يعتبر الكاتب الفرنسي الشهير روجيس دوبريه، مؤلف كتاب «ثورة في الثورة»، أحد المعبّرين عن حركة مناهضة الإمبريالية في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، وقد ألف كتاباً بعد ذلك بعنوان «اللاشعور السياسي» تمت ترجمته إلى العربية، وبحث فيه القوة الكامنة في المخيّلة والذاكرة الجماعية باعتبارهما مصدراً للمخزونات الإدراكية المؤثرة في التصورات السياسية للعقل الجماعي، وفي الأفكار السياسية المحددة للنخب السياسية.
وقد استعمل هذا المصطلح المفكر العربي الراحل محمد عابد الجابري في كتابه «العقل السياسي العربي»، وإن لم يصل بتطبيقاته إلى منتهاها لدراسة الحالة
العربية.
وقد وجدنا في الوضع السياسي المصري المتشعّب القائم بعد 30/ 6/ 2013 ظواهر لم نكن نجد لها تفسيراً شافياً، ونظن أن مفهوم «اللاشعور السياسي» يساعد في تقديم مثل هذا التفسير.
وأبرز هذه الظواهر اثنتان، الأولى: انتشار شعور غامض بين شرائح واسعة من الشباب، شباب ثورة يناير، وفئات من النخبة، بالخشية من «عودة» يتصورونها للحكم القائم على الدور المحوري للمؤسسة العسكرية، أو ما يسميه البعض «الحكم العسكري». ويتطرف فريق فرعي داخل هذا البعض ليشير إلى ما يسميه «حكم العسكر»! وباستبعاد بعض الفئات أو الأفراد الذين رفعوا الشعار أو الهتاف الأخير، لغرض سياسي ظرفي معلوم أو وربما يكون معلوماً، فإن من الممكن القول بأن فكرة «احتمال قيام أو عودة حكم عسكري» في مصر خلال الفترة المقبلة، تمثّل هاجساً مفهوماً، أو صورة من صور «الخشية» أو الخوف، بأبعاده السيكولوجية العميقة والمستمدة من بعض مخزونات الذاكرة الجماعية
العربية.
فبحسب ظاهر الأمور، كان للمؤسسة العسكرية دور لا ينكر داخل منظومة الحياة السياسية خلال العقود الستة الأخيرة، وإن كنا نرى أن ثورة 23 يوليو (1952 - 1970) واجهت هذه الظاهرة عن طريق الدور الاستثنائي للقيادة الكاريزماتية، إلى جانب الاحتفاظ بمكانة معينة للقوات المسلحة داخل النظام السياسي وفق قاعدة «التوازن» برغم بروز المؤسسة العسكرية لتؤدي دوراً خارج ما هو «مرسوم» لها، خلال فترة 1962 - 1967 أي منذ وقوع «الانفصال» – انفصال سوريا عن مصر بمقتضى «الجمهورية العربية المتحدة» حتى وقوع العدوان الإسرائيلي في الخامس من يونيو، وما أعقبه مباشرة من «نكسة» عسكرية
موقتة.
وبرغم قيام كل من السادات ومبارك خلال أربعين عاماً بتهميش دور المؤسسة العسكرية إلى حد بعيد، لصالح إقامة منظومة تسلطية «مدنية» تظل القوات المسلحة في خلفيتها، كحارس احتياطي متصور للنظام السياسي في مجموعه، إلا أنه قد ساد الظن بأن «العسكر» كانوا يحكمون خلال الستين عاماً الأخيرة...
وبقيت المخيّلة الجمعية والنخبوية تسحب من «اللاشعور» العمومي هواجس ومخاوف ربما تعود إلى فترات موغلة في القدم، من التاريخ المصري البعيد، وخصوصاً عبر فترات حكم الأيوبيين والمماليك والأتراك منذ انتصار العرب بقيادة صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في القرن الثاني عشر الميلادي حتى وصول «العسكري» التركي الألباني محمد علي إلى مقعد الولاية على مصر فوق أسنّة الرماح.
أما الظاهرة الثانية التي لمسنا مفاعيلها بعد الثلاثين من يونيو 2013، ولم نكن نجد لها تفسيراً شافياً، فهي سحب بعض الوقائع المعبّرة عن تراكمات تجريبية وفكرية معينة في الحياة السياسية المصرية والتي برزت بعد 30 يوينو، وجعلها معبراً إلى إدماج الدلالات المعبرة عنها في «الصورة الإدراكية» لبعض القادة، وبالتحديد القائد العام للقوات المسلحة في ذلك الوقت وحتى الانتخابات الرئاسية لعام 2014.
وعلى سبيل الإيضاح والتفصيل، فقد نظرت شرائح من النخبة بارتياب شديد إلى الدور «التعْميمي» وربما «التضليلي» نسبياً، الذي قام به قطاع من الإعلام المصري، ولا سيما بعض محطات البثّ المرئي المملوكة لأفراد من القطاع الخاص الكبير، تأييداً للوضع الجديد بعد 30 يونيو.
ونظرت هذه الشرائح من النخبة بارتياب شديد أيضاً إلى حالة «التعبئة الجماعية» للحشود أو الجماهير الواسعة في سياق حدث الثلاثين من يونيو وما بعده، فيما اعتبر حالة من حالات «الهوس» الجماعي بدلالة الحدث وبالقائد «العسكري» الذي تصّدر المشهد، سعياً إلى استدعاء ما أطلقوا عليه «البطل المخلص» على سبيل الإدانة والاستنكار، لما لا يستحق الإدانة والاستنكار بصفة «إطلاقية» أصلاً.
وهكذا تم اعتبار سلوك «الإعلام» وبعض أفراده، ومسلك الحشود، إشارتين إلى حقيقة إدراكية متعلقة بالقائد المذكور، وتم الخْصم من دون هوادة من رصيده المجمّع اتفاقاً مع «الهواجس» الإدراكية في الذاكرة «النخبوية».
ولم تكن «الهواجس» المذكورة بعيدة تماماً عن حقيقة الواقع التاريخي. فقد أدى «الإعلام» المصري خلال الأربعين عاماً السابقة على ثورة 25 يناير أدواراً غير إيجابية على العموم ، برغم دور ايجابي لا ينكر، كما كان لسلوك «الحشود» من وراء «السادات – مبارك» تعبيراً في بعض الحالات عن مفعول التعبئة غير العقلانية من جانب المنظومة التسلطية خلال حقبة 1971 -
2011.
ومن هذا كله، نجد مبرراً من «اللاشعور السياسي» وراء سلوك شرائح من النخبة المصرية اعتبرت مسلك الإعلام والجماهير نذيراً بمسلك مواز للقيادة التي برزت، وتمّ الخصم من رصيدها لهذا السبب، كما ذكرنا.
وفي مواجهة الظاهرتين آنفتي الذكر، تبقى القيادة السياسية المصرية أمام امتحان عسير: أن تتجاوز الإرث المشروع للاّشعور السياسي المصري، على المستويين الجمعي والنخبوي، وأن تنقل إلى حيّز «الشعور» من خلال الفكر والعمل – صورة ذهنية أخرى، قائمة على إدراك واع للهواجس والمخاوف المعبر عنها، باعتبارها «مشروعة» سياسياً، لا مجرّد ظواهر عصيّة على
الفهم.
ولْنُصْغِ جيداً إلى ما تأتي به الأيام المقبلة من جواب على سؤال الشعور واللاشعور في الحياة السياسية المصرية الراهنة.
* أستاذ في معهد التخطيط القومي ــ القاهرة