أثار تراجع الباحث أحمد الدبش عن كتبه التي تناولت علاقة اليمن بقصص العهد القديم في مقالتين متتاليتين في جريدة «اﻷخبار» اللبنانيّة («عودة عن خطأ السنوات المبكرة» - «الأخبار»، 25/ 06/ 2021 – و «اليمن لم يحتضن تجربة بني إسرائيل»، 05/ 08/ 2021) قضية مهمة حول دور علم اﻵثار وأهمية المنهجية التي يتبعها الباحثون للوصول إلى نتائج منطقية، ويمكن اﻷخذ بها في أي فرضية أو نظرية حول تاريخية قصص العهد القديم.لقد شهد اليمن عدداً أقلّ من حملات التنقيب عن اﻵثار مقارنةً بدول أخرى في المنطقة، لكن رغم قلّتها فقد قدمت نتائج مهمة يمكن البناء عليها لوضع إطار عام لتاريخ اليمن القديم.
أعمدة معبد الإله القمر في سبأ قرب مأرب، وفي مقدمة الصورة لوحة أثرية معاصرة لزمن المسيح، نقش عليها دعاء الآباء كي تحمي العناية الإلهيّة أبناءهم - الصورة: ستيف رايمر، ناشيونال جيوغرافيك 1979

لم يكن الفرنسي هاليفي والنمسَوي جلازر أول من جابوا أرجاء اليمن بحثاً عن آثار في أواخر القرن الـ 19، لكنهما تمكّنا من جمع وتوثيق عدد كبير من النقوش القديمة، ولقد ذكر تقرير للمركز الفرنسي ﻷبحاث الجزيرة العربية تاريخ حملات التنقيب المختلفة التي سبقت وعاصرت الحملات الفرنسية للتنقيب عن اﻵثار في اليمن ومنها:
• البعثة الألمانية بقيادة كارل راثجينس وهيرمان فون فيسمان عام 1928
• الضابط البريطاني فيليبي عام 1936
• البعثة المصرية: أحمد فخري ومحمد توفيق في اﻷربعينيات
• البعثة الأميركية (للمؤسسة الأميركية لدراسة الإنسان) في تمنع ومأرب في مطلع الخمسينيات
• تنقيبات خبراء تابعين لمنظمة اليونيسكو (بيوتر جرازنيفيتش وباولو كوستا) وعالم الإنثروبولوجيا جوزيف شلحود في عام 1970.
• حملة الفرنسي كريستيان روبان الذي قام بأبحاث أثرية في المِعْسَال (1973م) ومأرب (1975م) والجوف (1976م)
• في عام 1971 تمّ تكليف الفرنسية جاكلين بيرين للشروع بأعمال البحث الأثري في اليمن الشمالي
• بعثة فرنسية إيطالية في تمنع عام 1989
• أنشطة استكشافية جغرافية أثرية قام بها جان فرانسوا بريتون في وادي ضرأ عام 1992
كما يذكر التقرير أن اليمن شهد عدداً من الحملات من عدة دول بين عامَي 1990 و2012 وكانت على الشكل الآتي:
• حملة إيطالية في المرتفعات في تهامة والجوف
• حملة أميركية في وادي الجوبة في مأرب وشبام وذمار
• حملتان كندية وبريطانية في تهامة
• حملة ألمانية في وادي مرخة في صرواح ومأرب ومنطقة عدن
• حملة روسية قامت بأعمال الحفر والمسح في حضرموت
شكّلت هذه الحملات سجلاً تراكمياً لدراسة التاريخ اليمني القديم، فقد سعت إلى جمع أكبر عدد من اللقى والنقوش من مختلف مناطق اليمن لتحليلها، والتعرف من خلالها إلى تطور الاستيطان البشري عبر العصور، وأنماط الزراعة والعمارة وأشكال الرَّيّ وتأثيرها على حياة السكان، ومحاولة التعرف إلى تاريخ انتقالها من مكان إلى آخر، ودراسة البقايا العضوية للتعرف إلى تطور تربية الحيوانات وأنواعها، وتقدير مساحات التجمّعات السكانية والمدن، ودراسة تطور اللغات واللهجات والكتابة من خلال دراسة النقوش والعملات، وتطور الحياة السياسية والدينية (أسماء الملوك واﻵلهة والقبائل) وتاريخ ظهور واندثار الممالك، وتحليل اللقى الفخارية وأماكن تواجدها للتعرف إلى طرق وأزمنة تطورها وانتقالها من منطقة إلى أخرى، وتحليل موجودات المقابر للتعرف إلى عادات الدفن والكثير عن حياة اليمنيين اﻷوائل، وتحليل التربة والرواسب والاستعانة بصور الأقمار الاصطناعية لدراسة تطور الزراعة والري في الوديان مثل الجوف والتعرف إلى أسباب ظهور واندثار المدن واكتشاف إن كان ذلك ﻷسباب عسكرية أم بيئية، واستخدام تقنيات متقدمة للتعرف إلى الزمن التقريبي للمواقع اﻷثرية وعمقها وعمر اللقى اﻷثرية، كما اهتمّت هذه الحملات بدراسة الفن في اليمن القديم وتمييز خصائصه حسب كل منطقة والتعرف إلى تأثير ممالك اليمن، بعضها على بعض، وخصوصية كل واحدة منها ومدى تأثّرها بحضارات المنطقة من خلال دراسة التماثيل والمجسّمات والحلي وأدوات الزينة وأغطية القبور وغيرها.
