بينما كان الغرب الأميركي يرقص فرحاً لسقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991، إذ خرج من الساحة الدولية قطب رئيسي عاند وعرقل مشاريعه لنحو خمسة وأربعين عاماً. كانت الأفكار تتراقص متزاحمةً في عقول المفكرين، لتخرج وتتبلور نظريات في كتب تحليلية لرسم المرحلة المقبلة من مستقبل العالم. طُرحت النظريات ووُضع نقيضها لأهمية ما هو منتظر، ولعدم استيعاب ما حصل من سقوط شكّل الصدمة التي حرّكت الأفكار والمفكرين للبحث عن ما ستؤول إليه السياسة العالمية، وأي عالم ينتظرنا؟ وما هو النظام العالمي الجديد الذي تحدّث عنه الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش الأب، وأعلن أمام الكونغرس الأميركي بدايته؟ فكانت العولمة، ولكن أيّ عولمة؟ هل هي عولمة الرجل الليبرالي الأخير، أم عولمة الحضارات الصاعدة نحو العالمية؟
استفادت الولايات المتحدة من سقوط غريمها الشيوعي، فاستحكمت بالعالم وتفرّدت بقراراته لتصبح على مدى ثمانية عشر عاماً القطب الأوحد في السياسة العالمية، حتى بات للبعض أن يعتبر أن نظرية المفكر الأميركي والاقتصادي فرنسيس فوكوياما التي ذكرها في كتابه الشهير «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» الصادر عام 1992، قد انتصرت وها إن العالم يمرّ بما كان يُعرف بالقرن الأميركي.
صحيح أن فوكوياما اعتبر أن انتشار الديمقراطيات الليبرالية والرأسمالية والسوق الحرة في أنحاء العالم قد يشير إلى نقطة النهاية للتطور الاجتماعي والثقافي والسياسي للإنسان، ولكنّ هناك أحداثاً عالمية بدأت تؤرق رؤيته حول الانتصار النهائي للرجل الليبرالي. فما حدث عام 2002 من دخول الصين في منظمة التجارة العالمية، ومع نقطة التحول لروسيا الاتحادية في الحرب الروسية-الجورجية عام 2008، أيقظ الحضارات التي استفاقت على ليبرالية متوحّشة تسيّرها الفلسفة البراغماتية التي توجّه النظام الدولي على أساس الربحية والجشع والطمع، عبر احتكار لشركات متعددة الجنسية أعادت ظهور الاستعمار بمظهر جديد.
اعتبر فوكوياما في كتابه، أن الديمقراطية الليبرالية بقيمها عن الحرية، الفردية، المساواة، السيادة الشعبية، ومبادئ الليبرالية الاقتصادية، تشكّل مرحلة نهاية التطور الإيديولوجي للإنسان، وبالتالي عولمة الديمقراطية الليبرالية كصيغة نهائية للحكومة البشرية. وبالنسبة إليه، فمصطلح نهاية التاريخ لا يعني توقف الأحداث أو العالم عن الوجود، ولا أن تصبح كلّ الدولة ديمقراطية، وتنتهج النهج الحر. بل اعتبر في فكرته، أنّ التقوقع داخل فكرة أو إيديولوجية أو قومية، ورفض التلاقي مع الآخر، يؤديان حتماً إلى السقوط التلقائي والتدمير الذاتي، لأنّ العيش خارج الحرية هو شكل من أشكال الانتحار.
لم يكن فوكوياما يفكّر في مستقبل العالم وحيداً، فأستاذه صمويل هنتنغتون أثار جدلاً واسعاً عند منظّري السياسة الدولية في فكرته التي اعتُبرت بمثابة الردّ المباشر على فكرة تلميذه فرنسيس فوكوياما، إذ جادله رافضاً أن الشكل الغالب على الأنظمة حول العالم سيكون الديمقراطية الليبرالية. فقد اعتبرها هنتنغتون نظرة قاصرة ولا يمكنها أن تعيش وسط تزاحم الصراعات في العالم المعاصر.
وضع صمويل هنتنغتون وهو عالم وسياسي أميركي، كتابه «صدام الحضارات» الصادر عام 1996 في الولايات المتحدة الأميركية للتوقف والتفكير في ما ينتظر العالم والبشرية للمرحلة القادمة. ارتكزت نظريته على صراع الحضارات وإعادة تشكيل العالم بعد سقوط الإيديولوجيات.
يقرأ صمويل في نظريته أن العالم مقبل على صراعات ما بعد الحرب الباردة، حيث لن تكون بين الدول القومية، واختلافاتها السياسية والاقتصادية، بل ستكون الاختلافات الثقافية المحرك الرئيسي للنزاعات البشرية المتمثلة في الحضارات المحتملة التالية: الغربية-اللاتينية-اليابانية-الصينية-الهندية-الإسلامية-الأرثوذوكسية-الأفريقية-والبوذية.
بالنسبة إليه، فهذه المنظومة الثقافية تناقض مفهوم الدولة القومية في العالم المعاصر. لفهم الصراع الحالي والمستقبلي، يجادل هنتنغتون بأن الصعود الثقافي وليس الإيديولوجي أو القومي يجب أن يُقبل نظرياً باعتباره بؤرة الحروب القادمة. لهذا يرى صمويل أن الخصائص الثقافية لا يمكن تغييرها كالانتماءات، فبإمكان المرء أن يغير انتماءَه من شيوعي إلى ليبرالي ولكن لا يمكن للروسي أن يصبح فارسياً على صعيد المثال. فالحضارات بالنسبة إليه، ستتحرّك عالمياً، مستغلةً ضعف القيادة الأميركية، ومستفيدةً من النظام العولمي لتبسط سيطرتها عبر أدوات العولمة من شركات عملاقة، إلى وسائل إعلام لبثّ مكوّنات حضاراتها، إلى إعادة المجد لترساناتها العسكرية، بهدف التوسع والانتشار.
من ينظر إلى الصراعات القائمة اليوم في شرقنا الأوسط، أو حتى على الصعيد الدولي، يؤكّد أن الأستاذ تغلّب على تلميذه، وأنّ مهما علا شأن التلميذ لن يصل إلى مستوى معلمه. لهذا قد يعتبر قارئ الأحداث والسياسة الدولية أنّ الهنتنغتونية سائرة نحو التحقيق، بينما الفوكويامية، لن يُكتب لها النجاح سوى في مرحلة القرن الأميركي التي عاشها العالم. لكن وبهدوء، قد تكون مرحلة صراعات الحضارات اليوم، هي بداية نهايتها، ولا سيما للحضارات التي تزاحم الغرب الحرّ، بإيديولوجيات مغلقة، أو بحكم أوتوقراطي، يعتمد على القمع كي يبقى ويستمر. ولكن هل فعلاً ستستطيع مقاومة ما طُبع عليه الإنسان منذ مولده، وهي الحرية والتحرر؟ فالاتحاد السوفياتي كان النموذج، وسقط تحت أقدام الإنسانية الرافضة إلى تشييء الإنسان، أي جعله آلة إنتاجية دون مراعاة كيانه الإنساني الوجودي.
كلّ شيء متوقّع، وتبقى للأيام أن تسدل ستارة الحكم النهائي، على من هي الأرجح، فكرة الأستاذ صمويل هنتنغتون أن تلميذه فرانسيس فوكوياما، أم ستعيد الأحداث المتطورة اليوم على الساحة الدولية، زحمة الأفكار لتوليد أفكار جديدة تحاكي العصر المقبل؟
* باحث لبناني