الضجة الكبرى التي أحدثها المؤرّخ المتخصّص بالتاريخ القديم أحمد الدبش في نقده لمجموعة من كتبه التي كُتبت في إطار اعتبار قصص التوراة تناولت تاريخاً يهودياً في اليمن وليس في فلسطين، وهو إطار أو مدرسة أجلست في صدارتها المؤرخ اللبناني كمال صليبي والمؤرخ العراقي فاضل الربيعي والمؤرخ الفلسطيني أحمد الدبش وغيرهم.المشترك الأول بين مؤرّخي هذه المدرسة هو نفي علاقة النص التوراتي بفلسطين من جهة، والتوجه من جهة ثانية إلى تأكيده تاريخاً حدث في الأحساء (كمال صليبي)، أو اليمن (الربيعي، الدبش). وقد سعوا لإثبات ذلك من خلال تطابق أسماء وردت في التوراة مع أسماء في تلك المناطق (الأحساء أو اليمن)، وليس في فلسطين. وكان لهم في هذا النهج في قراءة التاريخ ـــ والمعتمد على اللغة والأسماء ـــ باع طويل، تمكّن من إقناع كثيرين بقوّته وصحته. سواء أكان بتبرئة فلسطين من التاريخ التوراتي أم بإنزال ذلك التاريخ خصوصاً على اليمن.
أحمد الدبش بعد سباحة «مُجهدة» «أولمبية» في ذلك البحر، تبيّن له أنّ ثمة تناقضاً صارخاً بين النفي والإثبات. فقد جاء نفي علاقة التوراة بفلسطين من خلال عدم وجود آثار مادية ملموسة (نقوش نقود، نصوص محفورة، أوانٍ، شواهد مقابر، بقايا دول وملوك إلخ) في فلسطين أو مصر أو سورية (التاريخية) أو العراق أو فارس يؤيد أو يثبت صحته، ولو قصة واحدة روتها التوراة تتعلق بفلسطين أو بما حولها. فعلم التاريخ المعتمد في كتابة تاريخ الشعوب والحضارات القديمة مصدره الأول هو الآثار والحفريات وما تُرك من نقوش مكتوبة، كما هو الحال في قبور الفراعنة أو الوثائق في العراق وفارس. وذلك وصولاً إلى أوّل مؤرخ معتمَد لتاريخ فلسطين والمنطقة في القديم. وهو نص هيرودوت الذي لم يرِد فيه ذكر لأيٍّ من قصص التوراة، بما في ذلك مملكة اليهود في فلسطين أو القدس (لها أسماء عدة في التاريخ).
من هنا لا يمكن اعتبار التوراة نصّاً تاريخياً، أو مرجعاً للتاريخ من وجهة نظر علم التاريخ، ما لم يتأكّد، ولو البعض القليل، من خلال الآثار أو المخطوطات الباقية. وهذه الحقيقة أثارت أول ما أثارت العلماء اليهود أو مناصريهم الباحثين عن الآثار (عن أثر واحد)، منذ سبعين عاماً من الحفريات الشاملة والمضنية والعاملة ليل نهار بعد قيام الكيان الصهيوني على الأرض الفلسطينية، وبالأخص في القدس وما حولها. فقد عاد هؤلاء العلماء الباحثون بخيبة أمل لا مثيل لها.
الأمر الذي اضطر معه زئيف هيرتسوغ أستاذ الآثار في جامعة تل أبيب ومدير معهد الآثار فيها (2005-2010) لكتابة مقال تحت عنوان «تفكيك أسوار أريحا» في مجلة «هآرتس» 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1999 جاء فيه: «بعد 70 عاماً من الأحفار المكثّفة في أرض إسرائيل. وجد علماء الآثار ما يلي: أعمال الآباء الأولين أسطورية. والإسرائيليون لم يسكنوا مصر. ولم يخرجوا منها. ولم يغزوا الأرض. وليس هنالك أي ذكر لإمبراطورية داود وسليمان».
لا يشكل هذا الرأي العلمي الذي عبّر عنه هيرتسوغ شذوذاً بين علماء الآثار. فهنالك عدد مقدّر من العلماء الذين وصلوا، بشكل أو بآخر، إلى هذه النتيجة العلمية، منهم مثلاً المؤرخ البريطاني كيث واتيلام «اختلاق إسرائيل القديمة: إسكات التاريخ الفلسطيني» أو شلومو ساند «اختراع الشعب اليهودي» و«اختراع أرض إسرائيل» وغيرهما. بل يمكن القول إن معارضي هذا الاتجاه من المؤرخين التوراتيين لا يملكون حجّة تستند إلى الآثار أو علم التاريخ. فكل ما في جعبتهم هو فرض التوراة كنص تاريخي تحت عباءة كونه «نصاً دينياً».