لم يعثر العلماء على أي دليل يثبت العلاقة بين اللقى اﻷثرية في فلسطين وأحداث العهد القديم


في أحد التقارير الحديثة نسبياً والصادر في كانون الأول / ديسمبر من عام 2015 تحت عنوان «رؤى في شبه الجزيرة العربية القديمة» (مجموعة المتحف الوطني للفنون الشرقية – إيطاليا) التابع لمشروع «MEDINA» والمموّل من الاتحاد اﻷوروبي، يضع الباحثون إطاراً زمنياً ﻷحداث جنوب الجزيرة العربية وفق نتائج حملات التنقيبات واللقى اﻷثرية، ويمكن تلخيصه في ما يأتي:
- أول شهادة مباشرة عن ممالك الجنوب العربي في القرن 8 ق.م
- ملك سبأ «يثع أمر وتر» شنّ حروباً على جنوب الجزيرة العربية آخر القرن 8 ق.م
- الهيمنة السياسية السبئية وظهور دول المدن في الجوف بين القرنين 8-6 ق.م
- ملك سبأ «كرب إيل وتر» شنّ حروباً على جنوب الجزيرة العربية في القرن 7 ق.م
- هيمنة معين على الجوف وطرق القوافل، والتفوّق السياسي لحضرموت وقتبان بين القرنين 6-1 ق.م
- ظهور الكيانات السياسية في المرتفعات وبداية التجارة البحرية 2 ق.م
- نهاية مملكة معين في القرن 1 ق.م
- حملة حاكم مصر الروماني «إيليوس غالوس» على اليمن عام 25 ق.م
- نهاية مملكة قتبان في القرن 2 م
- بداية التدخل الحبشي في جنوب الجزيرة العربية في القرن 3 م
- حروب بين حِمير وسبأ وحضرموت بين القرنين 2-4 م
- بداية فترة التوحيد في القرن 4 م
- حِمير تحكم جنوب الجزيرة العربية بين القرنين 4-6 م
- مجزرة مسيحيي نجران على يد يوسف بن شراحبيل «ذو نواس» 523 م
- غزو جنوب الجزيرة العربية من قبل الحبشة في القرن 6 م
يقول التقرير حول موقع اليمن الجغرافي:
«إذا بحثنا عن اليمن على الخريطة، فإن أول ما نلاحظه هو عزلته الجغرافية. فاليمن يقع في أقصى جنوب شبه الجزيرة العربية، ويحده البحر الأحمر والمحيط الهندي وصحراء لا نهاية لها أُطلق عليها «الربع الخالي». كان التحدي الذي فاز به سكان اليمن هو تعلم كيفية استغلال الأراضي الوعرة بكفاءة أكبر، والتغلّب على الصعوبات المتعلقة بموقعه الجغرافي، وتحويل نقاط الضعف إلى قوة. فعبروا بحر الرمل اللامتناهي، للوصول إلى الدولة الآشورية في بداية الألفية الأولى قبل الميلاد. وفي القرون التي اتّسمت بظهور العصر المسيحي، استخدموا البحر الأحمر والمحيط الهندي لبيع البهارات الثمينة التي جعلت اليمن يُعرف باسم «العربية السعيدة»، ليصبح جسراً بين الغرب والشرق». وهو ما يعكس حسب التقرير التأثر المتبادل بين اليمن وكثير من حضارات المنطقة.
