس السابق في شرم الشيخ.
كان الكلام مدوياً بنصه ورسالته عن «مركز مناوئ للثورة».
«إن البقاء في شرم الشيخ بالذات من ضمن خطة التأمين في الدولة البوليسية، حيث تقع بعيدة عن تمركز القوات المسلحة وقريبة من إسرائيل».
في تقدير جديد للموقف المتحرك أعاد تعريف مأزق القوات المسلحة: «تحاول أن تمسك بالأمور وتحاول في الوقت نفسه ألا تظهر بأنها هي التي تحكم البلاد».
«أنا ضد أن يكون الجيش قوة سياسية، بل أريد أن يكون ضمن قوى المجتمع المصري مسؤولاً عن الأمن القومي الخارجي وحماية الشرعية الوطنية لا تولي الحكم بنفسه».
بعد تنحية «مبارك» حاور في مقر القيادة العامة للقوات المسلحة، الذي آلت إليه قيادة الأمور في البلاد، المشير «محمد حسين طنطاوي».
طلبت القيادة الجديدة الاستماع إليه، بينما كان طلبه هو أن يعرف ما يفكرون فيه وإلى أين يذهبون بالبلد.
تلخّصت كل القصة وأضيئت خفاياها في جملة كاشفة قالها «الرئيس» لـ«المشير»: «يا حسين... إما أن تحمي الشرعية أو تشيل الشيلة».
المعنى الظاهر أن «مبارك» لم يعد يعتقد أن لديه شرعية أن يأمر فيطاع، مع ذلك فهو يطلب باسم ما يفتقده أن يحمي الجيش حكمه.
لم يرد «طنطاوي» على ما طلب وسمعه دون أن يعلق.
كان ذلك معناه أن كل شيء انتهى.
في أيّ حساب تاريخي فإن ذلك الموقف كان حاسماً في إغلاق صفحة كاملة من التاريخ المصري استجابة لإرادة الرأي العام في التغيير.
وهو ما يُحسب للمشير الراحل، الذي وجد نفسه في مأزق سياسي وإنساني لم يخطر له على بال.
في تلك اللحظة اختار موقعه وتحمّل تبعاته الجسيمة.
بتعبير لـ«هيكل» عن عمق المأزق: «الشرعية انتقلت إلى القوات المسلحة التي لم تكن مستعدّة كما لم تكن مصر كلها مستعدّة للثورة».
أخذت أزمات الشرعية تتوالى، واحدة تلو أخرى، ضغوط من الداخل وضغوط من الخارج، دون أن يتبدّى مسارٌ مقنع ومتماسك، حتى وصلت السلطة إلى جماعة «الإخوان المسلمين».
في لقاء آخر ضمّهما أكد المشير: «لن أسلم السلطة للإخوان».
علّق «هيكل»: «هذا ما سمعته أيضاً من الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد».
كان قصده أن الحقائق والضغوطات قد تمضي بالحوادث في اتجاه آخر، حيث أطيح «الشاذلي» بتحريض فرنسي ودخلت الجزائر في عشرية سوداء.
حاول المشير بقدر ما يستطيع الحفاظ على القوات المسلحة في أجواء عاصفة، اضطر تحت الضغوطات أن يسلم السلطة فعلاً، لكنه تنبّأ في جلسة ضمّته إلى بعض مقرّبيه بعودة الجيش إلى الحكم بطلب شعبي خلال ستة أشهر، مقتنعاً بأن الجماعة سوف تفشل بفداحة في تجربة السلطة.
وهو ما حدث فعلاً بعد سنة، لا ستة أشهر كما توقّع، وقد نُشرت عقب إطاحة المشير تلك النبوءة التي وافقت حقائق القوة في مقال عنونته: «نبوءة المشير الأخير».
القصة الحقيقية لما جرى في مصر خلال تلك المرحلة العاصفة لم تُكتب حتى الآن ولا تكشّفت حقائق ما كان يجري ولا استُخلصت الدروس والعبر التي سمحت باختطاف ثورة «يناير».


* كاتب وصحافي مصري