نفي أيّة علاقة بين تاريخ اليهود في فلسطين حسب التوراة، والحقائق الأثرية وعلم التاريخ، يستند إلى العلم البحت، وليس له من علاقة بالسياسة أو الأيديولوجيا، أو الرغبات


هذه الأمور باتت معروفة منذ سنين لكن إسرائيل شعب عنيد، ولا أحد يريد أن يسمع هذا (نور مصالحة: فلسطين 4000 سنة ص 47). من هنا فإنّ نفي أيّة علاقة بين ما تورده التوراة من تاريخ لليهود في فلسطين وبين الحقائق الأثرية وعلم التاريخ، هو نفي يستند إلى العلم البحت، وليس له علاقة بالسياسة أو الأيديولوجيا أو الرغبات. بل لا يستهدف المساس بالتوراة باعتبارها نصّاً دينياً من قريب أو من بعيد. بل على العكس يمكن اعتباره تحريراً لها من أن توضع أمام تحدّي علم التاريخ، والبحث عن أثر واقعي مادي لإثبات صحتها أو تعزيزها. فعندما تُعامل باعتبارها نصاً دينياً إيمانياً تعلو علواً كبيراً عن التعامل معها كنص تاريخي.
هذا النهج يقبله أو يعتمد عليه التيار الذي ينفي أي علاقة للنص التوراتي بفلسطين. ولكنه يذهب إلى اعتباره نصاً تاريخياً يمكن إثبات حصوله في الأحساء أو اليمن (خصوصاً اليمن). وهنا يتخلّى عن المصدر الأساسي لعلم التاريخ، وهو المعتمد على الآثار والوثائق الباقية والمخطوطات النقشية، الثابتة الحفظ، ليذهب إلى منهج المقارنة بين الأسماء، أو الاعتماد على الجغرافيا والمسافات، لتأكيد بعض الروايات (هذا تناقض باعتماده الرواية) فيؤكد النص التوراتي كنص تاريخي في اليمن، ولكن ليس في فلسطين.
وهنا نفهم استدراك أحمد الدبش، وبعد طول سنين، لهذا الخطأ المنهجي والعلمي، لينقده بنفي اعتبار «التوراة نصاً تاريخياً» حدث في اليمن، كما لم يحدث في فلسطين. أما اعتماد علم التاريخ الذي يستند إلى آثار وحقائق مؤكدَين يجب أن يطبّق على اليمن أيضاً. فالاعتماد على تشابه أسماء (كثير منها بعد ليّ أعناقها)، وتلاعب بلغات قديمة لإثبات التطابق بين مسميات، هو منهج لا علاقة له بعلم التاريخ. فالقول إنّ النص التوراتي حدث في اليمن بلا آثار ووثائق (حقائق) دامغة تؤيد ذلك، يشارك في الخطأ المنهجي نفسه المطبّق على فلسطين.
فعندما خرج الدبش على تلك المدرسة، لم يطلب منها غير الإتيان بإثبات مادي يقبله علم التاريخ، بأن مسرح النص التوراتي كان اليمن. وذلك كما تم التعامل معه في علاقته بفلسطين. ولكن بدلاً من ذلك ثارت عليه الضجة لتهاجمه شخصياً أو لتؤكد صحة موقفها بعيداً من مواجهة التحدي العلمي الذي طرحه أمامها. وهي ضجة تشكل شهادة له، وليس عليه، من الناحية العلمية أولاً. ناهيك ثانياً عن ما مثله موقفه من شجاعة ونزاهة في طلب الحقيقة والانحياز للعلم. وذلك بغضّ النظر عما قد يدفعه من خسائر بتخلّيه عن تلك المدرسة التي أسّس فيها رصيده كباحث ومؤرخ تاريخي مرموق.
على أن الإشكالية الحقيقية تتعلق بالموقف من التوراة: هل تُعامَل باعتبارها نصاً دينياً لا علاقة له بالتاريخ، أو باعتمادها نصاً تاريخياً يؤرخ لتاريخ حدث في فلسطين، أو عن تاريخ اليهود في فلسطين، أو ربط مصداقيتها الدينية بما نصت عليه من تاريخ في فلسطين. فعدم وجود أثر ماديّ واحد يدل على ما ورد من نص توراتي لمملكة يهودية في فلسطين، أو إشارة إلى وجودها في أي أثر مصري أو بابلي أو آشوري، يفرض على من يحرص على النص التوراتي أن يعتبره نصاً دينياً، وليس نصاً تاريخياً للقدس أو لليهود أو لفلسطين. وبهذا يجنبه التصادم مع علم التاريخ، أو وضعه تحت حكم الآثار والوثائق التاريخية.
وهذا ما يتطلب، من جهة أخرى، من مفسّري النص القرآني أن يحرروه تماماً من أي مرجعية توراتية أو ما عُرِف بالإسرائيليات. فالقصص التي وردت في القرآن إنما هي للعبرة «لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ»،«سورة يوسف، آية 111».
*كاتب وسياسي فلسطيني