أما سياسياً فيقول التقرير: «أشهر مملكة عربية جنوبية في أوائل الألفية الأولى كانت دون شك سبأ، وسبب شهرتها هو ملكتها الأسطورية التي من المفترض أنها زارت الملك سليمان. كانت عاصمتها مأرب مثل جميع مدن الجنوب العربي محاطة بالأسوار، واسعة مع الكثير من المعابد الرائعة. إلى الغرب من مأرب يقع وادي الجوف الخصب الذي كان مقسّماً في الأصل بين سبأ وعدد من دول المدن، والتي أصبحت في ما بعد أراضي قبائل معين. إلى الشرق من مأرب كانت هناك مملكة قتبان وإلى الشرق مملكة حضرموت. كانت أوسان واحدة من الممالك القوية الأخرى في أوائل تاريخ جنوب الجزيرة العربية، لكنّ سبأ احتلتها في بداية القرن السابع قبل الميلاد ودُمجت لاحقاً في كونفيدرالية قتبان».
وحول الحياة الدينية يقول التقرير: «سادت الوثنية حتى منتصف القرن الرابع الميلادي عندما تحوّل المَلك الحميري وابنه إلى ديانة توحيدية كانت في البداية حيادية وحكيمة ولم يتم تحديد الإله الواحد، إن كان إله إسرائيل أو الإله المسيحي، ولكنه عُرِف بـ «رب السماء» أو «رب السماء والأرض»، وبعد القرن الخامس الميلادي أصبح دين الملك أكثر ميلاً بشكل واضح تجاه اليهودية».
عندما فشلت حملات التنقيب في فلسطين في العثور على أي شيء يثبت حدوث قصص العهد القديم في فلسطين، اقترح بعض الباحثين العرب جنوب الجزيرة العربية عامة واليمن خاصة مسرحاً للأحداث الكتابية، لكن على عكس حملات التنقيب اﻷثرية، لم يكترث أصحاب هذه الفرضيات ﻷي شيء من نتائج الدراسات اﻷثرية وحملات التنقيب، وكل ما اهتموا به هو تشابه اﻷسماء، فيكفي العثور على اسم معاصر لمحلة في قرية في عزلة في مديرية في محافظة، وبعد إجراء عمليات حذف أو قلب أو استبدال على حروف الكلمة ليؤكد الباحث بشكل قطعي أن هذا الاسم يشبه اسم شخص أو اسم مكان ورد ذكره في العهد القديم قبل أكثر من 3000 سنة.
على سبيل المثال لا الحصر افترض الباحثون دون تقديم دليل واحد أن مصر الكتابية موجودة في الجزيرة العربية، فهي مصرمة في عسير، أو في السحول جنوب اليمن، أو هي دولة معين الجوف على اعتبار أن المعينيين كانوا يطلقون على مملكتهم اسم «معين مصران»، علماً بأن هذه المعلومة لا مصدر لها، وحتى المؤرخ العراقي جواد علي في كتابه «المفصل في تاريخ العرب» كان دقيقاً في انتقاء مفرداته عندما تحدث عن النقش الذي ذكر «معن مصرن» فقال: «أثارت «معن مصرن»، «معين مصران»، جدلاً شديداً بين العلماء، ولا سيما علماء التوراة، فذهب بعضهم إلى أن «مصر» «مصرايم» Mizraim الواردة في التوراة ليست مصر المعروفة التي يرونها نهر النيل، بل أريد بها «معن مصرن»، وهو موضع تمثله «معان» في الأردن في الزمن الحاضر»، وقال أيضاً: «فقيل «معين مصرن» لقربها من مصر، ولتمييزها عن «معن» أي «معين» اليمن». ولم يذكر جواد علي أبداً أن «معن مصرن» يُقصد بها مملكة معين!
إن التأريخ المنسوب نسبياً إلى قصص العهد القديم ارتبط بشخصيات ذكرتها تلك القصص وسجّلها التاريخ، فقورش ونبوخذنصر وتيغلات بلاسر ملوك دوّن التاريخ فترات حكمهم، وﻷن العهد القديم سجّل أسماء ملوك يهوذا وإسرائيل وتواريخ حكمهم وأرّخ بشكل تقريبي للفترات القديمة، فإن زمن هؤلاء الملوك يمكن وضعه في مجال زمني محدد لا يحتمل التأخير ولا التقديم إلا ضمن حيّز زمني بسيط.
وبناءً عليه فقصص اﻵباء في العهد القديم، وذهابهم وعودتهم من مصر الكتابية توضع تقريبياً بين القرنين 20-15 ق.م والخروج بين 15-13 ق.م والمملكة الموحّدة في القرن 10 ق.م وأحداث المملكة المنقسمة وسقوط إسرائيل ثم يهوذا والسبي البابلي بين 10-6 ق.م، أما أحداث المكابيين ففي القرن 2 ق.م وهكذا...
لقد حاول علماء اﻵثار في فلسطين العثور على أي دليل أثري يتقاطع مع اﻷزمنة المفترضة لهذه اﻷحداث الكتابية وأعطوا ﻷنفسهم حرية وضع هامش للخطأ بإضافة أو حذف بضع سنوات، لعل ذلك يساعد في تأويل اللقى اﻷثرية في فلسطين لتتقاطع مع أحداث العهد القديم وتثبت حدوثها في فلسطين، ورغم ذلك لم يعثروا داخل فلسطين على أي شيء.
أما ما قام به الباحثون العرب عندما أسقطوا أحداث العهد القديم على الجزيرة وعلى اليمن تحديداً، فلم يُقِم وزناً لعامل الزمن الذي يفصل التاريخ المفترض للأحداث الكتابية وتاريخ الممالك اليمنية القديمة، ولا يمكن وصف الفرق هنا بالهامش، فهو لا يُقدر بالسنوات وإنما بالمئات ويصل أحياناً إلى أكثر من 1300 سنة.
فعندما نرى أن تقارير حملات التنقيب اﻷثرية تقدّر تاريخ أوج ازدهار الدولة المعينية في القرن 4 ق.م ونقارن ذلك بالزمن المفترض لمصر الكتابية فسيكون الفارق أكثر من 1000 سنة، ولو قارنّا بين الوقت المفترض للمملكة الموحّدة في عهد داود وسليمان ويهوذا من بعدها في القرن 10 ق.م وبين ظهور التوحيد في مملكة حمير في القرن 4 الميلادي فسيكون الفارق أكثر من 1300 سنة، وعلى هذا القياس لو افترضنا تاريخية ملوك يهوذا وصدّقنا فرضية إسقاط قصص العهد القديم على اليمن القديم وجعلنا من يهوذا المملكة الحميرية، فإن القول بأن «ملوك يهوذا هم ملوك المملكة الحميرية» يشبه نسبياً القول بأن «ملوك المملكة الحميرية هم سلاطين الدولة العثمانية»!
إن أصحاب فرضيات جغرافية التوراة في الجزيرة العربية لا يملكون دليلاً أثرياً واحداً على فرضياتهم ولا يجرؤون على اﻹشارة إلى موقع أثري واحد بالبنان والقول بأنه موقع توراتي، ﻷن ذلك سيكشف خلل المنهجية وانعدام الدليل اﻷثري في فرضياتهم من جهة ومن جهة أخرى سيتسبب لهم بحرج كبير، ﻷن التعرف إلى مكان واحد سيؤدي إلى إجراء مقاربات جغرافية لاكتشاف اﻷماكن التوراتية المجاورة، سواء عبر خصائصها الجغرافية أو عبر مطابقتها مع مواقع أثرية.
حريٌّ بالباحثين الذين لا يملكون أدلة أثرية على فرضياتهم أن يحذوا حذوَ الباحث أحمد الدبش والتراجع عن كل ما نسبوه إلى جنوب الجزيرة، أو أن يثبتوا العكس بأدلة أثرية وفق منهج علمي قائم على الشك والتساؤل والعثور على أجوبة منطقية، وليس قائماً على فرضيات لا سند لها سوى تشابه اﻷسماء، وتُقدَّم للقارئ العربي وكأنّها حقائق غير قابلة للتشكيك.
* مهندس وباحث